مجلس سكينة بنت الحسين


أما حسن فسار حتى وصل إلى منزل سكينة بنت الحسين، فرأى بجانب الباب حظيرة
فيها دوابها ودواب من يقدم إليها من الوفود، لأن منزلها كان مقصد الشعراء والأدباء
وأهل الوجاهة من قريش وغيرهم. وكان حسن قد سمع جعجعة الجمال وجلبة الخدم
قبل وصوله إلى الدار فلما وصل رأى كثيرًا من الدواب وأكثرها للأضياف. ورأى بينها
جمل ليلى الأخيلية.
فلما انتهى إلى باب بستان الدار دخل ولم يستأذن، لأن الناس كانوا يدخلون منه
إلى دار الأضياف ويخرجون بلا استئذان. ومشى في باحة كبيرة رأى في بعض جوانبها
غرفًا عديدة في صف واحد عرف أنها دار الأضياف، ثم رأى في صدر البستان بيتًا
متقن البناء على بابه الخدم. فعرف أنه مسكن سكينة، فتحول إلى دار الأضياف. لعله
يرى ليلى هناك فيقيم معها ريثما تأتي سمية فتكون له وسيلة إلى مقابلتها. فبلغ دار
الأضياف والخدم يقومون بإعداد الأطعمة من الذبائح ونحوها. وقد سره اشتغالهم عنه
لكي يتمكن من البحث عن ليلى، فطاف الغرف غرفة غرفة فلم يجد أحدًا يعرفه، فظل
ماشيًا وهو يسمع ضجة من جهة مسكن سكينة بعضها من الخدم في الخارج والبعض
الآخر من الداخل. وكان يتخلل الضجة قهقهة وقوقأة مثل قوقأة الدجاج، فمشى إلى
مصدر الضحك فإذا هو في غرفة بجانب المسكن وببابها بضعة رجال لم يعرفهم، فدنا
منهم وألقى التحية فردوا السلام وأبصارهم شاخصة إلى داخل الغرفة، فأطل حسن من
فوق أكتافهم فرأى هناك رجلًا قصيرًا دميمًا، قليل اللحم، أزرق اللون، أحول البصر،
أقرع الرأس، أثط اللحية، جلس القرفصاء على أكمة من التبن وهو يحضن بيضًا
ويقوقئ كما تقوقئ الدجاجة، فاستغرب حسن ذلك ونظر إلى أحد الوقوف مستفهمًا
«؟ ألا تعرف من هذا » : فقال له الرجل الحجاج بن يوسف
«؟ لا.. ومن هو » : قال
.« أشعب الطماع الذي اتخذته سكينة بنت الحسين مضحكًا لها » : قال
أسمع اسمه وأعرف بعض أخباره المضحكة، ولكن منظره أضحك » : قال حسن
«؟ من أخباره. ما الذي أقعده هذا المقعد وهو يقوقئ كأنه يحضن بيضًا
بل هو يحضن بيضًا حقيقةً عقابًا له على ذنب ارتكبه بين يدي » : قال الرجل
سكينة مولاته، فأمرته أن يقعد على هذا البيض حتى يفقس وقد مضى عليه أيام وهو
«! على هذه الحال
فشغل حسن بذلك المنظر عن قلقه لطول انتظاره خادمه، وأراد أن يشغل نفسه
«؟ يا أشعب ما الذي أجلسك هذا المجلس » : هنيهة أخرى فقال
«؟ أجلسني إياه مولاتي سكينة، فهل فيكم من يخرجني من هذا الحبس » : قال
«؟ ومن يتوسط لك في هذا الأمر » : فقال حسن
كأني بليلى الأخيلية قد دخلت دار مولاتي اليوم، فإذا كانت هنا، فلا أرى » : قال
.« أقدر منها على إخراجي من هذا المكان
.« هان الأمر، فلك علي أن أوسط ليلى في العفو عنك » : قال حسن
ولم يتم حسن كلامه حتى سمع صوتًا يناديه، فالتفت فرأى خادمه عبد لله واقفًا على
«؟ ما وراءك » : بضع خطوات منه فقال حسن
دخلت البيت وسألت عن عرفجة فقيل لي أنه خرج في » : فدنا عبد لله منه وقال
.« الصباح ولم يعد بعد ولا يعرف أحد مقره
