قراءة في كتاب شهادة الأعمى
المؤلف علي ونيس وهو يدور حول اختلاف الفقهاء في قبول شهادة الأعمى ورفضها وقد استهل كتابه بمقدمة عن حصول الشهادة بالرؤية والسماع فقال :
"أما بعد:
الأصل في العلم الذي تحصل به الشهادة الرؤية بالبصر، أو السماع بالسمع دون ما عداهما من مدارك العلم، وهو اللمس، والذوق، والشم، وقد أشار الله ـ إلى ذلك حيث قال: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} فخص ـ الثلاثة بالسؤال، لأن العلم بالفؤاد وهو القلب، ومستنده السمع والبصر، فالرؤية تختص بالأفعال، كالقتل والغصب، والسرقة والزنا، وشرب الخمر، والصفات المرئية؛ كالعيوب في المبيع، ونحو ذلك، والسماع ضربان سماع من جهة الاستفاضة، وسماع من المشهود عليه "
وألاية المستشهد بها لا يصح الاستدلال بها على الشهادة لأن الثلاث المذكورين فيهما معناهم واحد وهو النفس فهى المسئولة وحدها كما قال تعالى :
" كل نفس بما كسبت رهينة "
والسؤال هنا معناه الحساب وهو الجزاء
وحدثنا عن اختلاف الفقهاء في شهادة ألأعمى فقال:
"فلا يجوز للشاهد أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع، ولذلك اتفق الفقهاء على عدم قبول شهادة الأعمى في المرئيات فيما تحمله بعد العمى؛ لفقد وسيلة العلم بالمشهود به، واختلفوا فيما وسيلة العلم به السماع على أقوال، وهي:
القول الأول: لا تقبل شهادة الأعمى جملة؛ وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، وهو قياس قول ابن شبرمة، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ، وعن إياس بن معاوية، وعن الحسن، والنخعي أنهما كرها شهادة الأعمى.
القول الثاني: تجوز شهادة الأعمى إذا عرف الصوت:
وروي ذلك عن ابن عباس، وصح ذلك عن الزهري، وعطاء، والقاسم بن محمد، والشعبي، وشريح، وابن سيرين، والحكم بن عتيبة، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن جريج، وأحد قولي الحسن، وأحد قولي إياس بن معاوية، وأحد قولي ابن أبي ليلى، وهو قول مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان، وابن حزم وجميع أهل الظاهر .
القول الثالث: إذا علمه قبل العمى جازت، وإذا علمه في حال العمى لم تجز:
وهو قول الحسن البصري، وأحد قولي ابن أبي ليلى، والنخعي، وهو قول أبي يوسف، والشافعي، وأصحابه ."
وكل من رفضوا الشهادة مخطئون لأن الله لم يحدد في شهادة الإنسان على نفسه أو غيره كونه أعملا أو غير هذا قال :
" كونوا شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين "
والرفض والقبول لا يكون بسبب العمى أو العاهة أو غيرها وإنما الرفض والقبول حسب حكم القاضى هل شهادته زور أم حق
فكل الشهادات مطلوبة بداية ولكن الذى يفحصها ويمحصها ويقرر كونها حق أم باطل هو القاضى وليس الفقيه والمهم في الشهادة هو كونها شهادة حق كما قال تعالى :
" إلا من شهد بالحق"
وحدثنا ونيس عن سبب خلاف الفقهاء فقال :
"سبب الخلاف:
وأما اختلاف العلماء في شهادة الأعمى فليس خلافا في الشهادة بالظن، بل الكلام في ذلك في تحقيق المناط، فالمالكية يقولون: الأعمى قد يحصل له القطع بتمييز بعض الأقوال فيشهد بها، فما شهد إلا بالعلم، والشافعية يقولون: لا يحصل العلم في ذلك لالتباس الأصوات، فهذا هو مدرك التنازع بينهم .
الأدلة:
أدلة القول الأول: استدل القائلون بعدم قبول شهادة الأعمى بالقرآن، والسنة، والأثر، والقياس، والعقل.
أولا: من القرآن:
قوله : {وما يستوي الأعمى والبصير} .
