كلما جاءنا شهر تموز انهالت علينا ذكريات عبد الكريم قاسم (رحمه الله) ...هذا الرجل الذي يتذكره صغارنا اليوم بكل حب ...رغم انهم لم يروه ولا يعرفون عنه شيء...اتذكرة مرة في عهد الطاغية جاء ذكرى انقلاب شباط الاسود ...وكان طغاة البعث يسمونه عروس الثورات ويجبرون الناس للاحتفال به...وكانت مدرسة الصف الاول الابتدائي تحاول تجميل صورة البعث وتكيل التهم لعبد الكريم قاسم ...لكن اطفال الصف كانوا رافضين كلامها وقالوا لها ان عبد الكريم قاسم خوش رجال والناس كلها تحبه واهلنا كلهم يحبوه فما كان منها الا ان انهت الدرس واخرجتهم للساحة ليلعبوا واستدعت اهل الطلاب على انفراد لتقول لنا لا تتكلموا امام اطفالكم بحب الناس لعبد الكريم قاسم واخبرتنا بما حدث وخطورة هذا الامراذا علمت السلطة بذلك....
فيما يلي بعض ما قيل في عبد الكريم قاسم الذي ننتظر من يبادر بعمل نصب مهيب له في ساحة الفردوس ( ساحة الجندي المجهول سابقا)

قالوا عن الزعيم عبدالكريم قاسم
د عبدالخالق حسين


هذه مجموعة أقوال مؤثرة عن الزعيم الخالد الشهيد عبدالكريم قاسم، لعدد من الشخصيات الكريمة، كتاب وقادة سياسيون، عراقيون وعرب، ومنهم من كان على خلاف معه في عهده، جمعتها في فصل خاص بكتابي الموسوم (ثورة 14 تموز العراقية وعبدالكريم قاسم) الذي نشرته دار الحصاد بدمشق عام 2002. وهذه الأقوال هي غيض من فيض من شهادات صادقة ومخلصة بحق ابن الشعب البار الذي وهب حياته للشعب العراقي. وقد قال لحظات قبل استشهاده مع رفاقه الأبرارإن التاريخ سيخلد اسمي، وإنني بنيت للفقراء 35 ألف دار خلال عمر الثورة، وأنني ذاهب ولكن لا أدري ماذا سيحصل من بعدي). وبمصرعه يوم 9 شباط 1963 الأسود أغرق المغول الجدد العراق في دياجير الظلام وحروب داخلية وخارجية، أحالوا الوطن إلى أكبر سجن في العالم، نشروا فيه المقابر الجماعية وارتكبوا جرائم إبادة الجنس وشردوا خمسة ملايين من الشعب. وقد انتهى حكمهم المظلم بالاحتلال الأجنبي الذي كان لا مناص منه من أجل خلاص شعبه من أسوأ طغيان عرفه التاريخ.(ع.ح).

*************

*- مضى ربع قرن على إنعقاد أول جلسة عربية لمحاكمة عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز ولم ينته النظر في هذه القضية مع إن المتهم الرئيسي فيها قد أعدم رمياً بالرصاص دون محاكمة. ومرت عشرون سنة على إعدامه. شهود النفي صامتون.. وشهود الإثبات وحدهم الذين كتبوا الكتب، ونشروا المذكرات، وسودوا أعمدة الصحف العربية بالسطور الغاضبة. ولم يتخلف الشعر العربي العمودي والحديث عن الإدلاء بقصائده ضد المتهم الماثل أمام الأمة منذ ربع قرن ومازالت المحكمة مستمرة، يساهم فيها حتى هذه الساعة صحفيون عبروا مع الرئيس المصري أنور السادات إلى تل أبيب ورجال نفط وأشخاص حكموا على المتهمين الذين أطلق عبد الكريم قاسم سراحهم بالموت شنقاً وبالنفي حتى الموت رصاصاً.. فرصة ثمينة لأن يصير المنفى شاهد نفى. مفارقة لغوية غريبة تتحول إلى واقع النفي يولد النفي.. ويولد الشهادة الجديدة التي تأخرت عن موعدها ربع قرن.
حسن العلوي
أديب ومؤرخ سياسي عراقي، في كتابه:
عبد الكريم قاسم رؤية بعد العشرين، صدرت طبعته الأولى عام 1983.

