على صفحة المياه الهادئة تستقر حياته بما تحمله من ملل يومى لم تقطعه حشرجة المحركات أو تهالك جدران الأتوبيس النهرى، الذى يعمل به "عم عزت" منذ عشرين عاماً، هى عمر رحلاته مع أتوبيس النيل الصدئ الذى بدأ عمله من أواخر الستينيات كمشروع جديد مبشر بالأمل، وانتهى به الحال بعد قرابة الأربعين عاماً كعلبة صفيح صدئة لا تكف أعطالها عن تذكيره بحياته التى طالها الصدئ.

الحكاية ليست حكايته وحده ولكنه اختار سردها وسط خوف باقى العاملين "بالأتوبيس النهرى" من قطع العيش الذى يتوقعونه بين لحظة وأخرى بمجرد الحديث عن "هيئة النقل العام" التى لم تلقى بالاً لتغيير الأتوبيس النهرى طوال مدة عمله منذ الستينيات أو تعديل مرتبات العاملين التى لم يزحزحها الزمن مليماً واحداً، مهما طالت سنوات العمل أو تفانى العاملون فى تحمل زمجرة المحرك ووقوف الأتوبيس فى عرض النيل فى انتظار فرج لا يأتى.

جلسة "شاى" على المرسى الخشبى المواجه للأتوبيس المستقر على شاطئ "ماسبيرو"، تخللتها ضحكات صافية للعمال بالأتوبيس فى انتظار الرحلة القادمة، رفض الحديث والخوف من ذكر "الهيئة" هو ما اتفقوا عليه بنظرات اختلسوها فيما بينهم وهى ما قطعها بحزم "عم عزت عيد" أقدم الموجودين وصاحب الستة وخمسين عاماً التى تعكس تجاعيد وجهه أضعافها، ويشير شعره الأبيض إلى ما فعله الزمن الذى يسرد تفاصيله قائلاً "آه أتكلم مهو الجواب باين من عنوانه"، مشيراً بيده فى تهكم للأتوبيس المستقر أمامه، بدأ حديثه عن شقاء سنوات من العمل: "بقالى 22 سنة، أنا قديم هنا برضه، بس الأتوبيس أقدم منى" ضاحكاً يصف "عم عزت" عمر الأتوبيس الذى تهالك فى انتظار الراحة كما يؤكد قائلاً: "من الستينيات والأتوبيس ده شغال، كل كام سنة يعملوله عمرة، لحد ما اتقطع نفسه"، تنطلق ضحكات المحيطين بعم "عزت" فى دائرة زملائه الذين تلاشى خوفهم تدريجياً بعد أن فجر مطلبهم الأول وهو "أتوبيسات جديدة" من هيئة النقل العام التى لم تجدد المشروع منذ بدايته، على الرغم من صرفها أموالاً طائلة على باقى الأتوبيسات البرية كما يشير "عم عزت" قائلاً "الهيئة بتجيب جديد للبرى بس، من يوم ما وعينا على الأتوبيس وهو ما اتغيرش، الأتوبيس ده كان مواصلة وفسحة بعيد عن الزحمة ودلوقتى علبة صفيح مهكعة، لو طوروه هيجيب فلوس بالهبل وهيحل نص أزمة المرور والزحمة اللى على الأرض".

ليس الأتوبيس النهرى وحده هو ما تحول بفعل الزمن إلى علبة من الصفيح كما يصفه "عم عزت" الذى ابتسم فى خجل بمجرد سؤاله عن الرواتب التى يتقاضها طاقم العمل "لا الأتوبيس اتغير ولا المرتبات زادت"، متقبل فى رضا يكمل حديثه قائلاً "أول ما بدأت كنت متخرج من البحرية وقلت أشتغل فى حاجة تبع البحر، ومن يومها وأنا مستنى أقدم عشان مرتبى يزيد بس العمر ضاع والمرتب زى ما هو، كل سنة بنزيد جنيه ونص، وأكبر علاوة لأتخن راس هنا 4 جنيه!"، لم يخفى ضحكته الساخرة الممزوجة بالحسرة على السنوات التى عاشها "على أمل" برغم الظروف.

أما عن مشهد مصر من داخل شباك القيادة المطل على كورنيش ماسبيرو الذى راقب منه "عم عزت" تغيير الزمن عاماً بعد آخر، فله علاماته التى يتذكرها جيداً "من الشباك الصغير ده أنا اتفرجت على مصر بتتغير قدامى سنة ورا التانية، كانت جميلة من عمر فيلم "الأيدى الناعمة"، و"خلى بالك من زوزو"، كما تابع من شباكه أحداث ماسبيرو التى يحكى عنها قائلاً: "لما الجيش والشرطة دخلوا وبدأ الضرب، لاقيت قدامى على المرسى ناس بتجرى تستخبى خدتهم وطلعت جرى بالأتوبيس واستخبينا بعيد لحد ما الدنيا هديت، أنا من هنا اتفرجت على الثورة كلها، وكنت بحلم بأتوبيسات جديدة وحال أحسن بس لسه الثورة ما خدتش بالها من بتوع الأتوبيس".



أكثر...