«؟ وسمية » : فابتدره حسن قائلًا
وسألت عن سمية فعلمت أنها ذهبت إلى سكينة من برهة قصيرة فسررت » : فقال
«؟ بذلك وأتيت لأخبرك، فهل رأيتها هنا
لم أرها ولعلها في البيت مع النساء، فكيف أصل إليها؟ بورك فيك يا عبد » : قال
.« لله، امكث أنت بالباب مع الخدم والجمل معك حتى أخرج أو أحتاج إليك في شيء
وخرج. .« سمعًا وطاعة » : قال
وعاد حسن وقد شغل عن أشعب ونجاته بالبحث عن سمية، ولما تصور أنه
سيتمكن من مقابلتها خفق قلبه. فلم ير وسيلة إلى ذلك إلا ليلى، فجاء باب القاعة التي
تستقبل سكينة فيها ضيوفها، فرأى عليه رجلًا واقفًا وقوف الحاجب فقال له حسن:
«؟ هل في مجلس بنت الحسين أحدًا »
مجلس سكينة بنت الحسين
.« إن مجلسها غاص بالناس، وفيهم جماعة من الشعراء والشاعرات » : قال الرجل
«؟ وهل فيهم ليلى الأخيلية » : قال
.« نعم » : قال
.« قل لليلى إن حسنًا بالباب يدعوك إليه » : قال
فدخل الرجل ثم عاد وليلى معه، فلما رأت حسنًا رحبت به فمشى بها إلى خلوة
.« إني مسافر الليلة وقد جئت لوداعك » : وقال لها
.« رافقتك السلامة ووفقك لله في مهمتك » : قالت
.« ولكني أعرض عليك أمرًا أرجو مساعدتك فيه الآن وهو لا يتعبك » : قال
«؟ وما هو » : قالت
«؟ أتعرفين سمية بن عرفجة » : قال
نعم وقد رأيتها من برهة وجيزة جالسة بجانب سكينة تخاطبها وسكينة » : قالت
«؟ تلاطفها لأنها تحبها كثيرًا. وأنت ما شأنك معها
«؟ شأني معها شأن الخطيب وخطيبته فهل هي لا تزال هناك » : قال
لقد سرني أنك خطبتها فإنها زينة بنات المدينة. وأظنها باقية لأني لم أرها » : قالت
خرجت. وعلى كل حال تعال معي فندخل القاعة فتمكث أنت مع الجلوس من الرجال
وأدخل أنا إلى مجلس النساء وراء الستار حيث تقيم سكينة وصاحباتها فأبحث عن
.« سمية
أرجو أن تجمعيني بها ساعة لا يرانا فيها أحد سواك، لأني خطبتها منذ » : قال
.« ثلاثة أعوام وجئت المدينة بالأمس، وها أنذا خارج الآن ولم أشاهدها أو أخاطبها
.« لك علي ذلك » : قالت
.« خير البر عاجله، فإني مسافر عند الغروب » : قال
«؟ ألا تؤجل سفرك إلى غد » : قالت
كنت أود ذلك ولكنني على موعد مع صديق لكي نسير معًا، وسيوافيني عند » : قال
وأوصيك بأشعب الطماع فإنه » : ثم غير مجرى الحديث فقال .« الغروب إلى باب المدينة
يحضن بيضًا عقابًا له على ذنب ارتكبه وقد وعدته بأن تتوسطي له لدى مولاته سكينة،
.« فلا تنسيه
قبحه لله ما أكثر مزاحه، ولكنه وافق هوى في نفس سكينة، » : فضحكت وقالت
فهي كذلك تحب المزاح، وقد تعودت معاقبته بمثل ذلك العقاب، وحضن بيضًا مرة
الحجاج بن يوسف
حتى فقس وخرجت فراريجه فملأت الدار، وهي تسميها (بنات أشعب). إني ذاهبة
وسأكلمها في شأنه. فتعال معي واجلس مع الجالسين فإذا لقيت سمية أومأت إليك
.« فتخرج
دخلت ليلى ودخل حسن في أثرها. ثم أطل على القاعة فإذا هي واسعة وقد فرشت
بالطنافس الثمينة، وحولها الوسائد المزركشة وفي صدرها ستارة عليها صور أشجار
وطيور ملونة خلفها سكينة ونساؤها بحيث ترى الضيوف ولا يرونها.