*************
*- إني أسمح لنفسي أن أبدي ملاحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذراً لأن أقول وبصراحة بأنه كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائداً فذاً له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبداً. لا شك أنه كان منحازاً إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنياً يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكناً لو أحسن التقدير. يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالإنحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط وألهبت الجماهير التواقة للحرية والإستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الإتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟ إن بعض الأحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح الحزبية الضيقة على حساب الآخرين وبدلاً من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيلاً بمنع عبدالكريم قاسم من كل إنحراف، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبدالكريم قاسم ناسية أولويات مهامها الوطنية الكبرى إني أعتبر أن الأحزاب تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية عبدالكريم قاسم في ما حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز (يوليو) لأن الأحزاب لو حافظت على تماسكها وكرست جهودها من أجل العراق، كل العراق ووحدته الوطنية الصادقة، لما كان بإمكان عبدالكريم قاسم أو غيره الإنحراف عن مبادئ الثورة. إن عبدالكريم قاسم قد انتقل إلى العالم الآخر، ويكفيه شرفاً أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا إلى أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية رحمه الله. لم أكره عبدالكريم قاسم أبداً حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لتقصفنا، إذ كنت امتلك قناعة بأنه قدم كثيراً لنا، كشعب وكأسرة لا يتحمل لوحده مسئولية ما آلت إليه الأمور. ولا زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى الآن.
مسعود البارزاني
زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية.

*************
*- كان للزعيم عبدالكريم قاسم الكثير من الصفات الحميدة وأفضلها من وجهة نظري أنه كان مهذباً جداً وذا إخلاق عالية وحضارية ولم أسمع منه كلمة نابية قط. وكان نصيراً للفقراء وذوي الدخل المحدود، يسعى لخدمتهم ورفع مستواهم المعيشي وقد عمل الكثير في هذا المجال من أجلهم فأنشأ لهم مشاريع خدمية وسكنية عديدة، لقد كان ذا نشأة عسكرية غير سياسية ولعل ذلك كان أحد أسباب عدم إستمرار حكمه زمناً طويلاً. .. وقد تألمت للمصير الذي انتهى إليه الزعيم عبدالكريم قاسم والمذابح والتصفيات التي جرت في صفوف الشيوعيين والوطنيين ولم يكن قائد ثورة 14 تموز (يوليو) يستحق ذلك المصير المؤلم بعد أن أسس النظام الجمهوري وحارب الإستعمار بصلابة وخدم الفقراء بصدق وسعى للارتقاء بمستوى العراق إلى مصاف الدول المتقدمة في جميع المجالات .
د. نزيهة الدليمي
وزيرة البلديات في حكومة ثورة 14 تموز، وقيادية سابقة في الحزب الشيوعي العراقي، في مقابلة معها في صحيفة الزمان اللندنية، العدد الصادر يوم 26/9/2001.

*************
*- اتبع قاسم سياسة التدرج بإلغاء التمايز الطائفي التي سارت عليها الحكومات السابقة، قد أثارت المخاوف في نفوس غلاة الطائفية، فقد عثر إنقلابيو 8 شباط (فبراير) عام 1963 في مكتبه على مسودة القانون الجديد للجنسية العراقية والذي كان سيلغي القانون القديم الذي يقسم العراقيين إلى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية، والذي استغله صدام حسين فيما بعد لتهجير أكثر من نصف مليون مواطن.
د.عدنان فاضل
مهندس معماري وكاتب.
عبد الكريم قاسم والطائفية، جريدة المؤتمر اللندنية، العدد 162 في 2 آب 1996.

*************
*- ولما كان قاسم في دورة أركان في كلية سانت هيرز في إنكلترا، والإمتحان النهائي كان يتمثل في سؤال واحد هو: أكتب خطة مفصلة لإحتلال عاصمة بلادك؟ وحين وزعت الأسلئلة، استجاب شباب الدورة من مختلف اصقاع الدنيا، إلا ضابطاً واحداً أمسك بورقة الأسئلة وقام صارخاً لا لإحتلال بغداد. أتعرفون من هو هذا الضابط؟ عبدالكريم قاسم.
طالب خزعل القطان،
رسالة إلى مناضل، جريدة الوفاق-لندن،
العدد 222 في 11 تموز (يوليو) عام 1996، لندن.