وجه الاستدلال: أنه على عمومه، ومعلوم أنه لم يرد به نفي المساواة في كل شيء، وإنما أراد المساواة في معنى البصر وإدراك الأشياء به .
وقوله : {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون}
وجه الاستدلال: أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم، والعلم حاصل بالسمع والبصر، واستقرار العلم يكون بهما، فاقتضى ألا يستقر بأحدهما، لأنه يصير ظنا في محل اليقين،
فلا تجوز شهادة الأعمى؛ لأن النغمة تشبه النغمة، فيتطرق الاحتمال، فلا يجوز له أن يشهد مع الاحتمال .
ثانيا: من السنة:
عن طاوس عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة، قال: «هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع» .
وجه الاستدلال: أنه جعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به، والأعمى لا يعاين المشهود عليه فلا تجوز شهادته .
ومن الأثر:
عن الأسود بن قيس العنزي سمع قومه يقولون: إن عليا ط رد شهادة أعمى فى سرقة لم يجزها .
ومن الإجماع:
قال برهان الدين بن مازة في "المحيط البرهاني": فهذا قد روي عن علي ا، ولم يرو عن أقرانه خلافا يحل محل الإجماع .
ومن القياس:
قاسوا شهادة الأعمى على شهادة البصير في الظلمة، والشهادة باللمس، واشتراط الكمال في الولاية.
فقالوا: إن شهادة البصير في الظلمة، ومن وراء حائل، أثبت من شهادة الأعمى؛ لأنه قد يتخيل من الأشخاص ببصره ما يعجز عنه الأعمى، ثم لم تمض شهادة البصير في هذه الحال، فأولى ألا تمضي شهادة الأعمى المقصر عن هذه الحال.
وقالوا: الصوت يدل على المصوت، كما يدل اللمس على الملموس، فلما امتنعت الشهادة باللمس لاشتباه الملموس، امتنعت بالصوت لاشتباه الأصوات
وقالوا: الكمال معتبر في الشهادة كاعتباره في ولاية الإمامة، والقضاء لاعتبار الحرية والعدالة في جميعها، فلا يجوز فيهما تقليد عبد، ولا فاسق، ولا أعمى، فوجب إذا رد في الشهادة العبد والفاسق أن يرد فيها شهادة الأعمى .
ومن المعقول:
قالوا: الشاهد في تحمل الشهادة وأدائها يحتاج إلى التمييز بين من له الحق وبين من عليه، وقد عدم الأعمى آلة التمييز حقيقة؛ لأن الأعمى لا يميز بين الناس إلا بالصوت والنغمة، فتتمكن من شهادته شبهة يمكن التحرز عنها بجنس المشهود، وذلك مانع من قبول الشهادة .
قالوا: والشهادة مشتقة من المشاهدة التي هي أقوى الحواس دركا، وأثبتها علما، فلم يجز أن يشهد إلا بأقوى أسباب العلم في التحمل والأداء .
وقالوا: الشهادة لا تصح إلا على حاضر، والأعمى لا يشاهد الحاضر .
وقالوا: ولأن من لم تقبل شهادته في الأفعال، لم تقبل في الأقوال؛ كالعبد والفاسق ."
وكل هذه الأدلة إما ليس في محلها كالشهادة بالحق فشهادة الأعمى تكون حق إن كانت كما سمع بالضبط فلم يشترط الله كون الشاهد صحيح النظر أو أعمى فمثلا الشهادة على الدين ليس المطلوب فيها النظر لأن المطلوب فيها السماع سماع المملى للعقد كما قال تعالى :
" فليملل الذى عليه الحق"
والشهادة تكون بالعلم والعلم يحدث بوسائل متعددة كالبصر والسمع والشم كما قال أولاد يعقوب(ص):
" ما شهدنا إلا بما علمنا"
أننا لو اعتبرنا كلام القوم صحيح فمعناه رد شهادة رسول كيعقوب(ص) لأنه عمى فترة من الزمن
وقصة يوسف (ص) نفسها تثبت أن شم ألأعمى دليل على صدقه كما في قوله يعقوب(ص) :
" إنى لأشم ريح يوسف لولا أن تفندون"
فهنا الشم شهادة حق مع كونه ليس نظر
وأما المبيحون لشهادة الأعمى فأدلتهم كما نقلها ونيس هى :
"أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بجواز قبول شهادة الأعمى بالقرآن، والسنة، والأثر، والعقل:
أولا: من القرآن:
قال : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
وجه الاستدلال: أن الآية تحمل على عمومها في الرجال، والأعمى من رجالنا، فلا ترد شهادته.
