الدولة التيمورية

.............

أولًا:

الحياة الفكرية في الدولة التيمورية:

كان تيمورلنك (771 - 807هـ / 1370 - 1405م) رجلا واسع المعرفة، يتقن التحدث بلغات ثلاث هى: "التركية"، و"الفارسية"، و"المغولية"، محبا للأطباء والفلكيين، وكذا الفقهاء، وقد جمع الفنيين وأصحاب الحرف من كل أطراف الدنيا فى عاصمته سمرقند، وكانت حياة المحاربين وأخبار الحروب وتواريخها من أحب المعارف التى يسعى إلى معرفتها، والقراءة فى الكتب التى تناولتها.

هراة .. المركز الفكري والثقافي:

ولم يشهد العهد التيمورى ازدهارًا فى مناحى الحياة كافة مثلما حدث فى عصر شاه رخ (807 - 850هـ / 1405 - 1447م)؛ الذى يعد من أكثر حكام "إيران" ثقافة وذكاءً ومعرفة. وقد تركزت الحياة الفكرية في هرات في عهد شاه رخ، فقد جعل من "هراة" مركزًا ثقافيا لأواسط آسيا، وفي سمرقند في ظل ولده أولغ بك. وساعد على هذا النشاط أن كلا الحاكمين كان مثقفًا. فكان شاه رخ شاعرًا، ومارس ابنه البحث العلمي بنفسه، فضلًا عن أن كلًا منهما حكم مدة طويلة، والتفّت حولهما حاشية مثقفة نشيطة.

وبفضل أعمال شاه رخ تحولت مدينة هراة إلى مركز نهضة فكرية للحضارة الفارسية الإسلامية في موقع متقدم في قلب آسيا. فأسس فيها مكتبة، وأرسل يجمع لها الكتب، وعاش في كنفه عدد من الشعراء والعلماء منهم الشاعر "سيدي أحمد بن ميرانشاه (حفيد تيمور) الذي نظم له مصنفًا شعريًا بالفارسية دعاه "تعشق نامة" سنة (829هـ / 1426م). ومنهم المؤرخ "حافظ آبرد" (ت822هـ / 1419م) والذي كتب بتشجيع من شاه رخ نفسه كتابه التاريخي الموسوعي "مجمع التواريخ"، وكان من ندمائه "شرف الدين علي يزدي" (ت 858هـ / 1454م) مؤلف كتاب "ظفر نامة" الذي يعد أوسع مؤلف عن تاريخ تيمور.

سمرقند مركز إشعاع حضاري:

أما في سمرقند فقد شغل المفكرون بالموازنة بين الثقافتين الفارسية القديمة والتركية الناشئة، وقد حرص أولغ بك (850 - 853هـ / 1447م - 1449م) خلال مدة حكمه القصيرة على رعاية الفنون والآداب الفارسية. وعلى الرغم من أن ألغ بك كان يعتز بتركيته، فقد أخذ من الثقافة الفارسية أكثر مما أخذ جده تيمور.

وكانت مناقشاته مع العلماء باللغة الفارسية. وصرف أولغ بيك جهده للاهتمام بالعلوم ذات الصفة العالمية التي تؤدي إلى رقي الإنسانية وإغناء الفكر البشري. أسس ألغ بك مدرستين في بخارى وسمرقند. وكتب على باب مدرسة بخارى "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة".

ودُرّسَت في هاتين المدرستين علوم الدين والهيئة (الفلك)، ووفد إليها من إيران العلماء والطلاب للتدريس والدراسة. ودفع ألغ بك ولعُه بعلم الفلك إلى بناء مرصد شمال سمرقند 825هـ / 1422م، ظلت آثاره ماثلة للعيان حتى وقت قريب، وشارك بنفسه العلماء والطلاب في البحث في هذا العلم.

ووضعت في عهده جداول الأزياج، وفهارس الكواكب؛ وحصيلة ما توصل إليه علم الفلك في عصره، قبل اختراع المنظار الفلكي. وقد طبعت جداول ألغ بك الفلكية في إنجلترا سنة 1076هـ / 1665م، وتداولها الناس في أوربا حتى آخر القرن السابع عشر الميلادي. وقد توقف النشاط الحضاري في سمرقند لاضطراب الحالة السياسية فيها بعد وفاة ألغ بك وبجدَّة النزاع بين أولاد أبي سعيد بن محمد بن ميران شاه (855 - 873هـ / 1451 - 1469م).

ولكن هذا النشاط عاد ثانية إلى هرات في زمن السلطان حسين بايقرا (873 - 911هـ / 1469 - 1506م)، حيث أسس مكتبة، وبنى مدرسة كبيرة، وتميّز النشاط الفكري في عصره بازدهار قرض الشعر بالتركية الجغتائية، على الرغم من قلة العنصر التركي في التركيب الشعبي المحلي.

وكان من طلائع شعراء التركية الجغتائية "مير علي شيرنوائي" الذي استدعاه من سمرقند السلطان حسين، إذ كانا زميلي دراسة، وكلّفه مهمة حامل الأختام، وكان ينادى بالوزير.

ونظم شيرنوائي أشعارًا وفق نظام "المثنوي" المعروف، في الأدب الفارسي. ووضع مؤلفات بالتركية في التاريخ والأدب، وترجم لغيره من الشعراء الأتراك. وتعدُّ كتاباته اليوم من الأدب التراثي في التركية الجغتائية.

ويعد "شمس الدين محمد حافظ الشيرازى" ألمع شخصية أدبية عرفها العصر التيمورى، ويمثل شعره ازدهارًا للحركة الثقافية فى هذا العصر، وقد توفى فى سنة (792هـ / 1389م).