*************
*- كان عبدالكريم قاسم، على خلاف ما نعته به بعض أقرب الناس إليه من الحاقدين على شخصه، يؤمن بمبادئ سياسية واضحة أعتنقها واستخلصها من حاجة الناس ومعاناتهم. وقد كانت تلك المبادئ تدور على ألسنة الكتل والأحزاب السياسية والأفراد والشخصيات الواعية، يرددونها في مجالسهم ويتحدثون بها في كل مناسبة متاحة للتعبير عن آرائهم. ولم تكن هذه المبادئ تستند بالضرورة، إلى فلسفة سياسية أنيقة أو أفكار استوعبتها النشرات والكتب السياسية، بل جسدها الواقع وتطلعات الجماهير لتحقيقها.
إسماعيل العارف
من أوائل الضباط الأحرار ووزير المعارف في حكومة ثورة 14 تموز. كتابه: أسرار ثورة 14 تموز 1958، ص 433 ، دار لانا للنشر-لندن، 1986.

*************
*- أُعطيتُ حين قدومي (إلى بغداد) مركزاً خطيراً. لقد واجهت قائد الثورة، فوجدته يختلف عن القادة العسكريين الذين يقومون بأمثال هذه الثورة، في كل بلد متأخر في العالم الآن، ووجدته في حيرة. إن أهداف القوم واحدة، فلماذا يختلفون ويقتل بعضهم بعضاً ؟ إن الرجل لا يفهم أن يستعمل العنف لتأديب من استعمل العنف هو مرة إن له فلسفة كفلسفتنا، ولا أدري من أين أتته؟ إذ أنه نشأ وتربى في وسط القوة التي لا تعرف غير القوة حلاً. لقد ملت إلى الرجل، ولكني أدركت أنه حمامة سلام في ثوب نسر، أو مسيحاً يحمل صليبه على كتفه. إن أعداءه في الخارج يسمونه دكتاتوراً. وهو لا يستطيع في نظري أن يحمي نفسه. أنه يترفع عن استعمال القوة حتى في الدفاع عن نفسه. أما الساسة الحاذقون المطلعون فيعتبرونه جاهلاً في السياسة، مفلساً من أساليب الحكم الصحيحة.
أما أعداؤه في الداخل فيروجون بأنه رجل مجنون، وأن الخير في التخلص منه. وهو يسمع كل ذلك دون أن يتأثر، إن جل همه منصرف إلى إلغاء أنظمة قديمة جائرة، وإبدالها بأخرى منصفة إنسانية حديثة. وهذا ما استهواني للبقاء معه. على الرغم من أني أعلم، أنا وكل أنصاره القلائل، بأننا سائرون إلى هاوية.
ذوالنون أيوب،
أديب عراقي في رواية عن الزعيم: وعلى الدنيا السلام، ص74-75

***********
*- إن ثورة 14 تموز العراقية صفحة مجيدة وخالدة في تاريخنا العراقي الحديث، أسهمت فيها كل القوى الوطنية الفاعلة آنذاك، وجماهير الشعب، وأما أخطاؤها وانحرافاتها فمن صنع هذه القوى نفسها، حيث لم تعبِّر عن النضج السياسي المطلوب ويظل قاسم زعيماً وطنياً ونظيفاً رغم أخطائه وخطاياه التي أسهمت فيها أخطاء الآخرين وخطاياهم، فمثلاً لو لم يفجِّر القوميون (والقيادة المصرية) كل الوضع العراقي بإسم الوحدة الإندماجية، ولو لم يتطرف الشيوعيون في الرد ويستصغرون القوى السياسية الأخرى، فلربما كان عبدالكريم قاسم مضطراً إلى السير في نهج آخر بدلاً من الحكم العسكري الفردي... وتبقى ثورة 14 تموز، ومهما اختلفت بشأنها الاجتهادات والآراء مجداً من أمجادنا الكبرى، فتحية لذكراها ولذكرى قاسم.
د.عزيز الحاج
قيادي شيوعي سابق، في مقال:
ثورة 14 تموز من منظار مختلف،
مجلة الموسم، العدد 32، 1997، ص197.

