بعد حياة زوجية مليئة بالمعاناة للطرفين، طلقت منال من زوجها منذ أربع سنوات، وخرجت من العلاقة بخسائر كثيرة ومشتيمهب واحد، هو ابنها الذي كان عمره يومها ثلاث سنوات. تزوجت من رجل آخر منذ عام والآن هي حامل في الشهر الثامن. خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الطلاق، لم يحاول الأب السؤال عن ابنه أو الاطمئنان عليه هاتفيًا إلا مرات قليلة حيث كانت الأم هي المبادرة بالاتصال بعد إلحاح من ابنها على رؤية أبيه والخروج معه، ولما كان اتصالها بزوجها السابق يسبب لها حرجًا كبيرًا لطريقة تعامله الحاد معها دون مراعاة لأي اعتبارات، اشترت لابنها هاتفًا نقالاً له وحده حتى يتمكن من محادثة أبيه. لم يختلف الأمر كثيرًا، فالأب دائمًا مشغول بعمله وطموحاته، لا يسأل عن أحوال ابنه، أو تعليمه، ولم يفكر بزيارته أو الخروج معه للتنزه إلا إذا ألح عليه الولد، بدت على الطفل أعراض الاضطراب النفسي مثل التبول اللاإرادي، والبكاء دون سبب، والفزع الليلي.

تقول منال: زوجي الجديد يحب الطفل جدًا ويحاول دائمًا التقرب منه والخروج معه واحتواءه.. وحتى أكون صادقة، لم أكن أتخيل أن زوجي سيتآلف ويقترب من ابني إلى هذا الحد، أما الولد، فقد تحسن نوعاً ما بعد زواجي وينتظر أخاه الجديد بفرح ودائما يحدثني أنه سعيد لأن له أسرة كباقي زملائه، لكنه مازال بين الحين والآخر يتذكر أباه ويبكي بألم ويود لو يلتقي به، فهو لم يره خلال أربعة أعوام إلا ثلاث مرات فقط لفترة لا تزيد عن يومين أو ثلاثة إذا سمحت ظروفه، ونادرًا ما يتصل به.
حدثني ابني أخيرًا أنه يود أن ينادي زوجي "بابا" لكنه يشعر بالحرج، فقلت له: سمه ما تشاء، وافعل ما تشعر فيه بالراحة. ازداد ألمي حين ناداه أول مرة "بابا" فظل يبكي لساعات.. وما زال مرتبكًا في هذا الجانب خصوصًا عندما يسأله زملاؤه في المدرسة "أين أبوك؟" وأحيانا يلح في الاتصال بالأب، وأحيانا يرفض الرد عليه إذا صادف واتصل به. كلمت أحد الأقارب لكي يتحدث مع الأب حتى يأتي ليرى ابنه، لكنه اعتذر لكونه مشغولا جدا ويحضر للسفر. فقدت قدرتي على الاحتمال ولا أعرف ماذا أفعل مع ابني.

أب مع إيقاف التنفيذ

ترتعد الروح حين تئن قلوب الأطفال بالشكوى، وتحتار عيونهم بحثاً عن أب غاب في عتمة الصمت، ونسي متعمداً أن له أبناء يتجرعون مرارة الفقد يومياً، ويرتمون في أحضان أب آخر جاد به القدر عليهم بعدما رحل ذلك الرجل الذي لا يرتبطون به إلا بورقة تسمى "شهادة الميلاد" تركها لتذكرهم بأن هناك إنسانًا أنانيًا يسكن على الطرف الآخر من العالم يتوحد مع نفسه وطموحاته وأحلامه، ضاربًا عرض الحائط بمشاعر آخرين يتلهفون إلى اللقاء، ويتشوقون إلى الرؤية، وتهفو أسماعهم لكلمة عبر الهاتف.. لكن لا يجدون إلا الفراغ، ولا يسمعون إلا صرير الوحدة، بعدما بيعوا بثمن رخيص.

إن الأب الحقيقي لا ينتظر أن يذكره أحد أن له ابناً يستحق رعايته واهتمامه.. لا يترك ابنه لرجل غيره يرسي قوانينه وثقافته التربوية الخاصة به حتى وإن كانت ثقافة جيدة وقوانين أخلاقية ممتازة، لأن فكرة التربية تكمن في التواصل الروحي لا في الصفات الوراثية والجينية التي يلقيها الأب ثم يرحل بعيدا.

كثيرون لا يقدرون نعمة الأطفال ويجهلون أهمية احتضانهم مادياً ومعنويا ونفسياً، وأن ذلك هو ما يخلق رابطة الأبوة، ويملي على الابن احترام أبيه ومحبته وبره عند الكبر.. إن المحبة لا تُخلق جزافاً أو بمحض الصدفة داخل قلوب أبنائنا، ولا تصنع بالجفاء ونكران الأبناء.
إن حقوقنا على أبنائنا تسقط حين لا نقوم بأدوارنا تجاههم، ويترك أمر مودتهم لنا إلى تكوينهم الشخصي، فلا أحد يستطيع مطالبة بأب حرمه من أدنى حقوقه، من رؤيته والاحتماء به والاعتناء بأموره. طالما أن الأب لا يستمع لنداء ابنه أو آخرين يحاولون التوسط لخلق حالة من التواصل الإيجابي بينهما، اتركيه، وحاولي وزوجك الجديد إكمال المشوار ومحاولة تعويضه قدر الإمكان، وربما حين يأتي أخ له يشعر أكثر بالانتماء للأسرة الجديدة، ووقتها قد لا يشعر بالارتباك بأن ينادي زوجك "بابا"، الأمر الذي يهون عليه كثيرا هجر الأب الحقيقي، ومن جانبك حاولي التقريب بينه وبين زوجك وساعديه على فهم العلاقة بشكل حميم، فهو في الواقع الفعلي أب له، يرعاه ويهتم به.

ساعديه على أن يتفوق في دراسته ويثق أكثر في قدراته. اعرضيه على معالج نفسي يساعدك في خفض القلق لديه، والتخلص من التبول اللاإرادي، ومع مرور الوقت سيندمج مع الوضع القائم خصوصاً مع معاملة زوجك الحسنة له.