لم يتبق من تفاصيل حياتهن الرتيبة ما يستدعى السرد، احتفظن لأنفسهن بذكريات مضت داخل غرف مغلقة بدار "الصفا" لرعاية المسنين الذى انتهت به حدود الحياة قبل أن تبدأ، آنسات مازلن على الرغم من آلام المفاصل والشعر الأبيض وقواعد الدار التى لم تعد لحياتهن بداخله القدرة على الحركة، تواجهك القصص التى جمعنها طوال سنوات شارفت على السبعين عاماً قبل أن تدخل أيا منهن "دنيا"، منهن من فاتها القطار وأخرى من وضعتها الظروف فى قائمة "العنوسة" التى بدأتها مبكراً، لم يعرفن سوى الصمت رداً على أحكام المجتمع وألقابه التى لم تكف عن ملاحقتهن من فتاة لعانس، لامرأة فاتها القطار، وحتى مسنة اكتفت باللقب الأخير، واحتفظت بقصص حب لم تكتمل وحياة خالية سوى من ذكريات واهية لم تعد تشكل فرقاً.

غرفة مربعة فى الدور الأرضى توسطت الجناحين الرجالى والحريمى بالدار، هى غرفة "آمنة" حبيبة الجميع وأشهر نزيلات الدار، لم تعتد إغلاق باب غرفتها المواجه لفراش صغير، 40 عاماً كاملة قضتها "آمنة" على ذات الفراش بعد أن دخلت الدار كامرأة فاتها قطار الزواج، للعمل كمشرفة وانتهى بها الحال كإحدى النزيلات، قصة حب لم تكتمل جمعتها بابن عمها قبل سنوات لا تتذكر "آمنة" عددها وتفاصيل أخرى تتحدث عنها بحرج لم يختف عن وجنتيها رغم سنوات عمرها السبعين، "عشت من غير جواز، أهلى ما رضيوش أتجوز ابن عمى، ودخلت الدار عشان اشتغل وأصرف على أمى بعد ما أبويا مات"، عن تفاصيل حياتها بدون زوج أو أسرة لا تخفى "آمنة" حسرة بعمر ضاع دون جدوى قائلة، "سنين عدت بسرعة لاقيت نفسى فوق الخمسين، أهلى ماتوا وبقيت لوحدى من غير عيال ولا بيت، مافيش غير الأوضة دى وقطة بتونسنى، وأهو اليوم بيعدى".

لا يختلف حالها كثيراً عن جارتها فى الغرفة المجاورة، سوى من عيون حاولت إخفاء الحسرة بداخلها، رافضة الاعتراف بحاجتها لرجل، "ما بحبش الجواز ما بحبش الرجالة، أنا كده أحسن"، جمل متلاحقة أطلقتها "بديعة" سريعاً لتبرير بقائها وحيدة، "عشت عند ناس كنت بخدمهم، مارضيتش أسيبهم وأتجوز، ولما ماتوا أولادهم جابونى هنا"، تصمت قليلاً فى محاولة لاختلاق إجابة عند سؤالها عن سبب رفضها للزواج، ثم تتحدث قائلة "ماكنش فى حظ، أو ماكنش فيه نصيب"، كغيرها من أصحاب ألقاب الآنسات المسنات طالما حدثت نفسها بأطفال وأسرة لم تستطع الحصول عليها يوماً، ما يفوق السبعين عاماً هى سنوات عمرها التى تنتظر نهايتها فى صبر، تقضى الوقت فى الغرفة أو فى حديقة الدار، حاملة حقيبة الذكريات التى تخفى بداخلها تفاصيل حباً سرياً لم يكتمل بعد.

غرفة أخرى وحكاية أخرى لآنسة من المسنات، هى حكاية "سميرة سالم" التى تجلس أمام طاولتها الخشبية التى رصت عليها أقراص "الدومينو" فى الجهة الأخرى، لم يجلس أحد لمبادلتها اللعب، واكتفت بتخيل وجوده متحدثة إليه تارة وضاحكة تارة أخرى، يقطع اللعب دخول مشرف من مشرفى الدار فى أوقات متفرقة خلال يوم طويل تقضيه وحيدة: "أنا كنت بشتغل فى بيت، كانوا بيقولولى يا دادا، من قبل ما أبقى بنت وأنا أسمى "دادا"، لقب آخر حصلت عليه "سميرة" التى لم يحالفها الحظ فى الحصول على شريك للحياة، أو أطفال تمنت الجلوس أمامهم لمبادلتهم لعب الدومينو، "الحياة أتسرقت ما حسيناش بيها، كنت بزعل أوى من كلمة عانس، ودلقوتى بزعل أوى لو حسيت أنى مش قادرة أخدم نفسى"، تختتم حديثها بلسان غيرها ممن حصلن على اللقب نفسه، "العمر عدا ماحدش أفتكرنا، وهيخلص من غير ما حد يحس بينا".

"آنسات مسنات".. فاتهن قطار الزواج فتحولن لآنسات فى سن السبعين 1.jpg

"آنسات مسنات".. فاتهن قطار الزواج فتحولن لآنسات فى سن السبعين 2.jpg

"آنسات مسنات".. فاتهن قطار الزواج فتحولن لآنسات فى سن السبعين 3.jpg



أكثر...