***********
*- يرصد المرء حالة استيقاظ واستنهاض جديدة في الوجدان السياسي العراقي، كانت مقموعة منذ ثلاثين عاما ونيف، نهضت وأمست مهموسة منذ العقد الماضي، وأصبحت مسموعة الآن، لتصبح حركة متجسدة في الغد المنظور.. إنها "حركة" إعادة الاعتبار إلى واحد من أهم الشخصيات الوطنية في عراق العصر الحديث، ألا وهو "شهيد الوطنية العراقية" عبدالكريم قاسم. ولهذا الاستيقاظ ما يبرره موضوعيا وذاتيا، سيما بعد أن تجلت الوقائع منذ خلال ممارسة الحكم، ومن خلال تجمع أنهر بحر الحقيقة، من مصادرها المتعددة، لتتمحور حول غائيتها لتعيد لهذا الرجل مكانته التاريخية التي رفضناها حينا أو ظلمناها حينا آخر، أو أغلبنا، تعسفا، الشهوانية الطائفية أو العشائرية، أو الحزبية المحدودة أو القومانية الضيقة.. خاصة وأن أجهزة الإعلام الحديثة "لوعاظ السلاطين" السابقين والجدد، لا تزال تحاول إخفاء دور وموقع هذا الزعيم والمؤسس للجمهورية، وبذات اللغة (الوكرية)، كما لو أن الحقائق لم تبان بعد، أو/و لأنهم متخاذلون ليس إزاء إنجازات هذا الراحل وطبيعة سياسته وإدارة الحكم فحسب، بل إزاء أنفسهم بعد الخذلان الذاتي الذي أصابهم نتيجة فشلهم في تحقيق ذات الشعارات التي حاربوا الراحل بها حالما استلموا السلطة، وأمسى مشروعهم أكثر قطرية، بل إقليمية ومدينية. ومع كل ذلك بدأت الحقيقة بالظهور، لأنها موضوعية، ومن خلال جداول اعترافاتهم المتأخرة رغبوا بذلك أم لم يرغبوا، بعد أن هدأت عاصفة الحقد والضغينة نحو هذا الرجل.
د.عقيل الناصري
أستاذ جامعي وباحث في تاريخ العراق الحديث، الموسم، العدد32، 1997، ص 51.

***********
*- إن القيم التي زرعها الزعيم عبدالكريم قاسم يجب أن تحول دون أن نصبح جلادين أسوأ من صدام. هذه القيم ستنقذنا من إنحطاط خلقي ودموي جديد. إن أقسى عقاب نوجهه للمجرمين هو أن ننجح في بناء الوطن الذي أراد الزعيم بناءه لنا، ذات الوطن الذي حرمونا منه وهدَّموه على رؤوسنا. وهذا أنبل ما يمكن أن نقدمه لذكرى الزعيم. دعنا نستقي من روح الزعيم صورة للمستقبل.
د.علاء الدين الظاهر
صورة للذاكرة… صورة للمستقبل،
أستاذ جامعي وباحث في تاريخ العراق الحديث،الموسم، العدد 32، 1997، ص 43.

***********
*- قيل عن عبد الكريم انه كان شيوعياً ودكتاتوراً ودمويا واصلاحياً وخطراً ولغزاً... كيف جميعاً..؟!
كان لغزاً لأنه احب بلده وأخلص لشعبه.
كان خطراً لأنه أول رئيس عراقي لحكومة عراقية منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
كان خطراً لأنه عمل جاهداً ليجنب بلدنا ما يدور فيه اليوم من مهزلة مزاد علني.
من يعرف نفسه جيداً من العراقيين يستطيع وبسهولة فهم عبد الكريم قاسم.
من يعرف طبيعة الشعب العراقي يفهم عبد الكريم قاسم.
لم يستطع أنصاف البشر حل هذا اللغز فقرروا القضاء عليه.
نعم كان خطراً عليهم فقتلوه وحُلَّ اللغز. كافح وناضل العراقيون آلاف السنين ليأتوا بقائد مثل عبدالكريم قاسم وحينما جاء، قتله الذين يناضلون من اجل عبوديتهم فصح فيهم قول الرصافي:
عبيد الأجانب هم ولكن على أبناء جلدتهم اسود
قُتل عبد الكريم قاسم وهو يبتسم بحنان !
ومنحنا بذلك خطيئة أزلية.
دلير مصطفى
مهندس كردي عراقي
مجلة الموسم، العدد 32، عام1997، ص 49.

***********
حين عاد القتلة من حفلة الدم الوحشية، بعد دفن جثة الزعيم عبد الكريم قاسم في ضواحي ديالى، فوجئوا باختفاء الجثة، وأعلنت يومها حالة طواريء، من قبل دولة كبرى، بمقاييس البلدان النامية بحثا عن جثة هاربة للزعيم الذي ظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته يرفض حوار السلاح، هو المحارب النظيف، الذي لم ينجب ( أطفالا بعد منتصف الليل) في ثكنة كما كان يفعل الشباطيون، والعقداء الغجر، وفرسان الفصاحة والتشهير!.
وحين ألقوه في النهر، كي لا يصير رمزا، لم يكونوا يدركون، لسذاجتهم، انهم صنعوا رمزا أبديا، وان المخيلة العراقية منذ أقدم العصور تربط بين الزعيم المنقذ وبين الأنهار المقدسة، وان أكثر حالات الانتظار قداسة عند العراقيين تلك التي تتم عند حافات الأنهار، وغياب جثة القائد في الأساطير والحكايات العراقية، يجعلها حاضرة أبدا، ويخلق فكرة الانتظار المثمرة، والأمل الإيجابي بالعودة، ويحولها إلى رمز.
هل واجه الزعيم قوى سياسية وأحزابا فقط، أم انه واجه قوانين تأريخية، اجتماعية، ورغبات منفلتة في مرحلة تحول، وانهيار مجموعة قيم، وأنماط ثقافية سائدة، وتفسخ اجتماعي، سياسي، أخلاقي، ثقافي؟. في مثل هذا النوع من المراحل العاصفة التي تهب على المجتمعات، في المراحل التي تعقب الحروب، أو الكوارث الطبيعية، أو الثورات، والهزات الاجتماعية العاصفة، يحصل ما يسميه علماء الاخلاق بحالة فقدان المعايير(Normlessness ) التي تؤدي إلى ضرب من العدمية السياسية، والإخلاقية، وانهيار منظومة المثل والأعراف السائدة، وفقدان المقاييس. وفي مثل هذه الظروف الزلزالية العاصفة لا تتأسس القوانين، أو الدساتير، لأن الفورة الاجتماعية الجامحة لم تستقر بعد، ولأن الدساتير التي توضع في مثل هذه الأجواء لا تعكس بصورة دقيقة رغبات وقيم وحقوق الناس أو الشرائح الاجتماعية التي تمر في حالة إزالة وتراجع، وبروز قيم، وصراع آراء ومصالح جديدة، وفئات تتقدم وأخرى تتراجع، ونظام وأفكار وإخلاق يصعد في مشاهد عنف تاريخي جبار.