وقال : {وأشهدوا ذوي عدل منكم}
وجه الاستدلال: أن الأعمى عدل منا، فلا ترد شهادته كبقية العدول.
ثانيا: من السنة:
عن عائشة قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ في المسجد فقال: «رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا»، وزاد عباد بن عبد الله عن عائشة «تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال: يا عائشة، أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم. قال: اللهم ارحم عبادا» .
عن المسور بن مخرمة قال: «قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أقبية فقال لي أبي مخرمة: انطلق بنا إليه عسى أن يعطينا منها شيئا، فقام أبي على الباب فتكلم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم صوته، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه قباء وهو يريه محاسنه وهو يقول: «خبأت هذا لك، خبأت هذا لك» .
وجه الاستدلال من هذين الحديثين: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عبادا فعرف شخصه بكلامه ودعا له، وسمع صوت مخرمة من بيته فعرفه ، فاستدل عليهما بصوتهما ولم يرهما.
وعن عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن»، أو قال: «حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم»، وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقول له الناس: «أصبحت» .
وجه الاستدلال: قال ابن بطال: احتج مالك بقصة ابن أم مكتوم فقال: وكان أعمى إماما مؤذنا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمسلمون المؤذنين فى الأوقات والسماع منهم .
قال المهلب: والذي سمع صوت ابن أم مكتوم من بيته، فعلم أنه الذى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عن الطعام بصوته، فهو كالأعمى أيضا يسمع صوت رجل فعرفه، فتجوز شهادته عليه بما سمع منه وإن لم يره ."
والأحاديث السابقة ليست في مجال الشهادة ولكنها في مجال أن الناس يعرفون أصوات بعضهم ويستدلون بها على شخصياتهم ورواية ابن مكتوم لا تدل على شىء لأن الأعمى ليس الشاهد وإنما الشاهد على طلوع النهاء هم الناس الذين يقولون له أصبحت
ثم قال:
وأما من الآثار:
فعن سليمان بن يسار قال: استأذنت على عائشة فعرفت صوتي، قالت: «سليمان؟ ادخل، فإنك مملوك ما بقي عليك شيء» .
ووجه الاستدلال منه: أن أم المؤمنين عائشة عرفت صوت سليمان، ولم تره، فدل ذلك على اعتبار السمع في إثبات الأحكام.
وقال مالك: إنما حفظ الناس عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما حفظوه وهن من وراء حجاب
وأما من العقل:
فإن الصوت في الشرع قد أقيم مقام الشهادة؛ ألا ترى أن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة في الحقوق؟"
والآثار ليست في مجال الشهادة صح وقوعها أم بطل وإنما هى في مجال معرفة كل إنسان لأصوات الكثيرين ممن يعيش معهم ومن يعرف صوت أحدهم لابد أن تكون شهادته مقبولة
وأما أدلة الفريق الثالث المبيح لشهادة الأعمى قبل العمى فهى :
"أدلة القول الثالث:
استدل القائلون بقبول شهادة الأعمى إذا علمه قبل العمى وعدم قبول شهادته إذا علمه في حال العمى بالقياس والعقل.
أما من القياس:
فقد قاسوا شهادة الأعمى على شهادة الصغير والعبد والفاسق وشهادة الأصم.
فقالوا: إنما أريد البصر في حال التحمل؛ ليقع له العلم بها، فلم يعتبر البصر في الأداء لاستقرار العلم بها، كما لم يمنع الصغر والرق، والفسق من التحمل، وإن منع من الأداء لأنها أحوال لا تمنع من وقوع العلم بها وتمنع من نفوذ الحكم بها .