وكان من أصدقاء شيرنوائي الشاعر الفارسي عبد الرحمن جامي (ت 898هـ / 1493م) من أبرز العلماء والشعراء فى هذا العصر، إذ ألف ستة وأربعين كتابًا فى مختلف فروع العلم ووضع كتبًا كثيرة في الفارسية والعربية، تناولت النحو العربي والتفسير والتصوف والشعر. ثم يأتى "نظام الدين الشامى"، صاحب كتاب "ظفرنامة"، الذى يعد سجلا لفتوحات "تيمورلنك".

وعاش في بلاط السلطان حسين المؤرخان الفارسيان ميرخوند (ت 903هـ / 1497م) وحفيده خوندمير (ت 924هـ / 1518م).

ثانيًا:

الحضارة العمرانية عهد الدولة التيمورية:

مدرسة بيبي خاتون:

شيد "تيمورلنك" حضارة عظيمة فى بلاده، وأقام بها المنشآت الشامخة، ولعل المدرسة الدينية الكبيرة التى بناها لزوجته الصينية "بيبى خاتون" خير دليل على عظمة حضارة "الدولة التيمورية" فى عهده، فهى تحفة فنية مكونة من أربعة إيوانات، وفى وسطها فناء واسع، تحيط به عقود ذات قباب، على رأس كل منها منارة، وتعد المقبرة التى بناها لنفسه آية من آيات البناء، ومثالا لسمات المعمار فى العصر التيمورى.

مسجد جوهر شاد:

واستمر نشاط حركة البناء في عهد شاه رخ بإشراف زوجته "جوهر شاد" التي أمرت، بإشراف المهندس قوام الدين الشيرازي، ببناء مسجد على قبر الإمام علي الرضا في مدينة مشهد. وزُيِّنت جدران المسجد بزخارف الفسيفساء والقاشاني البرّاقة.

ومن هنا فيعد مسجد "جوهر شاد" بمدينة مشهد من أبرز إنجازات هذا العصر، وظل العمل فى بنائه اثنى عشر عامًا فى الفترة (808 - 820هـ / 1405 - 1417م). وابتنت "جوهر شاد" مدرسة كبيرة وجامعًا، بُني في كل زاوية من زواياه الأربع مئذنة. وأخيرًا أقامت "جوهر شاد" مدفنًا لها في هرات.

وأما ألغ بك، فكان ما أشاده من أبنية يحاكي أبنية جده، ولكن يتميز منه في المتانة، ودقة الأبعاد، وروعة المنظر، ويرجع إلى عهده بناء عدد كبير من المساجد والربط. وأهم مبانيه مدرستاه في بخارى وسمرقند. وكذلك بنى المعمارى "قوام الدين الشيرازى" مدرسة كبيرة -بتكليف من شاهرخ- بمنطقة "خركرد" التى تقع إلى الغرب من"هراة"، وتقع حاليا فى شرقى "إيران".

ثالثًا:

النهضة الفنية في الدولة التيمورية:

أسهم تيمورلنك في النهضة الفنية التي تابعت ازدهارها في عهود أبنائه. فكان قد استقدم معه إلى بلاده -في الحروب التي خاضها- أعدادًا كبيرة من أرباب الحرف والفنون والهندسة والعمارة، من دمشق وبغداد وخوارزم، وحملت جيوشه الحجارة والأعمدة والرخام من بقايا الأبنية التي هدّمت.

وتوضحت منذ ذلك الوقت خصائص المدرسة التيمورية في البناء، التي تظهر في ضخامة الأبنية وارتفاعها، لإظهار عظمة الدولة وتقليد الأساليب الفارسية واقتباس الزخارف الصينية، وأخيرًا في تقليد مخيمات الأتراك في بناء القصور واستخدام الألوان المتعددة الصارخة التي تستهوي، عادة، الشعوب البدوية في تزيين الأبنية من الداخل والخارج.

وارتقى في عهد التيموريين فنا الرسم والتخطيط. فقد احتاج شاه رخ إلى عدد من النُسَّاخ لمكتبته في هرات، فأسس ابنه باي سنقر في العاصمة معهدًا لفنون الكتاب، كان يعمل فيه أربعون فنانًا بين ناسخ ومصور ومجلد ومذهِّب، وغدا فن المنمنمات وما يلحق به من الميزات الفنية في عصر التيموريين.

وأضحى فن التخطيط أيضًا من سمات المدرسة الفنية التيمورية في هرات. واشتهر من الخطاطين جعفر التبريزي الذي عمل في معهد باي سنقر الفني. وابتكر الخطاط مير علي التبريزي، الذي عاش في عصر السلطان حسين، أسلوبًا جديدًا في الخط العربي هو أسلوب "النستعليق" الذي جمع بين أسلوبي "النسخ" والتعليق"، وبلغ خط "النستعليق" غاية الإتقان على يد الخطاط سلطان علي المشهدي (919هـ / 1513م).

أما فن التصوير فقد حقق رقيًا أكبر في هرات في أيام السلطان حسين بايقرا ووزيره مير علي شرنوائي. وازدهر التصوير في الوقت نفسه، في شيراز، حيث وضع فيها صور لمخطوطات دواوين الشعر العاطفي للشعراء الفرس.

ويلاحظ في صور المدرسة التيمورية اندماج الأساليب الفنية للمدرسة العباسية، والمدرستين الفارسية والصينية في رسم الأشخاص، والاعتناء بدقة التفصيلات مع خلفية طبيعية ملوَّنة، وتمتاز هذه الصور بالواقعية والحيوية.
الدولة التيمورية 0006[1].gif