ولقد اثبت الزعيم عبد الكريم قاسم بعدم سنه دستور دائم للبلاد (في تلك الظروف) ذروة الوعي الحقوقي، وشجاعة المشرع، لأننا لا نستطيع ان نقيم حفلا موسيقيا حالما على ظهور التماسيح!. وكان يريد أن يهدأ التاريخ من عربدته ويراهن على الأيام، ولم يكن يراوغ، لأن الدساتير تعكس مرحلة الاستقرار النسبي لمجموعة نظام القيم، والحدود الفاصلة بين الأعراف، واستقرار المعايير حتى وان في مرحلة محددة من الزمن. ولا توجد أمة من الأمم شرعت دستورها الدائم في ظروف الاضطراب لأن في صراع المعايير، وانفلات القيم لأكثر من الدم، وسيكون التمييز صعباً بين المسرح السياسي ومسرح الدعارة لأن الذي يحدث هنا يحدث هناك في عدمية مكتسحة.
ولكن هذا الرجل المشتبك في صراع أسطوري، كأحد آلهة الإغريق، في صمت خرافي، وكبرياء حزين، مع هذه الأقدار الكبرى، حين يعود إلى منزله ليرتاح يجدنا قد حرمناه حتى من النوم الهادئ من أجلنا، واحتللنا وسادته، آخر مساحة للدموع السرية لأبطال الملاحم حين يعودون من معارك التاريخ الكبرى.
(تقرر وضع المناشير في غرفة عبد الكريم قاسم، بواسطة أحد الأطفال(؟).... الذين اعتادوا الدخول والخروج إلى بيت حامد(؟).... ودسها على سرير الزعيم.... ولدى دخول الزعيم إلى غرفته فوجئ بحزمة مناشير مخبئة تحت الفراش.... فلم نلاحظ رد فعل ضد القائمين بهذا العمل وهم معروفون لديه ولدى عائلته (؟)
أخيرا من قتل الزعيم عبد الكريم قاسم؟.
* نحن جميعا شركاء،
سواء الذين أطلقوا عليه الرصاص، أو الذين أطلقوا الدموع،
أو الذين صمتوا ولم يتحركوا لمنع تلك الجريمة،
أو الذين حاولوا من قبل ومن بعد قتل الزعيم الفكرة، والرمز.
كان الزعيم يستطيع صباح يوم الجريمة أن يقود هجوما مدرعا من داخل وزارة الدفاع، ويفتح مجزرة لو أراد، لكنه قرر الاستشهاد، في لا وعيه، وضميره وبطريقة من الصعب جدا أن يفهمها الرجال الصغار.
ايها الزعيم،
أنت ترقد في قاع النهر ممزوجا بطين وأساطير الأنهار المقدسة،
وسنظل ننتظرك، نحن الأبناء التعساء الذين أحببتهم كثيرا، على ضفاف الأنهار،
وعندما ستخرج إلينا يوما،
سنفرش قمصان اليتامى تحت قدميك،
لكي تمر أيها الصديق!.

حمزة الحسن
أديب وروائي عراقي.
في مقال: إنصافاً للرجل وللتاريخ، الغد الديمقراطي،
العدد 121، تموز 1995.

***********
ماذا كان يدور في ذهن قاسم لحظة إعدامه؟
يقول طالب شبيب: وفي كل الأحوال فقد كان قاسم لا يستحق المصير الذي آل إليه ولا ندري بأي شيء تأمَّل أو فكَّر وهو يستعد لتلقي رصاصات سيطلقها تلاميذ مدرسته الوطنية العسكريين، الذين تمثلوا فوراً بعد قتله بطريقته في الحكم، ولكنهم فشلوا أن يصيبوا ما أصاب من عفوية وشعبية..؟
ويجيب المؤلف الدكتور علي كريم سعيد على هذا السؤال فيقول: لابد أن أسئلة وتوقعات كثيرة جداً مرت بذهن قاسم وهو يترقب خروج الطلقات من فوهات البنادق الموجهة إلى صدره. وربما تسائل: هل يستحق ما اقترفه أو ما قام به من أعمال أن يُقتل بهذه الطريقة؟ ولا بد أن شريطاً قد مر بذهنه وأمام مخيلته منذ أن كان ملازماً، عندما فاجأ تلاميذه بالكلية العسكرية وكان بينهم عبد السلام عارف والبكر وعبد الرحمن عارف وطاهر يحيى ومحي محمود والدراجي وطاهر وفاضل عباس المهداوي وغيرهم، فاجأهم بحديث ولغة غير معهودة داخل الجيش، وكان أول ضابط يقوم بذلك، حدثهم عن الوطنية والإستعمار البريطاني ووعدهم بيوم يتمكنون فيه بطرد العسكريين الأجانب من البلاد.
لا بد أن يكون قد تذكر إضافة لذلك معارك كردستان ثم حرب فلسطين وتحريره لقلعة كيشر والبيارات وإبداعه في نقل القوات خلال المواجهة مع الإسرائليين، ومخالفته للقيادة العسكرية العربية عندما خطط سراً لفك الحصار عن الجيش المصري المحاصر بالفالوجة، وتنسيقه مع عفيف البزري رئيس أركان الجيش السوري وعبد الحميد السراج في (المفرق) على مساعدة سوريا في حال تعرضها للإحتلال من قبل الجيش العراقي الذي كان بإمرة الإنكليز، وإنقاذه لبغداد من الفيضان عام 1954 وتأسيه لحركة الضباط الأحرار التي وصل عدد منتسبيها إلى حوالي مائتي ضابط مختلفي الإتجاهات بما في ذلك خلية بغداد المهمة التي قادها رفيق دربه رفعت الحاج سري، ثم قيادته ثورة 14 تموز، ومشاريعه في خدمة الفقراء التي تركزت على بناء المدارس وإيصال الكهرباء للريف والأحياء الفقيرة وبناء المساكن الشعبية والمعامل وإيجاد مناصب العمل ومشاريع الري وتوزيع الأراضي على مئات الآلاف الفلاحين وتعويض صرائف بغداد بمساكن شعبية، وتوسيع الجامعة والمعاهد وصار الدخول لها بواسطة الإجتهاد والمعدلات وليس المحسوبية والقبول الخاص أو الإستثنائي. وسن قانون رقم 80 الذي أمم أكثر من 99.5% من الأراضي العراقية وجلب أساتذة مصريين لسد نقص المعلمين بعد توسيع المقبولين في المدارس. وسلَّم مصر جميع الوثائق التي عُثِر عليها في الخارجية العراقية وتخص مصر وسوريا خصوصاً التي تتعلق بحلف بغداد والقواعد الصاروخية النووية في باكستان وتركية. وأسس جيش التحرير الفلسطيني. وبإقتراح من حكومته تأسست منظمة أوبك. وأسس صناعة الصلب والإسمنت والكيمياوية. وتضاعف دخل العراق واشتدت حركة السوق والبيع والشراء. وأبعد الطابع الأسري والطائفي، الذي اعتمده الإنكليز، عن السلطة. واخرج العراق من منطقة الإسترليني محرراً الإقتصاد العراقي من التبعية والهيمنة وبدلاً من ذلك جعل غطاء العملة العراقية ذهباً يعادلها تماماً، فلم يطبع أوراقاً ولم ينتفع ولم يدع غيره ينتفع بصورة غير مشروعة من أموال الوطن. ولم يخض حروباً بالنيابة، وغير ذلك كثير وكثير، مما يؤكد أن خصومه لم يعترضوا عليه لأسباب تتعلق بالسلوك بقدر ما كان صراعاً على توزيع المراكز في السلطة، فاستعانوا بجهات إقليمية ودولية لها مصالح في العراق لإسقاطه، فتتالت عليه الضربات والمشكلات المرتبة والتي انتهت بسقوطه، إلى درجة أن السفير البريطاني في العراق وصف حالة عبد الكريم قاسم بذكاء قائلاً عنه أنه: "فقد القابلية للتغلب على مشاكله".
ويذكر أن وزراء عبد الكريم قاسم أودعوا معتقل معسكر الرشيد وتم التحقيق معهم فوراً فتبين أنهم لم يرتكبوا أية مخالفات شخصية، دخلوا وزاراتهم وخرجوا منها دون أية مكاسب شخصية أو تجاوزات قانونية.
الدكتور علي كريم سعيد
باحث عراقي، في كتابه الموسوم:
عراق 8 شباط في ذاكرة طالب شبيب، من حوار المفاهيم إلى حوار الدم، دار الكنوز الأدبية، بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1999، ص114.

