الديوانية من بعد ان غادرها الاتراك عام 1917. وعدم استسلام حاميتها بقيادة محمد افندي do.php?img=17019
الديوانية من بعد ان غادرها الاتراك عام 1917…. وعدم استسلام حاميتها بقيادة محمد افندي

الدكتور مؤيد الونداوي

احوال الديوانية للمدة اذار- ايلول 1917
العمليات العسكرية على نهر دجلة التي ادت الى سقوط بغداد عام 1917 لم تمنح الاتراك الوقت كي يسحبوا القوات التركية الصغيرة التي كانت تتواجد في المناطق البعيدة والنائية للسماوة في الفرات الاسفل. من بعد الاستيلاء على الكوت، قام احمد بيك القائد في السماوة بالتوجه بسرعة شمالا. ولدى مروره في الديوانية فقد ترك خلفه وتحت مسؤولية حامية عسكرية تتآلف من فصيل جندرمة ومجموعة من المرضى، ومعهم مجموعة الجندرمة كانوا قد جاءوا معهم الى الديوانية. مع سقوط بغداد فان غالبية الموظفين العثمانيين في الديوانية قد تم اخلائهم من المدينة، ومن بعد ان تم توزيع الاسلحة بين السكان والشبانة المحلية من اجل حماية المدينة لنفسها ان كان ذلك ضروريا ضد العشائر. بالنسبة لفصيل الجندرمة فقد برزت وجهات نظر مختلفة بين عناصرها عما هو العمل الصحيح الواجب عليهم القيام به. ضابط برتبة ملازم ثاني وهو من الشركس اسمه محمد حاجم فروخ قد تبنى فكرة بان عليهم البقاء ولحين ان يتمكن الاتراك من انقاذهم، وعلى اساس ان هؤلاء الذين قد رغبوا بالانسحاب بانهم خونة، ولقد تسبب في ان يتم شنق الضابط القائد وقيامه وبنفسه بإعدام ضابطين اخرين رميا بالرصاص. ومع ذلك فان غالبية عناصر الفصيل قد غادروا الديوانية واتجهوا شمالا، ولكان من المحتمل ان محمد افندي قد هرب هو الاخر ان ادرك ان البريطانيين قد احتلوا الفلوجة، ولكن لم يصله شيء حول حالة الوضع العسكري وهكذا استمر يتوقع العودة السريعة للأتراك. لقد بقي في الديوانية ومعه حوالي ستون رجلا، البعض منهم اتراك والبقية الباقية هم من الروس المسلمين من مواطني القوقاز وقد تم اخذهم سجناء في بداية الحرب وقبلوا الخدمة في جيش السلطان. لقد شغلوا مباني الحامية ومبنى القوافل الملحق به. يقع مبنى الحامية وسراي القوافل على ضفة نهر الفرات وهو موقع له مزاياه الدفاعية والسيطرة على مباني المدينة التي بوسعهم من خلالها قصفها بسهولة مثلما بوسعهم تامين حاجتهم من المياه. الى جانب قوة محمد افندي هنالك القسم الصحي وهو لم يكن يخضع لقيادته وكان هنالك عدد قليل من الاتراك الجرحى في السراي وهو مبنى يقع في وسط المدينة. الرجال الجرحى سلموا انفسهم لنا في منتصف تموز واستسلم القسم الصحي في بداية شهر اب.
سكان مدينة الديوانية كانوا خائفين معا العشائر التي خارج ابواب المدينة والحامية التركية التي هم في مرماها ولقد توسلوا في مطلع شهر مايس بان يتم تثبيت ممثلا عن الحكومة البريطانية يتم تعيينه عليهم وان يتم تولي الادارة من طرفنا. في منتصف مايس عدد من الشيوخ البارزين في المنطقة حضروا الى بغداد وقدموا احتراماتهم وجرى اعلامهم بان ممثل الحكومة ليس بالوسع ارساله اليهم ولحين قيامهم بطرد ضيوفهم من بعد عودتهم الى الديوانية ووضع نهاية لمقاومة محمد افندي. مثل هذا الامر ثبت انه صعب التحقيق مثلما جرى توقعه. قاوم محمد افندي بنفسه وبنجاح وبالتالي فان خصومه تخلوا عن محاولتهم معلنين بانهم ليس بوسعهم فعل شيء من دون توفر المدافع لديهم.


في مطلع حزيران صالح افندي ملي وهو احد المقيمين في بغداد وقد كان سابقا متصرفا على الديوانية قبل بضع سنوات ايام الاتراك جرى تعيينه مساعد للضابط السياسي وما دام محمد افندي مسيطرا على الديوانية فلم يكن بوسعه تسلم مسؤوليته في الديوانية وبالتالي استمر متواجدا في الدغارة ولحين انفراج الاوضاع. وفي جواب عن رسالة كان ارسلها الى محمد افندي يدعوه للاستسلام فان هذا الاخير قد اجاب بانه ورجاله يجب السماح لهم بالعودة واسلحتهم الى القوات التركية مع منحهم مبلغ من المال لتغطية نفقات الرحلة.
في هذا الاثناء تطمينات قد تم الحصول عليها من السلطات العسكرية الروسية بان اي من رعايا روس مع الجماعة العسكرية التي يقودها محمد افندي يتوجب عليها ان تستسلم ويضمن لهم عدم تعرضهم للعقوبات لحملهم السلاح مع الاتراك. هذا الوعد تم توصيله الى محمد افندي من خلال مساعد الضابط السياسي في الحلة وهو ضابط بريطاني وبيد ضابط عربي من الشبانة، ولكن محمد افندي قد رفض الاستسلام عدا الى القوات البريطانية وعلى اساس ان ضابط الشبانة ليس بوسعه حمايته من انتقام العشائر التي عانت الخسائر خلال الاعمال العدائية.
الوضع وبشكل متزايد بات غير مقبولا. وكانت هنالك رغبة عامة في المدينة والمنطقة بان محمد افندي يجب ازاحته. السياسيين المحليين لم يكن بوسعهم فهم لماذا قوة صغيرة ليس بالوسع التعامل معها من طرف القوات البريطانية، وباتوا يتخذون موقفا غير مرغوب فيه ضد البريطانيين. ان تواجد محمد افندي هو مصدر تهيج واضطراب في المدينة وبين العشائر وهي حالة باتت تزداد اكثر فاكثر. وكان لتأخر وصول صالح الملي الذي توقف في الدغارة وكذلك التأخر في تامين طريق الحلة ديوانية من طرف قوة شرطة شبانة الحلة وبالتالي كل ذلك قد نجم عنه حالة من عدم الاستقرار.


في تموز هيئة الاركان البريطانية كتبت الى محمد افندي ملمحة له بانهم مستعدين ارسال قوة حماية بريطانية لكي يقوم بالاستسلام اليها ولكن استمر محمد مصرا على رفض الاستسلام عدا الى قوة نظامية عسكرية برغم ان عددا من افراد قوته قد هرب وقلل عديد قوته الى خمسة وثلاثون رجلا بينما هو ضل ثابتا. بعد هذا التاريخ بات محمد يعتقد بانه من الضروري ان لا يبقى داخل جدران الحامية، بل الظهور العلني في شوارع المدينة. السكان عاشوا رعب القصف الذي لم يتردد استخدامه اذا ما اظهروا اي معارضة الى اوامره. في مطلع شهر اب حاول محمد افندي فتح المفاوضات مع الشيوخ الاقوياء من الخزاعل وعلى امل ان يتم اقناعهم ليمنحوه عبور امن الى معسكر الشيخ عجمي ولكن شيوخ الخزاعل الذين كانوا قد عانوا للسنوات العشرين الاخيرة بشكل كبير على ايدي الحكومة العثمانية ولعله ايضا كونهم مناوئين للأتراك مقارنة والعشائر الاخرى على الفرات قد سلموا الرسالة الى الحاكم المدني.
لم يكن مرغوبا باستمرار هذه الحالة وفي السابع والعشرين من اب عدد من الطائرات تم ارسالها لقصف قوة محمد افندي وبرغم عدم وقوع اصابات فقد كان تأثير عملية القصف كبير. قام محمد ورجاله البالغ عددهم ثمانية وعشرون رجلا بعرض استسلامهم بتاريخ التاسع والعشرون الى موظفي المدينة. صالح افندي برز في المدينة في اليوم التالي ولقد قبل استسلامهم بوصفه ممثلا عن البريطانيين وارسلهم سجناء الى الحلة ومنها تم نقلهم الى بغداد.


يبلغ محمد افندي اربعون سنة من العمر وهو رجل راقي قد اوضح بان مقاومته الطويلة كانت ناجمة عن استلامه وبشكل مستمر اخبارا تتحدث عن النجاحات التركية من المخبرين العرب وانه كان تحت انطباع بانه سيتم حتما انقاذه. اضافة الى ذلك انه لم يكن من الصحيح لمكانته وسمعته ان يستسلم الى سكان المدينة او العشائر وانه كان يثق بانهم سيقتلونه لما اوقعه فيهم من اصابات هو مسؤول عنها. ان الطائرات البريطانية هي التي اقنعته باننا عازمون على وضع نهاية لهذه المسالة وبالتالي فقد استعجل بالاستسلام. لقد وضع محمد افندي نكهة اخيرة لقصته وهي انه قد عرض الخدمة في صفوفنا او الالتحاق بالشريف تحت اي عنوان، لأنه يثق بان الشريف يعود في اصوله الى قريش وبالتالي فانه مستعد لحمل سيفه لصالح الشريف. ولقد كان يخشى محاسبته عن اعدامه للضباط الاتراك. تم رفض عرضه وتمت معاملته حاله حال غيره كسجين حرب وارسل الى الهند وهكذا انتهت سيرته العسكرية كرجل مقاتل. لقد كان محمد افندي برفقة القوات التركية التي هاجمت كربلاء عام 1916 ولديه زوجة واولاد في اسمد وكان قد تزوج بزوجة اخرى وهي فتاة عربية عندما كان في السماوة وكانت بصحبة اقاربها معه في الديوانية ولم يسمح له بان ترافقه وهو بطريقه الى الهند