وقالوا: لما جاز للأصم أن يشهد بما اختص بالمعاينة، وإن فقد حاسة السمع، جاز للأعمى أن يشهد بما اختص بالسماع، وإن فقد حاسة البصر؛ لاختصاص الاعتبار بالحاسة المدركة .
وأما من العقل:
فهو أن ما أدرك بالسماع استوى فيه الأعمى والبصير، كما أن ما أدرك بالبصر استوى فيه الأصم والسميع؛ لاختصاص العلم بجارحته المحسوس بها، ولأنه فقد عضوا لا يدرك به الشهادة، فلم يعتبر في صحتها مع إمكان إدراكها كقطع اليد.
ولأن الشهادة على الإنسان لا تؤثر فيها فقد رؤية المشهود عليه كالشهادة على ميت أو غائب، والدليل على أن حدوث العمى بعد صحة الأداء لا يمنع من إمضاء الحكم بها: أن الموت المبطل لحاسة البصر وجميع الحواس إذا لم يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة، فذهاب البصر مع بقاء غيره من الحواس أولى ألا يمنع من إمضاء الحكم بالشهادة؛ ولأنه لما جاز للأصم أن يشهد بما اختص بالمعاينة، وإن فقد حاسة السمع جاز للأعمى أن يشهد بما اختص بالسماع، وإن فقد حاسة البصر؛ لاختصاص الاعتبار بالحاسة المدركة .
قال الشافعي: لا تجوز شهادة الأعمى إلا أن يكون أثبت شيئا معاينة، أو معاينة وسمعا، ثم عمى، فتجوز شهادته لأن الشهادة إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد أو القول الذي أثبته سمعا، وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل أن يعمى ثم شهد عليه حافظا له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل وهو أعمى لم يجز من قبل أن الصوت يشبه الصوت "
وكل هذا كلام بلا دليل واستدلالات لا قيمة لها لأنها تضيع حقوق الناس بسبب منع الأعمى من الشهادة بعد عماه
وناقش ونيس أدلة الفرق فقال :
المناقشة:
مناقشة أدلة القول الأول: القائل بعدم قبول شهادة الأعمى:
نوقش استدلالهم بقوله : {وما يستوي الأعمى والبصير} وعمومها بأن الاستدلال بعموم الآية مخصوص بأدلة قبول شهادة الأعمى.
ونوقش استدلالهم بقوله : {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} بأن الاعتبار في شهادة الأعمى بالضبط والعلم وليس على الجهل والظن.
ونوقش استدلالهم بحديث: «هل ترى الشمس؟»، بأنه حديث لا يصح؛ قال أبو محمد ابن حزم: وهذا خبر لا يصح سنده؛ لأنه من طريق محمد بن سليمان بن مشمول وهو هالك، عن عبيد الله بن سلمة بن وهرام وهو ضعيف، لكن معناه صحيح .
وقال الزيلعي: قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في مختصره فقال: بل هو حديث واه، فإن محمد بن سليمان بن مشمول: ضعفه غير واحد، انتهى.
قلت: رواه كذلك ابن عدي في الكامل، والعقيلي في كتابه، وأعلاه بمحمد بن سليمان بن مشمول، وأسند ابن عدي تضعيفه عن النسائي، ووافقه، وقال: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، إسنادا ولا متنا، انتهى .
وعلى فرض صحته - وهو صحيح المعنى - فلا اعتبار به؛ لأن المعتبر في الشهادة اليقين، وهذا لا ينازع، فلا يقبل من الأعمى إلا ما كان متيقنا منه.
وأما أثر علي ط: فالجواب عنه أنه لا يصح؛ فقد قال ابن حزم: لا يصح، عن علي ط؛ لأنه من طريق الأسود بن قيس، عن أشياخ من قومه أو عن الحجاج بن أرطاة .
وأما الإجماع:
فالجواب: أنه لا يسلم، فقد خالف في المسألة من ذكرنا من الصحابة؛ كابن عباس، وكثير من السلف والفقهاء.
وأما القياس على شهادة البصير في الظلمة واللمس والولاية.
فالجواب: أن من أشهد خلف حائط أو في ظلمة فأيقن بلا شك بمن أشهده، فشهادته مقبولة في ذلك .
وكذا من مس شيئا فتيقنه، شهد عليه وقبلت شهادته.
وأما قياسهم على الولاية:
فالجواب: أن اعتبار الشهادة بالولاية يبطل، فالمرأة تجوز شهادتها، وإن لم تصح ولايتها .
وأما قولهم بتشابه الأصوات، فالجواب: أنه إن كانت الأصوات تشتبه، فالصور أيضا قد تشتبه، وما يجوز لمبصر، ولا أعمى أن يشهد إلا بما يوقن، ولا يشك فيه .
وأما قولهم: إنه لا يجوز أن يشهد إلا بأقوى أسباب العلم في التحمل والأداء.
قيل: هذا منقوض بما ذكرنا، وبكونه إذا تعطلت أقوى أسباب العلم وتيقن العلم بغيرها، جازت الشهادة به.
وقولهم: الشهادة لا تصح إلا على حاضر، والأعمى لا يشاهد الحاضر.
ناقض الشافعي ذلك القول على قائله، فقال: أنت تجيز الشهادة على الميت، وهو غير حاضر، فكان هذا نقضا لمذهبه، في جواز الشهادة على الغائب، وإبطالا لتعليله في رد شهادة الأعمى وأما الجواب عن قياسهم الأقوال على الأفعال فهو: أن ما أدركت به الأفعال، مفقود في الأعمى، وما أدركت به الأقوال موجود فيه، فافترقا .
مناقشة أدلة القول الثاني: القائل بجواز قبول شهادة الأعمى:
أما استدلالهم بقوله : {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}
فقد نوقش بأن ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول الشهادة؛ لأنه قال: {واستشهدوا}، والأعمى لا يصح استشهاده؛ لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه، وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره؛ لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه ذلك من مشاهدته، ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه، وكان ذلك معدوما في الأعمى، وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية لأن تكون دليلا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها
وأما استدلالهم بقوله : {وأشهدوا ذوي عدل منكم}
فنوقش بأن اشتراط العدالة ليس معتبرا في كل الأحوال، فكم من عدل لا تقبل شهادته! فإنه لو شهد لأبيه أو لابنه أو لمملوكه لما قبلت شهادته، والمانع من شهادتهم غير العدالة، فالآية عامة، وأدلة المنع خاصة.
وأما استدلالهم بالسنة:
فالجواب عنه ما ذكره الحافظ في "الفتح" فقال: وقال الإسماعيلي: ليس في أحاديث الباب دلالة على الجواز مطلقا؛ لأن نكاح الأعمى يتعلق بنفسه؛ لأنه في زوجته وأمته وليس لغيره فيه مدخل، وأما قصة عباد ومخرمة، ففي شيء يتعلق بهما لا يتعلق بغيرهما، وأما التأذين فقد قال في بقية الحديث: «كان لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت»، فالاعتماد على الجمع الذين يخبرونه بالوقت .
وأما الآثار: فيجاب عنها بمثل ما قيل في الأحاديث.
وأما قولهم: الصوت في الشرع قد أقيم مقام الشهادة، وأن الأعمى يطأ زوجته بعد أن يعرف صوتها، والإقدام على الفرج واستباحته أعظم من الشهادة في الحقوق.
فالجواب: أن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته، حتى لا يغادر منها شيئا، ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب أنه المحكي صوته، فغير جائز قبول شهادته على الصوت؛ إذ لا يرجع منه إلى يقين، وإنما يبنى أمره على غالب الظن .
ويقال في ذلك: قد يصح أن يستدل على شيء في أمر، ولا يصح في غيره، ومن ذلك: أن الاستمتاع بالأزواج لخصوص الاستحقاق أوسع حكما من الشهادة، لجواز الاستدلال عليها باللمس، فجاز الاستدلال عليها بالصوت، ويجوز أن يعتمد في الاستمتاع بالمزفوفة إليه على خبر ناقلها إليه، وإن كان واحدا، وذلك ممتنع في الشهادة .
