مكعب ثلج do.php?img=12475


مكعب ثلج
بقلم إيمان منتصر
صديقي العزيز: ..
أكتب لك من تلك الأرض البعيدة التي اخترتها لتكون مقر عملي الجديدة، بعد أن غادرتك وغادرت وطني وأهلي، وكلي سعادة لأني سأبدأ حياتي العملية والحقيقية، وسأبدأ في جني الأموال، لأطارد أحلامي التي طاردتني، وجعلتني أركب تلك الطائرة، التي أبعدتكم عني ، وابعدتني عنكم ، لأخبرك شيء واحد..
أنا لست سعيدة ..
نعم يا صديقي، لقد نجحت في عملي، وحققت ذاتي، وكل ما حلمت به يتحقق أو في سبيله لهذا، ولكنني لست سعيدة..
فأنا أدفع من عمري مقابل كل خطوة أخطوها للأمام ..
أدفع من دمائي وأعصابي، وحياتي الشخصية التي تلاشت في دوامة العمل والطموح، لدرجة أني استيقظت من النوم اليوم، لأدرك أن خمس سنوات مرت علي دون أن أشعر، وأن خمس سنوات أخري قد تمضي دون أشعر، بل وباقي العمر..
وأنا لست سعيدة بهذا المقابل الذي أدفعه، فلحظة غربة واحدة، لا تكفي نجاحات ولا أموال العالم لتعوضنا عنها..
كم يبلغ ثمن نظرة أبيك لك في الصباح، وضمة أمك في المساء، وغداء مجمع للعائلة يوم الجمعة والبخور يعبق كل شيء..
ما هو ثمن رحلة مفاجئة نذهب إليها مع الأصدقاء، صوم رمضان وطقوسه، العيد وبهجته، لحظات الفرح التي تقطرها علينا الحياة، فنجمع كل أفراحنا الصغيرة لنحظى بسعادة كاملة..
أنا لست سعيدة لأنني تركت سعادتي خلفي، وذهبت أبحث عن سعادة زائفة في عالم لا يشبهني..
صديقي العزيز:
أكتب لك لأنه يراودني الآن شعور بالحنين لأيامنا الخوالي، التي كنا نمضيها في سعادة وبساطة، وكأنها أبدية، ولا يمكن أن تأفل أو تنتهي، أو نشتاق لعودتها وتكرارها..
لا أعرف من أين جلبنا هذه الثقة، واعتقدنا أنه مثلما دامت صداقتنا، لن تقوى الأيام علينا أو تسعى لتفريقنا، مثلما حدث..
ولكننا الآن بيننا بحار وجبال وحدود وأسلاك شائكة، كتلك التي أحاطت بقلبي وتمزقه الآن .. وأنا أحاول أن أقارن بين بسمتي العفوية، والسعادة التي كانت تصنعها أبسط المواقف، والاحسان بالأمان، وبأن كل شيء من حولك ويشبهك، وأنت جزء من تلك اللوحة المتكاملة، التي تمنحك الطمأنينة، فأنت تمشي على تراب الوطن بين أهلك وناسك ومواطنيك.
لو شعرت بحزن لوجدت ألف يد تطبطب على قلبك، لو تعثرت ألف يد تنتشلك من عثرتك، لو أردت أن تقضي بعض لحظات الجنون، فحولك من ينقذك لو تدهورت الأمور..
أنت آمن مطمئن، متصالح مع كل شيء لأنك تشعر بأنك لست وحدك..
دائما هناك من سيعتني بك، لأنك أبنه.. شقيقه.. صديقه.. ابن بلده، ولكن الأن، بعد أن هجرت كل شيء، واخترت الغربة، واخترت حياة مختلفة، في عالم أحارب فيه وحدي، وسط ناس لا يشبهونني، ولا يضحكون على نكاتي، ولا يفهمون تلميحاتي، ولا يعرفون معنى الحنين لتلك الأشياء البسيط التي صنعت مني شخصيتي التي تاهت مني وعدت أكتب لك لعلك تعثر عليها معي.
صدقني، مواجهة كل هذه التحولات والتغيرات وأنت في موطنك، حولك أهلك وأصدقائك وجيرانك، يجعلها تمضي بطريقة أقل قسوة على القلب والروح، ودون خسائر فادحة.
صديقي العزيز: أتعرف أقسى ما في الغربة!
إنني أصبحت أقوى، وقادرة على التحمل والصبر، تعلقي بالأشياء والأشخاص، والأماكن بدأ يتلاشى.. وبدأت أعتاد وحدتي، وبرودة أيامي، ورتابة حياتي، وفقر المشاعر، وفراق الأحبة، ولم أعد أبالي بأفراح أو أتراح.
هل تدرك مصيبتي الآن؟
الغربة تبدلني، وتشوه شخصيتي و تعمق وحدتي واغترابي بشكل أرعبني..
إنني أتحول لجماد أو مكعب ثلج، لا شيء يهتم به أو يعنيه أو يفرق معه..
الغربة سرقت عمري، والآن تسرق روح، وأخاف ذات يوم، أن تسرق صداقتنا، وتسرق ما تبقي مني..
أنا أكتب لك لأخبرك أني خائفة..
صديقتك: