الغجر قبائل هندية الأصل دخلت المجتمع العربي عن طريق بلاد فارس

* كتب خليل أقطيني:

عندما فكرنا في إعداد استطلاع موثق وجدي عن الغجر، واجهتنا صعوبات كثيرة في الحصول على المعلومات التمهيدية الكافية والوافية، قبل محاولة الاقتراب من واقعهم الحي من أهم هذه الصعوبات أن هذه الفئة العرقية تنتشر في أرجاء المعمورة، محتفظة بأسرار نشأتها وحياتها قديماً وحاضرا، كما ترجع أيضاً بعض هذه الصعوبات إلى امتناع الغجر عن التحدث عن أنفسهم، رغم كل المحاولات التي تبذل لإقناعهم بأن المعلومات التي يدلون بها لن تضرهم في شيء، وأن الهدف هو التعريف بهم وبحياتهم وبكل ما يمت إليهم بصلة، يضاف إلى ذلك ندرة المصادر والمراجع وخاصة الحديثة منها، التي تتحدث عن الغجر سوى بضع مقالات متفرقة ودراسات سطحية تحدثت عن الغجر في هذه الدولة أو تلك.
و الواقع إن تحفظ الغجر وانغلاق مجتمعهم على أنفسهم، وعدم البوح بأسرار نشأتهم ومعيشتهم ليس وليد الساعة، وإنما يرجع إلى أقدم العصور، وربما منذ انطلاقتهم الأولى. ففي المجلد العاشر من دائرة المعارف الإسلامية نجد حديثاً عن قبيلة غجرية تعيش على الشاطئ الشرقي لجزيرة مدغشقر باسم أوندزاتسي، فنعرف أن هؤلاء قوم (وفد أسلافهم من وراء البحار كما يقولون وإني - يقول الكاتب - وإن كنت قد اتصلت بهم شخصيا لعدة سنين، فإني أشعر أنهم لم يطلعوني بالتفصيل على عاداتهم وشمائلهم، ذلك أنهم كانوا دائما متحفظين) وتطلق دائرة المعارف على الغجر اسم "الزط" وتقول إنه "ينطق بكسر الزاي في دمشق، وهو اسم قوم"، ويذكر الفردوسي أن "بهرام كور" ملك فارس في القرن الخامس الميلادي سأل ملك الهند أن يرسل إليه عشرة آلاف من الرجال والنساء البارعين في العزف على العود. وهذه إشارة صريحة وواضحة إلى المكان الذي نشأوا فيه وهو الهند. وذكر البلاذري أن الزط قد استقروا في ثغور فارس، وردد هذا القول المؤرخ حمزة الأصفهاني الذي يقول إنه على دراية واسعة بتاريخ الساسانيين شأنه في ذلك شأن الفردوسي.
كما استقر كثير منهم في البطائح بين واسط والبصرة، وازدادت سطوتهم في عهد الخليفة المأمون. وقد استغل المؤرخ "دي غوي" هذه النصوص في أحد كتبه عن الغجر وأكملها من لسان العرب وتاج العروس، ومن مؤلفات عدد من الجغرافيين العرب. ومن هذا الكتاب يتبين أن المؤلف قد تتبع
بشكل جيد هجرات الغجر في آسيا، وحسبنا هنا أن النصوص العربية والفارسية - حسب دائرة المعارف - تقول إن الزط أو الغجر هاجروا لسبب من الأسباب من الهند إلى فارس، ومنها إلى الجزء الأدنى إليهم من آسيا وأوربا.
ومن المصادر الحديثة التي تحدثت بشيء من التفصيل عن الغجر، مؤلف للسيد أحمد الحسين، عنوانه "أدب الكدية في العصر العباسي" ومنه نعرف أن للغجر تسميات كثيرة غير تسمية زط، ومن تلك التسميات مكدين أو مجدين، وهي ما يدل على الاستجداء والتسول، كما يطلق عليهم أحيانا اسم الساسانيين، ولكن أشهر أسمائهم "الشحاذون". كما نعرف أن الغجر من الظواهر الاجتماعية المعقدة الضاربة في أغوار الزمان، وأن انتشارهم لم يقتصر على مجتمع دون سواه، فقد كانوا ومازالوا ينتشرون في المجتمعات البشرية المختلفة مختارين طواعية هذا النمط من الحياة.
والأماكن المفضلة لديهم لممارسة فنونهم في التسول والكدية وما شابه ذلك، هي المدن والساحات العامة والمساجد والجسور والتجمعات السكانية، وهم ينتقلون من مكان لآخر، لكن بعضهم فضل المكوث في مكان واحد قانعا بما يناله منه من مال ورزق.

ولا يمكن معرفة مدى انتماء الغجر للمجتمع العربي السوري بدقة، ولا صلتهم به، فهم على الأغلب - شأنهم شأن بقية القبائل الغجرية في الوطن العربي والعالم - يعيشون أقلية داخل المجتمع السوري، ويمكن معرفة ذلك بكل سهولة ويسر من خلال أنماط معيشتهم وألوان حياتهم، التي تختلف اختلافا تاما عن معيشة وحياة وطباع وعادات مختلف الشرائح الاجتماعية والعشائر الموجودة في سوريا، بمختلف انتماءاتها وأديانها.
فالمجتمع السوري يضم عشائر وقبائل مختلفة تمتد أصولها بعيدا في أغوار التاريخ العربي والإسلامي، ولكل عشيرة من هذه العشائر أفخاذ أو فروع متعددة، كما أن لها عاداتها وتقاليدها المميزة الواضحة، وقد انصهرت تلك العشائر فيما بينها من خلال التزاوج والتصاهر، الأمر الذي جعل الانتماء العشائري والقبلي يذوب شيئا فشيئا في نفس الفرد السوري. وقد حاولنا بشتى الوسائل المتوافرة والمتاحة لنا أن نعرف صلة ما - ولو بسيطة - للغجر بأي قبيلة من هذه القبائل فلم نعثر على الإطلاق.
وعلى الصعيد الديني هناك دينان رئيسيان في سوريا هما الدين الإسلامي وهو دين الدولة الأغلبية، والدين المسيحي، وتوجد قلة تكاد لا تذكر تدين بالديانة اليهودية. ومن خلال الغجر أنفسهم وبعض العارفين بهم وبأحوالهم ندرك أن هناك احتمالا كبيرا لعدم انتماء الغجري لأي من هذه الأديان السماوية.
فمن هم الغجر؟ ومن أين جاءوا إلى سوريا؟ في الواقع ليس هناك مصدر تحدث عن زمن وجود الغجر في سوريا، لكن هناك مصادر تتحدث عن كيفية مجيئهم إلى الوطن العربي بصورة عامة، وهي نفسها المصادر التاريخية التي تحدثنا عنها في البداية، والتي تؤكد كما علمنا أن الغجر ما هم إلا قبائل هندية الأصل دخلت المجتمع العربي عن طريق بلاد فارس. لكن الغالبية العظمى منهم
الآن مواطنون سوريون يحملون بطاقات شخصية، وبطاقات عائلية، لهم ما للفرد السوري وعليهم ما عليه، فهم يؤدون خدمة العلم (الجندية) ولهم الحق في الوظائف العامة، وفي التنقل بحرية تامة، وفي الانتخاب والترشيح، والتمتع بجميع حقوق وواجبات المواطن السوري العادي. وبالرغم مما في ذلك من مزايا فإن قسما ضئيلا منهم فضل عدم تسجيله كمواطن في سجلات الدولة، وبقي مسجلا على أنه "أجنبي" ومع ذلك بقي الغجر حتى الآن يعيشون في مجتمع خاص بهم، منغلق عليهم لم ينسلخوا عن عاداتهم وطرق معيشتهم التي ورثوها عن أجدادهم انسلاخا تاما.
وينتشر الغجر في جميع المحافظات والمناطق السورية، ففي محافظة الحسكة التي تقع في أقصى الشمال الشرقي، بجوار الحدود العراقية - التركية يعيش ما بين 2000 و 3000 عائلة غجرية، وفي محافظة دير الزور التي تجاور الحدود العراقية تعيش نحو 1700 عائلة، وفي محافظة الرقة يرتفع العدد إلى الضعف تقريبا، ومثله في محافظة حلب، إلا أن عددهم يزداد بكثرة ملحوظة في باديتى حمص وحماه، ففي حماه يصل عددهم إلى 4000 عائلة وربما أكثر وفي محافظة حمص وتحديدا في جورة العرايس، ينتشرون بكثرة، ولهم أيضا وجود في منطقة تدمر الأثرية التابعةلمحافظة حمص، وتنتشر أعداد قليلة منهم في بقية المحافظات والمناطق.
وعادة يسكن الغجر بجوار المدن، لأن عدد السكان يكون أكثر، مما يدر عليهم ربحا أكبر، خاصة لمن يمتهن التسول في الشوارع وأمام المساجد ودور العبادة وفي الساحات وعند المفارق والجسور وفي الأحياء وعلى أبواب المنازل. وينتقل الغجر من مكان لآخر حسب الانتعاش الاقتصادي لكل منطقة من المناطق، وهذه صفة من الصفات الدائمة للمجتمع الغجري، فمثلا تجدهم يكثرون في المناطق الشرقية والشمالية، ولا سيما محافظتا الحسكة والرقة، عند أوقات جني المحاصيل والحصاد، وذلك لأن هذه المناطق تعتمد اعتماداً كليا على الزراعة، فسكانها يزرعون القمح وبقية أنواع الحبوب والقطن والخضراوات، وعند الحصاد يقومون ببيع إنتاجهم للدولة بأسعار مجزية وجيدة، الأمر الذي يجعل المنطقة تعيش أقصى درجات الانتعاش الاقتصادي في فترة المواسم.
وإلى جانب مواسم الحصاد يستغل الغجر المناسبات الدينية وخاصة شهر رمضان المبارك، فتراهم ينتشرون بكثرة في شهر رمضان من أوله وحتى عيد الفطر ومن ثم يعودون من حيث أتوا، إلا إذا وجدوا سببا قويا لبقائهم. وقد كان الغجر في السابق يستخدمون الدواب في تنقلهم وترحالهم من مكان لآخر، أما اليوم فإنهم يستخدمون الآليات المختلفة، وعلى الأغلب ينتقلون بشكل جماعي، إما لكون بعض الحيل التي يكدون أو يتسولون بها تحتاج إلى أكثر من شخص في تنفيذها، أو ربما كانت هناك أسباب وعوامل أخرى نجهلها تتعلق بطبيعة الغجري وأعراف قبيلته وضوابط حياته وقوانينها.
وبيت الغجري بسيط للغاية، فهو عبارة عن خيمة وأحيانا اثنتين حسب عدد الزوجات، تحتوي هذه الخيم على أدوات منزلية بسيطة للجلوس والنوم مؤلفة من البسط والمفارش والأغطية، وأدوات للطعام والشراب، بيد أن هناك بعض الغجر لديهم إلى جانب الخيم بيوت مثل بقية السكان، منها ما هو طيني إذا كان الغجري يسكن في حي شعبي متواضع، ومنها ما هو أسمنتي إذا كان الغجري يسكن وسط المدينة، وهذه البيوت إما أن تكون أفقية أو عمودية أي متعددة الطوابق، وهناك كثير من الغجر يملكون بنايات كاملة في كل من دير الزور وحلب وحمص ودمشق العاصمة، وكل هذا لم يغير في طباعهم وعاداتهم شيئا، فإلى جانب البيت الطيني أو الأسمنتي توجد الخيمة، وفي معظم الأحيان تكون منصوبة أمام الدار للدلالة على أن ساكن هذا البيت هو غجري، وإذا كان وضع المنطقة التي يسكن فيها الغجري لا يسمح بنصب خيمته بجوار داره، فإنه يلفها ويضعها وسط أكبر غرفة في بيته حتى تكون أمام عينيه وعيني كل من يدخل داره فيعرف أن صاحبها غجري الأصل والطباع والشمائل. حتى إذا جاء وقت الرحيل لطلب الرزق يغلق الغجري بيته ويحمل خيمته وبعض الأغراض والحاجيات وينطلق صوب المكان المقصود ينصب خيمته حتى انتهاء المهمة التي جاء من أجلها، ثم يعود إلى داره مرة أخرى وهكذا.
للغجر في سوريا قبائل وأجناس مختلفة، ومثل هذا التعدد يشكل خلفية اجتماعية لهم، كما أنه يقف وراء تباين أساليب الغجر في تحصيل قوتهم وطبيعة حياتهم، فالمتسول البدوي - على سبيل المثال- لم يكن يعتمد على الحيلة قدر اعتماده على الفصاحة والبلاغة والحكمة، ونقيض ذلك ما يصنعه الغجري الأعجمي الذي حرم البلاغة فاستعاض عنها بالحيل، الجسدية واختلاق الآفات المرضية والتنجيم والسحر والطب، وادعاء الانتساب إلى قبائل معروفة عربية كانت أو غير عربية.
وتعتمد بعض قبائل الغجر اعتمادا كليا على المرأة في كسب الرزق والمال، بينما يبقى الرجال في الخيم كسالى لا يأتون حراكا سوى النوم والأكل والشرب وإنجاب الأطفال، بينما تعتمد قبائل أخرى على الأطفال في كسب الرزق، وبعضها يعتمد على الأطفال والنساء معا، وقليلة تلك القبائل التي تعتمد على الرجال فقط، وهناك منهم من يعتمد على الرجال والنساء والأطفال في آن واحد.
فبعض الفئات تخرج نساؤها منذ الصباح الباكر للتسول والاستجداء، وهنا أيضا نجد تخصصا وتميزا لدى كل زمرة من زمر المتسولات، فمنهن من تتسول بالأحياء تقف على الأبواب وتسأل أهل البيت إعطاءها شيئا من حاجات بيتهم، ومنهن من تتسول في الشوارع والساحات العامة وأمام دور العبادة، وفي كل مكان يكثر فيه الناس وخاصة الأسواق. ورجال هؤلاء النسوة يبقون في البيوت دون أي عمل يؤدونه، لأن الزوجة هي التي تعمل ومما تكسبه في تسولها يعيشون.
وبعضهم يكتفي بتربية الطيور على سبيل الهواية والتسلية، وبعضهم إلى جانب ما تؤديه زوجته يعمل طبالا أو زمارا، وبعضهم لسبب من الأسباب منع زوجته من التسول واكتفى بالطبل والزمر في الأفراح والمناسبات، إذ يتفق أهل الفرح أو المناسبة مع الزمار على مبلغ معين يتقاضاه لقاء عمله معهم حسب عدد الليالي التي يحددونها مع تقديم طعامه وطعام رفيقه الطبال وشرابهما ونومهما، وعندما تعقد حلقة الدبكة ويبدأ بالعزف تجد الزمار يجمع من الراقصين بعض المال بأن يجلس أمام كل منهم بضع ثوان فيعطونه شيئا من المال.
وأكثر ما يزعج هؤلاء اليوم هو اكتفاء الأهالي الذين يقيمون الأفراح والمسرات بسماع أشرطة التسجيل والرقص على الأنغام التي تحتويها. يضاف إلى ذلك عازفو "الطنبورة" من الأكراد الذين حلوا محلهم، والطنبورة آلة موسيقية وترية تركية الأصل تكثر في تركيا وتسمى البزق. ومن الغجر من فضل العزف على الربابة بدلا من الطبل والزمر، وهؤلاء هم "البريسم"، الذين يلتقون في الحفلات والأفراح والسهرات المختلفة، إذ يجلسون وسط المضافة ويبدؤون بالعزف وقول "العتابا" و "النايل" والقصائد الريفية المختلفة. ومثل "القرج" وهو اسم هواة الطبل والزمر. يزيد البريسم على ما يتفق عليه مع أصحاب الفرح أو السهرة من المال، باستجداء الجالسين والحاضرين وذلك بأن يخص الشاعر أو المطرب كلا منهم ببيت أو بيتين من "النايل" أو "العتابا"، أما "المغاربة" فإنهم يقومون بأعمال التنجيم والسحر وقراءة الكف، ونشير هنا إلى أن كلمة مغربي لا علاقة لها بالمغرب العربي وإنما هو اسم إحدى القبائل الغجرية في سوريا ليس إلا.
ومن الغجر من يقوم بصياغة الأسنان العظمية، وهؤلاء يتجولون بالأحياء والقرى والمدن الصغيرة يحملون أدواتهم في حقيبة جلدية.. ومنهم من يقوم بصنع الغرابيل وبيعها للناس. ولكن أخيرا لوحظ قيام بعض منهم بهجر كل ما يمت إلى الغجر بصلة، فتزوجوا فتيات من قبائل كردية معروفة، وبنوا لأنفسهم بيوتا جميلة، وبدؤوا يعملون بأعمال ومهن تدر عليهم أرباحا معقولة، فقد رأينا عددا لا بأس به عن الغجر يعملون في الميكانيك وإصلاح السيارات والدهان وأعمال البناء كما رأينا بعضا منهم في وظائف حكومية مختلفة.
وتعد فئة "الحجيات" أهم فئة في القبائل الغجرية وأكثرها وضوحا وبروزا في المجتمع السوري. وهم خليط من مجموعة القبائل الغجرية التي تحدثنا عنها قبل قليل. وقد بحثنا عن السبب الكامن وراء تسميتهم بهذه التسمية بالذات فلم نجد، فقد قال لنا بعض من التقيناهم منهم إنهم لا يعرفون شيئا عن هذه التسمية، إذ إنهم منذ أن وجدوا في هذه المنطقة وهم يسمعون أهلهم والناس الذين يأتون إليهم ويتعاملون معهم ينادونهم بالحجيات، وهذه الكلمة يقصد بها الراقصات، ويمكن اعتبار الحجيات بمثابة ملاهٍ متنقلة في الريف السوري إذ يذهب إليهم من يملك نقودا بعد حلول الظلام فيجتمع العازفون والمطربون مع الحجيات الجميلات وتبدأ السهرة، الشباب والرجال يعزفون على
الآلات الموسيقية وبعض الحجيات يرددن الأغنيات الشعبية والمواويل البدوية، وبعضهن يجلسن بجوار السمار يبادلنهم السهر والسمر، وتستمر السهرة، الحجيات يغنين ويرقصن، والسمار يتناولون الطعام والشراب ويجالسون أفضلهن حسنا وجمالا.
ومن الأمور المدهشة حول الغجر: اللغة التي يتكلمون بها. وحين حاولنا معرفة أصل هذه اللغة وخصائصها دهشنا حين اكتشفنا أن الغجر أنفسهم لا يعرفون ماهية هذه اللغة ولا أصلها، فمنهم من ادعى أنها الكردية، ومنهم من ادعى أنها لغة خاصة بهم تسمى لغة "العصفور" وذلك لأنهم يتكلمونها بطلاقة واضحة وسرعة كبيرة، وهي على أي حال لغة تحكى ولا تكتب، إذ لا حروف هجائية مكتوبة لها. بيد أننا وبالاستناد إلى أصلهم والمناطق التي انتقلوا إليها وعاشوا فيها فترة من الزمان، نستطيع القول إن لغة الغجر في سوريا وربما في كل أنحاء الوطن العربي وبعض دول العالم الأخرى، ما هي إلا خليط من الهندية والفارسية بشكل أساسي، ثم دخلتها مع مرور الزمن بعض المفردات من اللغة الكردية وقليل من العربية والتركية أيضا إبان الاحتلال العثماني للوطن العربي. وإلى جانب لغتهم تلك يتكلم الغجر العربية بطلاقة ويتكيفون مع لهجة أهل المنطقة التي يسكنون فيها، ويتعلمونها ويتداولونها. فإن هم عاشوا في حلب تراهم يتحدثون اللهجة الحلبية، وإن عاشوا في دمشق تكلموا اللهجة الشامية، وإن سكنوا الجزيرة والفرات أي في المناطق الشرقية والشمالية في الحسكة ودير الزور والرقة تجدهم يتحدثون باللهجة الريفية البدوية القريبة من اللهجة الكويتية والخليجية.
ويستخدم الغجر أدوات متعددة منها ما هو خاص باستعمالات التسول والكدية، ومنها ما هو خاص بالاستعمال المنزلي، فمن أجل التسول أهم أداة بالنسبة للمرأة هي "العليقة" أي محفظة تعلق بالكتف أو الظهر مصنوعة من القماش تجمع فيها المرأة ما تتسوله من البيوت. ويحمل من يقوم بصياغة الأسنان، امرأة كان أو رجلا، أدواته في حقيبة يدوية يعتني بها وينظفها باستمرار. أما بالنسبة للطبال والزمار، فالأدوات معروفة من الاسم وهي الطبلة والمزمار، وهناك أيضا الربابة والناي والطبلة الصغيرة. ومعظم هذه الأدوات يصنعها الغجر أنفسهم من المستلزمات المتوافرة بين أيديهم. أما الأدوات المنزلية فهي مختلفة من غجري لآخر، حسب الإمكانات المادية لكل منهم، فقد رأينا خيما فيها أدوات بسيطة معظمها رث، هي عبارة عن بسط وفرش بالية وبعض الأدوات الأخرى التي تستخدم في الطعام والشراب كالصحون وغيرها. وبالمقابل رأينا خياما فيها من الأدوات المنزلية ما تحويه بعض القصور الفخمة فإحدى الخيم كانت تضاء بثلاث "ثريات" غالية الثمن، وتحتوي على خزانة خشبية كبيرة وجميلة بالإضافة إلى التلفزيون الملون و الدش، إضافة إلى الفيديو وجهاز الهاتف والغسالة الكهربائية والسجاد الفاخر، والمقاعد الوثيرة، وأدوات أخرى كثيرة. وإلى جانب ذلك هناك دلال القهوة العربية، وأدوات الضيافة الأخرى. وقديما قال الجوبري عن دار أحدهم: "ثم دخلنا إلى دار حسنة، فنظرت فيها بسطا وأواني تصلح أن تكون لبعض السعداء".
وليس للغجر في سوريا زي محدد، فهم يلبسون أزياء المنطقة التي يوجدون فيها. ففي منطقة الجزيرة والفرات مثلا تجدهم يرتدون زي أبناء المنطقة، وهو الزي العربي الذي يشبه زي منطقه الخليج. أما المرأة فلباسها أيضا يتألف من غطاء الرأس الذي يثبت أحيانا بالعصابة أو العصبة، ثم الثوب الذي تتفنن الفتيات في تصميمه وألوانه ونوعية قماشه، والغجريات كبيرات السن يرتدين فوق الثوب "الزبون" وهذا الزي يختلف من منطقة لأخرى. أما بالنسبة للحجيات فتجدهن في حفلات الرقص الليلية يرتدين أبدع الثياب المزركشة وأغلاها ثمنا. لكن في القديم - كما تذكر كتب التاريخ - كانت للغجر أزياء محددة وبينة، فالغجري المخطراني هو الذي يتنكر بزي الناسك، كما قال الجاحظ. وهناك أزياء أخرى لكل فئة منهم، ويبدو أنهم لم يتخلوا عن أزيائهم المميزة إلا منذ زمن قصير، فالباحث أحمد الصراف يصف لباس أحد المكدين الذين التقاهم ببغداد بقوله: "له لباس خاص وبزة غريبة هي أعجوبة من العجائب، ومنظر فظيع يستوقف الناظر إليه فيدهشه" ثم يصف بإسهاب قطع اللباس واحدة واحدة، بدءا من القلنسوة الطويلة، مرورا بالثوب المغطى بالجلد، ثم جراب الحاجات الصغيرة، فصرة الحشيش والأفيون، وانتهاء بالقدوم والهراوة وبعض الأدوات الأخرى. ومما يلفت الانتباه أن أحمد الصراف يذكر أن على بعض أدواتهم نقوشا وزخارف وكلمات فارسية.
والكلام عن الأزياء والثياب ينسحب على العادات، إذ ليس لهم هنا عادات محددة، وإنما يتأقلمون مع عادات وتقاليد المنطقة التي يوجدون فيها
.................................
منقوووووووووووووووووووووووووووول