بقلم :عباس خضير حسين المسعودي

فنان من مدينتي ..المرحوم الدكتور عبد الصاحب نعمه do.php?imgf=14774209

عبد الصاحب نعمة، صاحب الضحكة المجلجلة، الممثل المسرحي والتلفزيوني المقل جداً، والأكاديمي الذي ظل طالباً حتى سنوات قليلة قريبة، كان يغالب الدمار الذي من حوله، دمار بالوراثة بعد عقود من الديكتاتورية البغيضة، ولم تجد فلول الإرهاب الوافد وقطعان التخلف مناسبة أكبر من مناسبة الحرية في العراق لمحاولة وأدها وذبحها من الوريد للوريد في شوارع مدينة السلام بغداد أو المدن الأخرى، ومنها بالطبع الاسكندريه ، تلك المدينة التي ولد نعمة فيها وكبر.
ظل عبد الصاحب نعمة مليئاً بالحيوية حتى وهو ينظر إلى أفواج التخلف تصعد إلى خشبات المسارح العراقية بوصف أبطالها نجوماً للموجة الجديدة، موجة تخريب الذوق العام المدعومة جيداً ومن أعلى المستويات، فكان الحصن الأكاديمي قلعة لمت عندها عدداً من الوجوه المسرحية الجادة بالرغم من أن هذه القلعة ذاتها كانت قد عصفت بها أفواج التخلف على شكل طلاب جاه وما شابه.
والحديث يقود إلى الذاكرة مباشرة، ومن ذلك الحوار الطويل الذي أجري معه في العاصمة الأردنية عمان في العام 2000، ونشر في واحدة من صحف لندن، كان عبد الصاحب نعمة في الحوار ميالاً للحديث عن فن الممثل بصورة علمية تعيد الإعتبار لهذه المهنة المقدسة التي لم تسلم من اللصوص والغرباء، وكان حواراً طويلاً ليس عندي شك في أن الراحل قد فرح به كثيراً حين عودته إلى بغداد. ومن أجواء ذاك الحوار أستعيد إجابة ذكية له ومليئة بالمعرفة حول سؤال عن حال المسرح في العراق في تسعينيات القرن الماضي، فقال:
لا يمكن بأي شكل من الأشكال عزل الظاهرة عن الواقع، فالجوع من شأنه أن يفتح مجاهيل لا يمكن تبصرها وقيادتها، وانزياحات البشر نحو ممارسات في أحسن أحوالها لا آدمية، وهكذا تتسوف الحياة مع تسوف البشر ولابد أن يترك ذلك أثره على الظاهرة المسرحية، عندما يجد المرء نفسه في غربة عن المتعة والترويح الروحي، فإنه يلجأ وبدون تفكير منه إلى ظواهر شاذة ومنحرفة من شأنها أن تنحرف بحركة المجتمع نحو واقع سيء، وما المسرحية الاستهلاكية إلا مثالاً ناضجاً على هذا المنطق، فجمهرة المسرحية الاستهلاكية تعاني إزدواجية داخلية هائلة، فهي تهيء رواجاً كبيراً لهذا المشروع وفي نفس الوقت تنتقده بشدة، وذلك دون موقف رادع منها، وهذا في تقديري لأن المسرحية الاستهلاكية تهيء ترفاً فكرياً وحياتياً للذين تعودو وتوروطوا في ترف سافل من قبل القائم على التجربة ومتلقي التجربة على حد سواء، فالمتاجرة بأذواق البشر هو أكثر قسوة من الحرب التدميرية النووية، لا سيما ونحن نسعى بكل ثقلنا وجهدنا وجهودنا أن نبني إنساناً بفضاءات خيرة ولا ترتبط المسرحية الاستهلاكية اطلاقاً ببنية الثقافة العراقية التي هي معمار متجذر في عمق السلالات والحضارات ولا يمكن أن يهزها أي جوع أو قمع، فلا زالت البنية الثقافية في العراق داخلاً وخارجاً تقود حياة المجتمع، وليس هنالك من شك في أن العقل العراقي هو عقل تركيبي جدلي مؤسس على تكوين حضاري يمتد من التكوين البشري الأول.
آخر أدوار عبد الصاحب نعمة المسرحية كان في تمثيله شخصية طاغية العصور ماكبث، والتي أخرجها الفنان القدير صلاح القصب وقدمت في العام 2001 في حدائق مبنى الأكاديمية في الوزيرية، كان العرض بشهادة نقاده، محاولة جريئة أخرى من قبل القصب وفريق عمله(مثل شخصية الليدي ماكبث الفنانة القديرة عواطف نعيم) لكسر فخامة الطابع الشكسبيري لصالح انتاج عرض مليء بالمحمولات الدلالية التي يمكن إسقاطها على طاغية العصر الحديث في العراق، وقد نجح العرض فنياً وانتشى عبد الصاحب نعمة. لقد كان عرض ماكبث مسك ختام مناسب لحياة فيها الكثير من الآلام والأفراح لرجل مسرح أحببناه، بل أحببنا فيه إخلاصه لمسرح عراقي أصيل وصادق وحقيقي.