وقالوا: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة، وقيل له: هذه امرأتك، وهو لا يعرفها يحل له وطؤها، وكذلك جائز له قبول هدية جارية بقول الرسول، ويجوز له الإقدام على وطئها، ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه؛ لأن سبيل الشهادة اليقين، والمشاهدة وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد، فليس ذلك إذن أصلا للشهادة .
مناقشة أدلة القول الثالث: القائل بالتفريق بين ما علمه قبل العمى وما علمه بعده.
أما قياسهم شهادة الأعمى على شهادة الصغير والعبد والفاسق وشهادة الأصم.
فالجواب: أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء، والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل شهادته، ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز، فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل، فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة، وكان العمى مانعا من صحة التحمل، وجب أن يمنع صحة الأداء .
وأما القول بأن الصوت يشبه الصوت فيشتبه.
فالجواب: أن الاشتباه العارض بين الأصوات كالاشتباه العارض بين الصور.
وأجيب عن هذا الاعتراض من وجهين:
أحدهما: أن الصور تشتبه في المبادئ، ثم تتحقق في الغايات، والأصوات تشتبه في المبادئ والغايات.
والثاني: أن المصوت قد يحكي صوت غيره فيشتبه، وفي الصور لا يمكن أن يحكي صورة غيره، فلم يشتبه "
وكل ما سبق من الأدلة عدا أدلة واستشهدوا شهيدين وأشهدوا ذوى عدل ليس دليلا في مجال الشهادة وإنما هى استنباطات أو استدلالات ومن ثم لا صحة سوى لقبول شهادة الأعمى حاصة مع وجود دليل ثالث لم يحدد كون الشاهد أعمى أم بصير مريض أو صحيح رجل أو امرأة وهو :
" كونوا شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين وألأقربين"
فلا شرط في الشهادة
ورجح ونيس الرأى القائل بقبول شهادة الأعمى فقال :
"الترجيح:
والذي أراه راجحا في هذه المسألة - والله أعلم - هو قبول شهادة الأعمى على ما تيقنه، وهذا مما عرف من أدلة الشريعة ومقاصدها وقواعدها الكلية، ومحل القبول إذا تحقق الصوت ووجدت القرائن الدالة لذلك.
فقد أباح الشرع للأعمى أن يبيع ويشتري وينكح وغير ذلك، وهذه المعاملات الصادرة عنه معتبرة في الشرع غير مرفوضة، فمن باب أولى قبول شهادته، وقد ذكر ذلك كثير من أهل العلم - رحمهم الله.
قال ابن حزم: ولو لم يقطع الأعمى بصحة اليقين على من يكلمه لما حل له أن يطأ امرأته، إذ لعلها أجنبية، ولا يعطي أحدا دينا عليه، إذ لعله غيره، ولا أن يبيع من أحد، ولا أن يشتري، وقد أمر الله بقبول البينة، ولم يشترط أعمى من مبصر وما كان ربك نسيا، وما نعلم في الضلالة بعد الشرك والكبائر أكبر ممن دان الله برد شهادة جابر بن عبد الله، وابن أم مكتوم، وابن عباس، وابن عمر .
وقال ابن العربي: المسالة الرابعة عشرة:
عموم قوله : {من رجالكم} يقتضي جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه، فإن السمع في الأصوات طريق للعلم؛ كالبصر للألوان فما علمه أداه كما يطأ زوجته باللمس والشم ويأكل بالذوق، فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه .
وقال ابن القيم: دلت الأدلة المتضافرة التي تقرب من القطع على قبول شهادة الأعمى فيما طريقه السمع إذا عرف الصوت .
وقال أيضا: الصحيح قبول شهادة الأعمى لتمييزه بين الأشخاص بأصواتهم، كما يميز البصير بينهم بصورهم والاشتباه العارض بين الأصوات، كالاشتباه العارض بين الصور"
ومن ثم يبقى أن ما قرره النص القرآنى هو الصحيح وهو قبول شهادة أى إنسان حتى ولو كان أعمى بمعنى أن القاضى يسمعها ثم يمحصها ويفحصها لقبولها أو رفضها