من هؤلاء » : ورأى في القاعة جماعة قد تصدرهم خمسة عليهم لباس البدو، فسألها
«؟ المتصدرون
«؟ هم الشعراء. ألا تعرف أحدًا منهم » : قالت
أظنني أعرف الجالس على الوسادة المثناة، فهو الفرزدق، وقد عرفته » : قال
«؟ بضخامة بدنه وعبوسة وجهه وغلظه أليس هو الفرزدق
نعم هو بعينه. ألا تعجب من اجتماعه هو وجرير في مجلس واحد مع ما » : قالت
«؟ اشتهر بينهما من المهاجاة
«؟ وأين جرير » : قال
هو ذاك الذي كف شعره وأدهن، ومتى تكلم سمعت لكلامه غنة يخرج » : قالت
.« بها الكلام من أنفه كأن فيه نونًا
هو كثير عزة العاشق » : قالت «؟ ومن هو الآخر القصير الدميم العظيم الهامة » : قال
.« المشهور
أعاذ لله عزة من منظره فإنه قبيح. ومن ذاك الشاب الجميل العريض » : قال
«؟ المنكبين الحسن البزة. وكأنه جالس القرفصاء
هو جميل بثينة أحد عشاق بني عذرة. ألا تراه حزينًا لما اشتهر من حبه » : قالت
«؟ لها وحرمانه لذلك منها
«؟ ومن ذلك الأسود؟ إني لأستغرب منظره، والشعراء يندرون في السود » : قال
هو نصيب الشاعر الفحل. وأما سواده فلأن أمه أمة، وهو من » : فضحكت وقالت
ثم أشارت عليه بأن يجلس على إحدى الوسائد وأن ينتظر ما يكون من شأنها .« قضاعة
مع سمية.
فجلس وهو يخاف فوات ولم يكد يستقر به المقام حتى سمع لغطًا من وراء
الستار فاستبشر وظن أن ليلى تخاطب سكينة أو سمية. ثم رأى جارية وضيئة خرجت
«؟ أيكم الفرزدق » : وقالت
وكان حسن يتوقع أن تناديه فلما سمعها تنادي الفرزدق التفت إليه فرآه يقول:
.« ها أنذا »
أنت القائل: » :
هما دلياني من ثمانين قامة ..... كما انجط باز اقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الارض قالتا ..... احي فيرجى ام قتيل نحاذره
فقلت ارفعوا الامراس لايشعروا بنا .... وافلت في اعجاز ليل أبادره
.« نعم » : قال
فأخذها .« فما دعاك إلى إفشاء السر؟ خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك » : قالت
فلما عرفها «؟ أيكم جرير » : وانصرف. ثم دخلت الجارية على مولاتها وخرجت فقالت
أنت القائل: » قالت: جرير نفسه
طرقتك صائد القلوب وليس اذا ..... حين الزيارة فارجعي بسلام
تجري السواك على اغركأنه ....برد تحدر من متون غمام
لو كان عهدك كالذي حدثتنا .....لوصلت ذاك وكان غير ذمام
اني اواصا من اردت وصاله ..... بحبال لاصلف ولا لوام
قال نعم
أفلا أخذت بيدها وقلت لها ما يقال لمثلها؟ أنت عفيف وفيك ضعف، خذ » : قالت
فأخذها وانصرف. ثم دخلت على مولاتها وخرجت وقالت: .« هذه الألف والحق بأهلك
» : قالت «؟ أيكم كثير » فلما عرفته قالت أنت القائل:

واعجبني ياعزمنك خلائق ..... كرام اذا اعد الخلائق اربعا
