تحولت معظم حدائق المدينة إلى مقابر جماعية مع تعذّر دفن القتلى نتيجة استمرار الحملة العسكرية التى تشنها قوات النظام السورى عليها منذ 18 شهراً.
"آتى يومياً لزيارة قبرَى أخى وابن عمى المدفونين فى الحديقة، وأصطحب معى فى الوقت نفسه أطفالى الثلاثة للّعب بالمراجيح وقضاء بعض الوقت".
هذا ما قاله محمد أبو صالح لمراسل وكالة "الأناضول"، عندما التقاه فى حديقة "المشتل" بدير الزور، شرقى سوريا، التى كانت سابقاً وما تزال مخصصة كمتنزه للأطفال والعائلات، قبل أن تبدأ الحملة العسكرية الضخمة التى تشنها قوات النظام السورى على المدينة.
يراقب أبو صالح أطفاله بحذر وهم يلعبون بالمراجيح المزروعة بين عشرات القبور، ويشير لنا بيده إلى قبر طفلة تدعى "شام" مدفونة بالقرب منها، قائلاً: "قد تكون هذه الطفلة ارتاحت، فلم تعد تخاف من أصوات القصف أو تعانى من الجوع ونقص الغذاء وانقطاع التيار الكهربائى والمياه المستمر علينا نتيجة الحصار المفروض من قبل النظام على المدينة".
وتشن قوات النظام السورى منذ 18 شهراً حملة عسكرية ضخمة على مدينة دير الزور؛ أدت إلى مقتل أكثر من 3500 من المدنيين، بحسب مصادر حقوقية فى المدينة، ونتيجة الحصار والقصف المستمرين على دير الزور يضطر ذوو القتلى إلى دفن جثامين أبنائهم فى الحدائق العامة، وأحياناً فى حدائق المنازل فى حال كان القصف شديداً، ويوجد عمليات قنص من قبل قوات النظام ما يحول دون الوصول إلى المقبرة الوحيدة فى المدينة الواقعة فى جبل بور سعيد.
وتعد حديقة المشتل فى دير الزور البالغة مساحتها نحو 2 دونم (الدونم = ألف متر مربع)، من أكبر الحدائق التى تضم جثامين قتلى من المدنيين ومقاتلى "الجيش الحر" المعارض للأسد، المدفونين فيها، وتحولت إلى "مقبرة جماعية" وسط الأحياء السكنية، على حد قول أبو صالح.
وأثناء حوارنا مع والد الأطفال، وقفت امرأة وابنتها بالقرب منا، وكانت الأم تلوم ابنتها البالغة من العمر عشرين عاماً لأنها نسيت أن تجلب معها قارورة من المياه لسقاية الورود المزروعة على قبر أخيها الذى قتل وهو يتصدى لاقتحام قوات النظام السورى للمدينة قبل شهرين.
ولدى سؤالنا للأم عن موعد مجيئها إلى الحديقة لزيارة قبر ابنها، أخبرتنا وعيناها بدأت تفيض بالدموع: "آتى يومياً لزيارة ابنى وحتى لو كان القصف شديداً، وهو ما يكون فى غالب الأحيان، لأقرأ الفاتحة على روحه وأحكى له ما حصل معنا فى المنزل بأدق التفاصيل".
وأشارت المرأة البالغة من العمر نحو خمسين عاماً إلى أنها تجتمع أحياناً مع عدد من أمهات القتلى المدفونين فى الحديقة بموعد محدد لقراءة "ختمة" للقرآن الكريم على أرواح أبنائهن، لافتة إلى أنها كانت عندما ترى الأمهات قبل وفاة ابنها يقومون بهذا الفعل، فإنها كانت تستغرب إصرارهن على الدوام فى الحديقة يومياً، إلا أنها لم تدرك معنى القيام بذلك إلا بعد "استشهاد" ابنها، وفق قولها.
وجرت العادة على أن يقوم مجموعة من الأشخاص بالاجتماع وتقسيم أجزاء القرآن الكريم فيما بينهم لـ"ختمة تلاوته" وإهدائها لروح الميت والدعاء له.
وخلال جولة "الأناضول" فى الحديقة، كان ثلاثة عمال يقومون بتمديد خرطوم مياه بلاستيكى طويل من خارج الحديقة، وذلك لسقاية المزروعات داخلها؛ كون الحى الذى تقع فيه كانت المياه مقطوعة عنه منذ أكثر من 10 أيام؛ ما اضطر العمال لاستجرار المياه من حى آخر قريب.

وكان باديا وجود لافتة مطبوعة مثبتة على شجرتين تضم 212 اسماً للقتلى المدفونين فى الحديقة، وأضيف إلى الأسماء المطبوعة 15 اسماً مكتوباً بخط اليد، وذلك كونهم دفنوا بعد إعداد القائمة وتعليقها، كما دون على شواهد عدد من القبور عبارة "مجهول الهوية".

وكثيراً ما يتم دفن قتلى فى سوريا على أنهم "مجهولى الهوية"؛ وذلك إما كونهم قتلوا ولم يكن بحوزتهم ما يثبت شخصيتهم، أو أن جثثهم تحولت إلى أشلاء نتيجة القصف، ولم يتوفر وقتها وسيلة للتعرف عليهم.

وتشكو المنظمات المعنية بحقوق الإنسان من ضعف التوثيق لجثث القتلى مجهولى الهوية فى سوريا، وذلك لضعف الوسائل الموجودة لدى النشطاء فى هذا المجال، وصعوبة وصول فرقها إلى معظم المناطق فى سوريا نتيجة القتال الدائر والمستمر بين قوات النظام السورى والجيش الحر منذ أكثر من عامين ونصف.

ومنذ مارس/ آذار 2011، اندلعت ثورة شعبية فى سوريا ضد نظام بشار الأسد، واجهها الأخير بالسلاح، ما أدى لنشوب نزاع مسلح بين الطرفين بدعم دولى أوقع أكثر من 130 ألف قتيل، وذلك بحسب "المرصد السورى لحقوق الإنسان" الذى يعرف نفسه على أنه مركز حقوقى مستقل ويتخذ من لندن مركزاً له.

وخلال زيارة مراسل "الأناضول" إلى الحديقة لاحظ أن بعض شواهد القبور التى يدوّن عليها أسماء الشهداء عبارة عن أحجار صغيرة وغير مثبتة على الأرض وموضوعة فوق القبور بشكل عشوائي؛ ما قد يعرضها للتبديل من قبل بعض الأطفال أو العابثين، ولدى أخبار العمال الموجودين بهذه الملاحظة، علّق أحدهم، بأن أهالى القتلى "يحفظون شكل وحجم قبور أبنائهم بأدق التفاصيل وشاهدة تلك القبور مزورعة فى قلوبهم وعقولهم وليست موضوعة على القبر فقط".



أكثر...