خُلُقُ الرِّفق


تنبيه مهم:

أخي الكريم/ أختي الكريمة: انتشرت في الفترة الماضية أخلاقُ العنف التي لا تتناسب مع سماحة الإسلام العظيم، وأصبح تعطيل مصالح المؤمنين والحرْقُ والضرب بلْ والقتل أحيانًا إلى آخر وسائل العنفُ المختلفة هي الوسيلةَ المؤثرة لفرض المطالب على الآخرين.
لذا فإن هذه المقالة تدعو إلى العودة إلى أخلاقِ الإسلام العظيمة.. أخلاقِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ والتي من أهمها: خلُق الرِّفْق. الرفق بين المسلمين بعضهم ببعضٍ، الرفق مع المتعلِّم والمخطيء، الرفق مع الخادم والمرأة والأولاد والمرؤسين، الرفق داخل البيت، الرّفق مع لِئَام أهل الكتاب منهم، الرفق حتى مع الحيوانات والدوابّ. وفيما يلي بعض الأحاديث التي تحثُّ على الرفق وتُبيّن شيئًا من فضله، وتُبيّن أيضا شيئًا من الخُلُق العالي الذي اتَّصفَ به النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم؛ الرحمةُ الـمُهْدَاةُ للعالمين. والرفقُ له عدة معانٍ: المعنى الأول: اللِّين والسهولة، وضده: العُنْف، وهو التشديد والتصعيب، المعنى الثاني: الإرفاق؛ وهو الإعطاء، المعنى الثالث: بمعنى التمهل والتأني والتريث. والآن أترككم مع الجزء الأول من المقالة:
أولًا: الأحاديث الواردة في الرِّفق:
«مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخَيْرَ». رواه مسلم([1]).
وفي راوية الترمذي: «مَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ»([2]).
«إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى سِوَاهُ»([3]).
«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ»([4]).
«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»([5]).
«عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ». أخرجه البخاري في صحيحه.
««إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ» رواه الإمام مالك.
«إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ»([6]).
«مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ مِنَ الرِّفْقِ إِلَّا حُرِمُوا»([7])
«مَا أُعْطِيَ أَهْلُ بَيْتٍ الرِّفْقَ إِلَّا نَفَعَهُمْ وَلَا مُنِعُوهُ إِلَّا ضَرَّهُمْ»
- «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ.. تَحرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ». رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

ثانيًا: شرح الأحاديث: وهذه الأحاديث كل معانيها جليلة، ولكن نشير أولًا إلى حديثٍ منها، وفيه قصة نذكرها ثم نعود بعد ذلك إلى بقية الأحاديث. وهذا الحديث هو: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». والإمام البخاري بَوَّبَ في صحيحه [باب: الرِّفْق فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ]([8]).
وورد تحت هذا الباب حديثان: الحديث الأول هو حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ تقول: [دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: «السَّامُ عَلَيْكُمْ». ففَهِمْتُها، فَقُلْتُ: «وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ.. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟!». قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ»]([9]).
و«السَّامُ» معناه: الموت. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكَ. فَقُلْ: وَعَلَيْكَ»([10]). وفي راوية: «فَقُلْ: عَلَيْكَ»([11])، فهذا سلامهم. وقولها رضي الله عنها «فَفَهِمْتُهَا» يعني: فَهِمتْ بِفِطْنَتها أنهم يقصدون: الموتُ عليكم. ولما فَطِنَتْ إلى الكلمة وأنهم لا يُسَلِّمُون بل يدعون بالموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ». فَقَالَ لها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ.. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». فقالت - وكأنها ظنَّت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع ما قالوا -: «أوَ لَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟». فقَالَ لها رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ».
وهناك رواية أخرى للحديث ذكرها الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في «فتح الباري»، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «فَيُسْتَجَابُ لِي مِنْهُمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ»([12]) يعني: إن الله يجيب دعوتنا عليهم ولا يجيب دعوتهم علينا. وهذا دليل على أن الداعي إذا دعا بشيءٍ ظُلمًا فإنَّ الله لا يَستجيب له، ولا يجد دعاؤه محلًّا في المدعو عليه([13])؛ هذا هو المعنى الأول. والمعنى الثاني وهو المهم، ألا وهو الرفق كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ»؛ اليهود يقولون: «السام عليكم» وهو يقول صلى الله عليه وسلم: «مَهْلًا.. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». يعني حتى لو كان القائلُ لك ذلك يهوديًّا - وقد كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ يومئذٍ - فإنه صلوات الله وسلامه عليه يقول لها: «مَهْلًا.. إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ». لا يردُّ عليهم هذا الرد، وإنما بكل ما أوتي من رِفقٍ صلى الله عليه وسلم يقول لها: «قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ». فيُبين لها أنه لا ينبغي أن يعجل المرءُ ولا يترك التأني أو يستخدم العنف عندما يَردُّ([14])، حتى ولو كان هذا الشخص الآخر على هذا النحو من سوء الخُلق ومن العمل والقول المسيء؛ كل ذلك يرجو به المرءُ أن يتألف مَنْ أمامه، كما قال الحافظ في شرح الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك على سبيل المصلحة في تألفهم وفي نفس الوقت قد رَدَّ عليهم ما يستحقون به، ولكن في غير شَطَطٍ.. وفي غير ما يكون سببًا للمؤاخذة عند الله تعالى ولا عند الناس.
ووقفة أخرى مع الرفق تُظهر قيمته وأثره يُبينها حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره كذلك البخاري في نفس الباب، وله روايات أخرى صحيحة في صحيح مسلم وغيره نذكرها كذلك؛ يقول الراوي([15]): «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجِدِ، فَقَامَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ» أي: وَثَبُوا إليه «فَقَالُوا: مَهْ مَهْ» زَجَروه.. قاموا إليه.. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُزْرِمُوهُ»، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا»! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا»([16]).
انظر إلى هذا الرفق كما يشرح العلماء معنى الحديث: «لَا تُزْرِمُوهُ»: «تُزْرِمُوهُ» من الإِزْرَام، يقال: «زَرَمَ البولُ» إذا انقطع، و«أَزْرَمْتُهُ» يعني إذا قَطَعْتُه. وكذلك يقال في الدمع. فـ«لَا تُزْرِمُوهُ» يعني: دعوه، ولا تقطعوا عليه بَوْلَه.. إنه يبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم!! ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ». ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا بدلو من ماء فصُبَّ عليها، فكان أن حلَّ - عليه الصلاة والسلام - المشكلة ببساطة([17]) وبغير فظاظة ولا إغلاظ ولا سخرية ولا غيره بل بالرفق.
وهذا فيه كما يقول أهلُ العلم: إرشادُ الجاهل وتعليمه مع الرفق به إذا لم يظهر منه العِناد. فإذا رأيتَ مثلًا أحدًا من إخوانك يفعل أو يأتي بقول أو بتصرف من التصرفات السيئة التي علمتَ أنه ينبغي إرشاده وتعليمه فيها، فلزمك استعمالُ الرفق معه حتى تصل إلى ما تصبو إليه من هدايته وأَخْذِه إلى الله تعالى، وتقريبِه إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم. تأملْ كيف فتح الرفقُ قلبَ الأعرابي وأثَّر فيه، حتى قال لما رأى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا»! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا» يعني من رحمة الله تعالى. كأنه يقول: ارحم من رفق بي فقط محبةً لفعله وتقديرًا له.
فانظر كيف كان فِعْلُ النبي صلى الله عليه وسلم وقوله معه!
وتأمل ما يُدخل الرفقُ في قلوب الناس من المحبة للرفيق التي بها يستجيب الخلقُ إلى الله تبارك وتعالى، ويبتعد بها الشيطان، ويحتفظ بها المرءُ بمودته بينه وبين إخوانه، ثم يجعل للمسيء طريقًا للرجوع. وعلى عكس ذلك: فلو قلتَ له قولًا غليظًا لأغلقتَ عليه طريق الرجوع عن فِعلته ولعاند واستمر في غيه، وعندئذٍ يصعب عليك أن تكلمه مرة أخرى، ولا أن تسلم عليه. فهذه مشاكل وطرق الشيطان التي يسلكها من لم يستفد من اسمه «الرفيق» سبحانه وتعالى.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث التالي: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ». فإذا كنتَ تظن أن الشدة مطلوبة ومستحبة في دين الله تعالى مثلًا، وأن مثل هذا الشخص لا يصلح إلا بذلك، فإنه إذا لم يكن موضعها ذلك الموضع فهذه ليست من الدين في شيء لأنها ليست رفقًا، بل هي عنفٌ. لذلك يقول: «ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ».
وقد يتطرق إلى عقل المرء أنه ليس بعُنْفٍ ولا شيء، إنما يقول: «أنا أتكلم معه فقط، ولا يكون كلامي على هذا هو العنف المقصود». لذلك نستكمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» فليس المقصود ترك العنف فقط، بل وترك كل ما سوى اللين لأنه سبحانه وتعالى يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ولا على ما سواه([18]). وهذه الرواية الأخيرة رواية الإمام مسلم.
فأنت إذا كنتَ تريد - أيها المسكين - بعُنْفِك أو بفَظَاظَتِك أو بشدَّتك أو بتَصْعِيدك للأمور أو بإِغْلاظِك وزَجْرِك أن تُحصِّل ثوابَ الله تعالى فاعْلَمْ أنك لا تُحصِّل ثوابًا بذلك، بل على العكس: فإن الله تعالى يُثيب على الرفق - يعني يعطي الثواب الجزيل على الرفق - ولا يُعطيه على العنف ولا يعطيه على ما سواه. يعني كأنه يريد منك ما هو أكثر من مجرد ترك العنف.. يريدك أن تترك العنف وأن تكون لَيِّنًا([19])، لأنك ترجو بذلك ثواب الله تعالى، لذلك يقول: «وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ» يعني: يُثيب. ولها معنى آخر ذكره القاضي عياض فيما نقله عنه الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ»: «معناه: يتأتى به من الأغراض ويَسْهُل من المطالب ما لا يتأتى بغيره»([20]).
وهذا المعنى الثاني اختاره الحافظ ابن حجر على المعنى الأول وهو الثواب. فالحديث إذًا فيه معنيانِ في قوله: «ويُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ». الأول: يعني الثواب الجزيل على الرفق. والثاني: أنه يأتي من وراء الرفق من الأغراض والمطالب التي تُرِيدها ما لا يأتي بغير الرفق وما لا يأتي بالعنف.
فإن قلتَ: إذن أتركُ العنفَ؟ نقول لك: ليس العنف فقط، بل وتترك ما سوى الرفق.
ففي الحديث «وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ» كأنه يقول: دع كل ما لا يُسمَّى رفقًا - يدخل فيه العنف وغير العنف - لأنه لا يُثيب عليه سبحانه وتعالى، وفي نفس الوقت لا يأتي به من الأغراض ويَسْهُل به من المطالب كما يسهل بالرفق. والحديث التالي: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»([21]). وهذا الحديث كذلك في صحيح مسلم.
وهذا الحديث له قصة قصيرة كذلك: وهي أن السيدة عائشة رضي الله عنها صَعُبَت عليها ناقة - يعني: كانت تركب ناقة وصعبت عليها - فأخذت تُرَدِّدُها، يعني تشدها هكذا وهكذا.. يمينًا ويسارًا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، فَإِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ».
وهذا المعنى الثالث: وهو كون الرفق زينةَ الأعمال، وزينةَ الأقوال، وزينةَ المعاملات، ومعنى أن يكون الرفق زينةً أي: أن يكون حِلْيةَ المؤمن، فيكون في أخلاقه وشمائله وكل أحواله التي تكون سببًا لإظهار هذه المعاني الجميلة التي ينبغي أن تُرى على المؤمنين في جميع معاملاتهم مع المسلمين ومع الكفرة ومع الدواب([22]) ومع كل شيء.
ونشير إلى آخر الأحاديث.. وهو موضع الخطر في قضية الرفق: «مَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ»([23]).
فاحفظ ذلك جيدًا: كلما هَمَّتْ نفسُك بالخروج عن الرفق واللين والسهولة والتيسير والتريث والتؤدة، وخرجت نفسُك إلى الصعوبة والشدة والعنف والردود السيئة والأعمال الشديدة، وخرجَتْ إلى الرعونة والتهور وما إلى ذلك قُلْ لها هذا المعنى: مَن يُحرم الرفقَ يُحرم الخيرَ. مَنْ حُرم حظَّه من الرفق حُرم حظَّه من الخير. والمرء إذا كان على هذا الحال السيئ من العنف وغيره مما سوى اللين والرفق – فإنه بِقَدْرِ ما يَقِلُّ حظُّه من هذا الرِّفق يُحرم هذا الحظَّ من الخير.
وهذه المسألة خطيرة: كيف يتحقق المرءُ بالخير بعد أن رأى طريقًا يحقق به خيرَ نفسه وخيرَ قلبه وخيرَ أهله وخيرَ أولاده وخيرَه مع الناس جميعًا وأن يكون محِلًّا للخير؟ فمن رأى حاله على هذا المنوال – يعني منوال مَنْ حُرِم الخير – فإنه يعلم أنه لا يتأتى منه لا دعوة ولا صلاة ولا عبادة ولا ذِكْر على حالٍ يُرجى منه الثوابُ أو الفَضْل أو الدرجة عند الله تعالى؛ لأنه شخصٌ محروم من هذا الخير، حُرم هذا الحظ، فكيف يتأتى منه الخير، وكيف تتأتى منه أخلاق، ومودة ومعاملة وغير ذلك مما قد حُرِمَه بسبب حرمان هذا الخير؟! وهذه مشكلة! فعلى قَدْر ما يُحرم المرء من الرفق على قدر ما يحرم من الخير.
لم يقتصر توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وتحذيره للمرء وحده من ترك العنف لتحصيل الخير لنفسه وعدم حرمانه، بل تَعَدَّاهُ إلى أهله وبيته؛ إذ أراد كذلك صلى الله عليه وسلم أن يعمَّ الرفقُ بيوتَ المسلمين وأهاليهم لِتَتَنَزَّل محبةُ الله تعالى عليهم، ويُعْطَى كلُّ أهلِ بيتٍ حَظَّهُم من الخير، ولذا قال صلى الله عليه وسلم مُرَغِّبًا في الرفق: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ»([24]).
وترى الحديث يُبَيِّن هذه الفضيلة أن إدخال الرفق إنما هو من الله تعالى لمحبته الخير لهم، ثم يقول صلى الله عليه وسلم محذِّرًا من العنف: «مَا مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يُحْرَمُونَ مِنَ الرِّفْقِ إِلَّا حُرِمُوا»([25]).
إنَّ الرِّفْقَ عندما يُرَفْرِفُ على بيوت المسلمين في مِثْلِ هذه الآوِنة الصعبة التي غَلَبَتْ عليها الأخلاقُ السيئة لَيُعْطِي الأملَ في أن تُبْنَى بيوتٌ صالحة مِلْؤُها الخير، تكون سببًا في عودة الإسلام ورفعِ رايته. وإنَّ أكثرَ ما نعاني منه في البيوت اليوم سَبَبُه حِرْمانُ الخير، فتلك دعوة إلى سلوك هذا السبيل من قومٍ يُهِمُّهم محبةُ ربهم ويُقْلِقُهم أمرُ دينهم.
([1]) سبق تخريجه في «الدليل على اسم الله تعالى: الرفيق».
([2]) رواه الترمذي من رواية عائشة وجرير وأبي هريرة رضي الله عنه [2013] وقال: حديث حسن صحيح.
([3]) سبق تخريجه، انظر: هامش رقم (6).
([4]) متفق عليه من رواية السيدة عائشة ك مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: البخاري [6024]، ومسلم [2165].
([5]) رواه الإمام مسلم في صحيحه من رواية السيدة عائشة ك مرفوعًا - كتاب: البر والصلة والأدب [2549].
([6]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من رواية عائشة ك، [ج 6/71] الطبعة الميمنية، وصححه المنذري في الترغيب، [ج3/361] دار الفجر.
([7]) رواه الطبراني في الكبير [2274] مكتبة العلوم والحكم - الموصل، قال المنذري في الترغيب: «رواته ثقات»، [ج3/361].
([8]) وهو الباب الخامس والثلاثون من كتاب الأدب - الكتاب الثامن والسبعين، ترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي. أو فتح الباري [جـ10/506]، طبعة دار الحديث - سنة 1424هـ، 2004م.
([9]) رواه الإمام البخاري [6024].
([10]) رواه الإمام البخاري [6257] من رواية ابن عمر رضي الله عنه.
([11]) رواه الإمام مسلم [2164] من رواية ابن عمر رضي الله عنه.
([12]) أخرجه الإمام البخاري [6030] عن عائشة ك مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
([13]) انظر: الفتح، شرح الحديث رقم [6257]، أو [ج11/ص52] طبعة دار الحديث. وقد نقله الحافظ عن الخطابي مُلَخَّصًا.
([14]) وفي رواية أخرى للحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: «مَهْلًا يَا عَائِشَةُ: عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ». أخرجه البخاري في صحيحه [6030].
([15]) هذا الحديث رواه كُلٌّ من أبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنه كما هو في البخاري ومسلم وغيرهما.
([16]) انظر روايات هذا الحديث في البخاري [6025]، ومسلم [285].
([17]) «بَسَطَ» الشيءَ: نشره وجعله بسيطًا لا تعقيد فيه. انظر الوسيط، مادة [ب س ط]. وقال الفيروز آبادي: «واستعار قومٌ (البسيط) لكل شيء لا يتصور فيه تعقيد أو تأليف أو نظم». اهـ. من تاج العروس، مادة [ب س ط]. ومقصدنا بقولنا: «ببساطة» أي: بدون تعقيد.
([18]) وفي رواية في الموطأ وغيره: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ». انظر: حديث رقم [1801] طبعة المكنز. وسيأتي بكماله قريبًا إن شاء الله تعالى.
([19]) وقال سبحانه وتعالى ممتنًا على نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
([20]) انظر: شرح الإمام النووي على الحديث رقم [2592] في كتاب البر والصلة والآداب، باب: فضل الرفق. أو [ج8/391] دار الحديث - الطبعة الأولى - سنة 1422هـ، 2001م.
([21]) سبق تخريجه.
([22]) وفي الحديث: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيَرْضَى بِهِ وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَـهَا، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ جَدْبَةً فَانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا. وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بِالنَّهَارِ». رواه الإمام مالك في الموطأ مرفوعًا [1801] طبعة المكنز. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا سَافَرْتُمْ فِي الْخِصْبِ فَأَعْطُوا الْإِبِلَ حَظَّهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذَا سَافَرْتُمْ فِي السَّنَةِ فَبَادِرُوا بِهَا نِقْيَهَا». رواه الإمام مسلم [1926]. قال الإمام النووي في الشرح: [«الْخِصْب»بكسر الخاء، وهو كثرة العُشب والمرعى، وهو ضد الجَدْب. والمراد بـ«السَّنة» هنا القَحْط، ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 130]،أي: بالقُحُوط. و«نِقْيهَا» بكسر النون وإسكان القاف، وهو: المخ. ومعنى الحديث: الحثُّ على الرفق بالدواب ومراعاةُ مصلحتها؛ فإن سافروا في الخصب قَلَّلوا السيرَ وتركوها ترعى في بعض النهار وفي أثناء السير فتأخذ حظَّها من الأرض بما ترعاه منها، وإن سافروا في القحط عَجَّلوا السيرَ لِيصلوا المقصدَ وفيها بقيةٌ من قُوتها، ولا يُقَلِّلوا السيرَ فيَلْحَقها الضررُ لأنها لا تَجِد ما ترعى فتَضْعُف ويذهب نِقْيُها، وربما كَلَّت ووقفتْ، وقد جاء في أول هذا الحديث في رواية مالك في الموطأ: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ»]. ا.هـ من شرح الإمام النووي على صحيح مسلم، شرح الحديث رقم [1926].
([23]) سبق تخريجه، انظر: هامش رقم (23).
([24]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده من رواية عائشة ك،