***********
*- إنه حان الوقت لنعيد لعبدالكريم قاسم إعتباره ونسمي الأشياء دونما أن نغفل ظروف ذلك الزمن ونوعية تحالافاته وعلاقاته.. كان عفيف اللسان نزيه الكف لم تذكر خطبه المسجلة كلمة شائنة في حق خصومه ولم تذكر دفاتره انه حقق جاهاً أو مالاً لنفسه أو لعائلته من وراء مناصبه.. مات كما لم يمت غيره من صناع تاريخ العراق، وحيداً دونما جاه أو قصور أو أطيان، أو حتى ملابس مدنية، ودونما أحزاب ومتحزبين ومليشيات، بل دونما زوجة أو وريث من صلبه.. بل سيذكر التاريخ إن الرجل الذي فجر الثورة وأسس الجمهورية وحالف الفقراء ووهب الوطن كل حياته لم يجد في أرض العراق الواسعة مترين من الأرض ليحتضنا جثته المثقوبة بالرصاص، وفضل رفاق الأمس في ظاهرة تكشف قلة الوفاء وسيطرة النوازع الإنتقامية، ان يرموا بالجسد في النهر ليكون طعاما للأسماك، حتى لا يعود العراقيون ذات يوم حينما يعود الوعي الغائب أو المغيب قسراً، إلى الترحم على رجل لم يبخل على أهله بشيء فبخل الأهل عليه بكل شيء بما في ذلك القبر!
عبدالله المدني
كاتب بحراني، (14 تموز وصورة قاسم)،
جريدة الحياة 14/7/1994.

**************
*- من هو عبدالكريم قاسم؟
كان عبدالكريم قاسم يجسد في شخصه وبصورة مكثفة، الجوانب الإيجابية والمشرقة من القيم والأعراف والتقاليد العراقية الجميلة المحببة إلى العراقيين، في الوطنية والقومية والإنسانية والنبل والشهامة والشجاعة والكرم والمروءة والتسامح والبساطة والعفو عند المقدرة وحب الناس، وبالأخص الفقراء منهم، والثقة العالية بالنفس وبالشعب وبالناس المحيطين به والإعتماد عليهم. وهذه الصفات النبيلة هي التي أحالت بينه وبين المكر الذي قد يلجأ إليه السياسي الداهية أحياناً لإيهام الخصوم والإيقاع بهم وإبقاء الموالين له متماسكين من حوله والحفاظ على التوازنات ووحدة القوى الوطنية. وقد وضعته الأقدار في قمة القيادة وسلمته أعلى مسئولية لقيادة البلاد في مرحلة من أشد مراحل تاريخ العراق غلياناً وعربدة وهياجاً وانفجاراً. في تلك الإنعطافة التاريخية الكبرى التي لا بد من حصول الإنشقاق والصراع العنيف بين مكونات الشعب وقواه السياسية التي لم يسلم منها أعظم رجالات التاريخ مهما أوتوا من قدرة وكفاءة ودهاء. والظروف التي مر بها قاسم ومعاناته كانت فوق طاقة أي قائد مهما كان حكيماً وداهية، أشبه بتلك التي مر بها الإمام على بن أبي طالب (ع).
ويمكن القول أن عبدالكريم قاسم كان يمتلك في شخصه طاقات كامنة وإمكانيات كبيرة كسياسي ورجل دولة لم تسمح له الظروف العاصفة بعد الثورة لإبرازها في السياسة والإدارة، لأنه رغم تلك الظروف العاصفة، فقد استطاع الرجل أن يحقق الكثير للعراق ودون أن يكون عنده حزب أو مؤسسات إستخبارية قمعية نشطة لتحميه. وعليه أعتقد أن نهاية قاسم بتلك الطريقة اللئيمة لا تدل على ضعفه في شيء، بل كانت حتمية فرضتها ظروف المرحلة التاريخية التي جاءت بالثورة والقوى السياسية التي ساهمت بها ولأن تلك القوى كانت وماتزال في مرحلة المراهقة السياسية، لم تدرك المخاطر المحيقة بها وبالوطن. ولذلك كان قاسم وكأي شهيد في التاريخ، برز وهو أقوى بعد مصرعه مما كان عليه في حياته. وسيبقى عبدالكريم قاسم، إبن الشعب العراقي البار رمزاً للوطنية العراقية والعدالة الإجتماعية، حياً في وجدان الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي.

عبدالخالق حسين
ثورة 14 تموز العراقية وعبدالكريم قاسم
دار الحصاد، دمشق، 2002