دنوك حتى يدفعلالجاهل الصبا ...... ودفعك اسباب المنىحين يطمع
وانك لاتدرين صبا مطاته ....أيشتد لو لاقاق او يتضرع
وانك ان واصلتعلمت بالذي .....لديك فلم يوجدلك الدهر مطمع

قال نعم
ودخلت وخرجت وقالت: .« قد ملحت وشكلت، خذ هذه الألف واذهب لأهلك » :قالت ايكم نصيب
قال نصيب انا هو
قالت انت القائل
ولولا ان يقال صبا نصيب .... لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاها .... اذا ظلمت فليش لهاانتصار

قال نعم

قالت ربيتنا صغارا ومدحتنا كبارا - خذ هذه الالف والحق باهلك فاخذها وانصرف ثم دخلت وخرجتفقالت لجميل : مولاتيتقرءك السلام وتقول لك " مازلت مشتاقة لرؤيتك
منذ سمعت قولك

الا ليت شعري هل ابيتن ليلة .... بوادي القرى اني اذا لسعيد
لكل حخديث بينهن بشاشة .... وكل شهيد عندهن شهيد
ذها .« فجعلت حديثنا بشاشة وقتلانا شهداء خذ هذه الألف دينار والحق بأهلك
وانصرف.
وكان حسن ينظر ويسمع ولا يستغرب مثل ذلك المجلس، لأن اهتمام النساء
بالشعر والأدب وجلوسهن لمثل تلك المطارحة كان شائعًا في تلك الأيام ونبغ من النساء
شاعرات ماهرات منهن ليلى الأخيلية وغيرها. ولكنه استغرب اهتمام سكينة على رفعة
مقامها بمباحثة الشعراء فيما قالوه ونظموه. وكان يسمع ويرى وهو قلق البال لتأخر
ليلى عنه ولم يكن يدري كيف يدعوها أو يستعجلها فرأى أن يسمعها صوته، وكان
قد لاحظ وجود صور للطير والأشجار على الستار الحاجز بين مجلسي الرجال والنساء،
كما لاحظ وجود أمثالها على الوسائد، فرأى أن يتخذ من ذلك موضوعًا لإسماع ليلى
صوته. وما كادت الجارية تفرغ من مخاطبة الشعراء وتهم بالدخول بعد أن انصرفوا،
. حتى استوقفها وقال« تمهلي يا بنية » :

باحثت هؤلاء الشعراء وأفحمتهم فانصرفوا » : فوقفت والتفتت إليه فقال لها
«؟ فهل أسألك سؤالًا
.« قل ما تشاء » : قالت
أرى على ستاركم صورًا وقد قال رسول لله (صلى الله عليه وسلم): (أشد الناس عذابًا يوم » : قال
«؟..( القيامة المصورون
وما » : فأشارت الجارية إليه أن يتمهل ودخلت إلى سيدتها، ثم عادت إليه وقالت له
«؟ يضرنا وما نحن من المصورين
ولكنكم اتخذتم تلك الصور أستارًا. ولو كانت تلك صور أشجار فقط » : قال
لهان أمرها، ولكنها صور لذوات أرواح، وفي الحديث (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه
.«..( الصورة
لا تنس تتمة الحديث (إلا رقمًا » : وهنا سمع صوتًا جهوريًا من وراء الستار يقول
فأدرك أن ليلى هي المتكلمة، وسكت بينما عادت الجارية إلى مجلس النساء .«( في ثوب
ولبث هو على مثل الجمر لا يدري ماذا يصنع، والتفت نحو نافذة عالية فرأى الشمس
قد مالت إلى الغروب فازداد قلقه وخشي أن يطول انتظار صاحبه سليمان بباب المدينة.
