بين منطقة شعبية وأخرى راقية، يستقر الشريط الحديدى الصدئ لقطار يفصل بين عالمين احتفظ كل منهما بحدود صارمة، وضعت الأول على قائمة المسارعين لهدوء المناطق الراقية، بينما تركت الآخر للتوغل داخل صخب مصر الشعبية خلف مزلقان أرض اللواء، على ناصية المزلقان لن تحتاج للتوغل طويلاً قبل أن تجذبك لافتّة لا تنتمى لإحدى العالمين معلنة عن كُتّاب الشيخ "محمد" داخل مسجد صغير انبعثت منه أصوات متشابكة لآيات قرآنية منظمة تجمعت حول الشيخ "محمد" صاحب آخر ما تبقى من زمن "الكتّاتيب"، بداخله جمع ذكريات باهتة لأهم مظاهر التعليم فى مصر الجميلة التى فقدت معالمها تدريجياً وسط زحام حاول الشيخ "محمد" اختراقه بكُتّاب صغير استقر خلف شريط حديدى ترك العالمين لصخبهما بين قطارين انطلق كلاً منهما فى عكس اتجاه الآخر.

هنا "كتّاب الشيخ محمد" لتحفيظ القرآن الكريم، هكذا أعلنت اللافتة المنزوية بين المحلات، أنهى الآذان والصلاة وجلس على المنبر الصغير فى استقبال من سمح له أهله بنصف ساعة من حفظ القرآن، بعد صلاة العصر يجتمع حوله مجموعة صغيرة من الأطفال مرددين الآيات التى يغمض عينيه أثناء تلاوتها ثم يعود لفتحهما لمراقبة الجلسة بهدوء، اكتسى به وجهه البسيط وتشبعت به نبرات صوته المنتظمة، بينما سبحت فى عقله ذكريات جلوسه فى الكُتّاب قبل سنوات طويلة حفظ خلالها القرآن كاملاً.
"ما بقاش فى كُتّاب" هكذا بدأ الشيخ "محمد" حديثه لـ"اليوم السابع" عن تفاصيل الكُتّاب الذى لم يعد له وجود، قال "أنا اتربيت فى الكُتّاب، كنا بنتعلم القرآن وعلوم الدين واللغة والحساب والأخلاق والخط العربى وقواعد اللغة"، وغيرها من تفاصيل يسردها الشيخ "محمد" من زمن "الفلكة" التى لم يجرؤ على استخدامها خوفاً من انقطاع الطلبة بعد أن اختفت هيبة "الشيخ" فى منطقة شعبية متهالكة تحاول الاحتفاظ بتقاليد تلاشت عن مصر عاماً بعد آخر، واختلفت بين طبقة وأخرى.

بنفس الطريقة التى ينفصل بها العالمان على شريط القطار، تنفصل أيضاً حياة طلبة الشيخ "محمد" اللذين انقسموا لفئة "ولاد الذوات" ممن يطلبون زياراته فى المنزل لتحفيظ القرآن بعيداً عن الاختلاط، وفئة أخرى من أطفال المناطق الشعبية التى مازالت تحتفظ بمساحات باهتة من ثقافة الكُتّاب بشكل جديد اختلف عن عشرين عاماً مضت هى رحلة الشيخ "محمد" مع الكُتّاب الذى انتقل به بين المناطق الشعبية التى اشتهر بها كآخر المحافظين على فكرة الكُتّاب فى محاولة للاستمرار فى تحفيظ القرآن، قائلاً "يمكن أعرف أطلع جيل عارف حاجة عن دينه حتى لو كان ده آخر كتُّاب فى مصر".

الدكتور "زكريا النوتى" العميد الأسبق لكلية العلوم الإسلامية بجامعة الأزهر، والأستاذ بكلية اللغة العربية تحدث لـ"اليوم السابع" عن ضرورة عودة الكتّاتيب إنقاذاً للمجتمع على حد تعبيره، ويقول: انقراض الكتاتيب كانت هى الخطوة الأولى لطريق انهيار الأخلاق والقيم فى المجتمع الذى طالما استند إلى ثقافة الكُتّاب التى تجاوزت المؤسسة التعليمية إلى التربية والحفاظ على الأخلاق بداية من احترام الشيخ الذى لقب قديماً "بسيدنا"، مروراً بتعليم القراءة والكتابة وقواعد اللغة والحساب والخط العربى ودروس الأخلاق التى اختفت باندثار الكتاتيب التى أعدت أكبر علماء الأزهر بعد استقبالهم من الكتّاب، وهو الوضع الذى اختلف عن السابق.

يكمل "النوتى": الكُتّاب أبقى المجتمع متماسكاً لسنوات طويلة قبل أن يندثر نتيجة لسخرية الأفلام والأعمال التليفزيونية من شخصية "الشيخ" الذى تحول بعد فترة إلى مجال للسخرية مما أثر على وجوده بعد اعتباره "دقة قديمة"، إلى جانب انخفاض مستوى التعليم فى المدارس وظهور الدروس الخصوصية التى أضعفت وجود الكتّاب حتى اختفى تماماً، وما نطالب به هو عودة الكتاتيب التى من شأنها وضع المجتمع على بداية طريق الإصلاح، على أن يكون تحت إشراف وزارة الأوقاف، وهو ما سيشكل فرقاً هائلاً على الجانب التعليمى والأخلاقى والثقافى ويعيد من فكرة "التربية قبل التعليم".

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 1.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 2.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 3.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 4.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 5.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 6.jpg

كُتّاب الشيخ "محمد" آخر ما تبقى من زمن "الفلكة" 7.jpg



أكثر...