وبينما هو يفكر في ذلك إذ سمع لغطًا وراء الستار أعقبه ضحك كثير وصوت يقول:
فأدرك أن سكينة .« قد أطلقنا سراحه اذهبي يا بنانة وأخرجيه، قبحه لله ما أخبثه »
هي المتكلمة، ولكنه ظنها تريد إخراجه هو فاضطرب. ثم ما لبث أن رأى ليلى خارجة
وهي تشير إليه أن يتبعها، فسار في أثرها حتى خرجا من القاعة فدنت منه وقالت:
لا تخف إنها لم تأمر بإخراجك ولكنها أمرت بإخراج أشعب الطماع لأني أوصيتها به »
.« عملًا بإشارتك
.« بورك فيك، ولكن أين سمية » : فقال
.« ليست هنا، كانت في المجلس وخرجت قبل أن أراك » : قالت
«؟ هل أنت على يقين مما تقولين » : فاستعاذ حسن بالله وانقبضت نفسه ثم قال
لقد تحققت خروجها فلعلها خرجت إلى بيت أبيها لأنها لا تستطيع الغياب » : قالت
.« طويلًا عنه
وفيما هما يتكلمان رأيا أشعب مهرولًا نحوهما، فلما بلغ مكانهما هم بتقبيل يد
حسن وقال جزاك لله عني خيرًا فقد أنقذتني من عذاب طويل لأن البيض لم يكن
ليفقس قبل بضعة أيام، فأسأل لله تعالى أن يقدرني على مكافأتك. هل أستطيع خدمتك
«؟ في شيء
ثم التفت إلى ليلى كأنه يريد .« إني لم أفعل ما يستحق هذا الثناء » : قال حسن
أستودعك لله يا ليلى، وأرجو » : الرجوع إلى الموضوع، فتنحى أشعب قليلًا وقال حسن
.« أسأل لله لك السلامة والنجاح » : فقالت .« أن أراك في خير
وعجل حسن بالخروج لعله يلقى سمية في الطريق أو في البيت أو في مكان آخر.
فلما خرج وجد خادمه عبد لله في انتظاره ومعه الجمل، فركب والشمس قد أذنت
بالمغيب وبان الشفق الأحمر، ومازال يحث جمله حتى بلغ بيت عرفجة فأحس بشيء
استوقفه بغتة وما هو إلا عامل الحب أوقفه بجانب منزل الحبيب. فلم يتمالك أن نادى
«؟ هل أسأل عن سمية فلعلها عادت » : عبد لله، فجاء هذا ووقف بين يديه وهو يقول
فأعجب حسن بنباهته ودقة شعوره، وابتسم ولم يجب، فأسرع عبد لله إلى البيت
.« إنها لم تعد يا سيدي » : ثم عاد وهو يقول
فتنهد حسن، وخيل إليه أن سمية باقية هناك في بيت سكينة ولكن ليلى لم ترها،
أو أنها رأتها وأخفت أمرها. وتكاثرت عليه الهموم وتراكمت الظنون — والمحب سيء
الظن كلما اشتد حبه كثرت هواجسه وزاد سوء ظنه بحبيبته وأكثره من قبل الغفلة،
فإذا رأى حبيبه يخاطب أحدًا مهما يكن من شأنه أو مقامه أو قرابته تبادر إلى ذهنه
أنه يغازله أو يسر إليه أمرًا، وإذا أبطأ عليه بالزيارة سبق إلى فهمه أنه في موعد مع
آخر أو لا يحبه أو يحب سواه. وقد يخيل له أن أهل الحبيب كلهم ضده وأنهم يمنعونه
منه فإذا تخاطبوا همسًا أو قصروا معه في شأن خيل له أنهم يريدون به سوءًا أو هم
ينصبون له أحبولة فالمحب كثير الهواجس سيء الظنون.
فلا تلم حسنًا إذا أساء الظن بليلى وحسبها تآمرت على إخفاء سمية عنه. وقضى
برهة في مثل هذه الهواجس وهو على جمله، ثم انتبه فإذا بالظلام يتكاثف وتذكر
صديقه سليمان فأجفل وشق عليه تأخره عن الموعد مع ما أبداه الرجل من الرغبة في
مرافقته وبالغ في إكرامه والتقرب منه، فاستحث جمله وطلب باب المدينة وقد يئس من
مشاهدة سمية، وإن علل نفسه بلقائها عند رجوعه من مكة.