اللغة العربية ونموها
ذكر الأستاذ أ. ولفنسون (1) وقال :- (( الذي يمكن النظر في اللهجات الشمالية يدرك مبلغ تأثير اللغات السامية المجاورة كالآرامية والعبرية ، فقد كان العرب الرحالة تتصل بأمم سورية والعراق من أقدم الأزمنة التاريخية اتصالا متنوع الأسباب قد يكون للسفر وقد يكون للتجارة وتبادل الغلاة أو لطلب الكلأ والمرعى ونجم عن ذلك تبادل أدبي وعلمي أيضا ))
لقد كان من حظ القبائل العربية في أصقاع الجزيرة أنها احتفظت بلغتها السامية الأصلية احتفاظا ظاهرا حتى لم يطرأ عليها شيء كبير من التغيير والتبدل كانت هذه الأقوام بعيده عن الأمم الأخرى وفي مأمن من التأثير بحضارتها كما تأثرت بقية الأمم السامية التي سكنت في الجهات المعمورة ومن أجل ذلك امتازت اللغة العربية ، لغة تلك القبائل عن اللغات السامية الأخرى بزيادة عدد غير قليل من الكلمات والصيغ القديمة وقد أخذت لهجات الشمالية في القرون القريبة من ظهور الإسلام تتمتع بقوه وعزه واستقلال وكانت تتدفق في جميع نواحي الجزيرة بقوة وروح يملؤه عن النشاط حتى كونت لنفسها أدبا جديدا وشعرا فنيا ، وفي ذلك الحين أخذت اللهجات في بلاد اليمن تتدهور وتتلاشى حتى كادت تفنا في القرن السادس الميلادي وكان ذلك من جراء فقدان بلاد اليمن لحريتها واستقلالها السياسي وكانت تأن تحت حكم الأحباش طورا والفرس تارة أخرى فأخذت حضارتها في التدهور والانحطاط واللغات تتبع الحضارة صعودا وهبوطا فتقلص كما تقلصت اللغات السامية الأخرى في سورية والعراق وأطراف الشام أمام اللغة الشمالية التي كانت تفيض قوه وفتوة ومما لاشك فيه انه كانت عدا العوامل السامية الخارجية والانحطاط الداخلي في بلاد اليمن ، عوامل اقتصادية كان لها تأثير غير قليل في اندماج لهجات الجنوب في لهجات الشمال (2) امتزاج اللغة :- هناك أخبار وروايات تدل على أن أشراف العرب من سكان المدن كانوا يرسلون أبنائهم إلى الأعراب بالبادية ليحذقوا اللغة العربية وهم صغارا ، واللغة العربية مزيج من لهجات مختلفة كثيرة ببعضها من الشمال ( شمال الجزيرة العربية ) وبعضها من جنوب البلاد اختلطت كلها ببعضها حتى صارت لغة واحدة (3) وكانت اللهجات القديمة المختلفة في كثير من مادتها اللغوية ولاسيما في كيفية نطق الكلمات المشتركة فلما اجتمعت هذه اللهجات وامتزجت وصارت لغة واحده بدت فيها بعض الكلمات في مظاهر مختلفة وصيغ متباينة مثل كلمة ( نجم ) فأننا نقول في جمعها ( أنجم – نجوم – نجم – أنجام ) وكلها بمعنى واحد ، وهكذا كل قبيلة من القبائل تستعمل صيغة واحدة منها المعنى الذي تستعمل له قبيلة أخرى صيغة أخرى من هذه الصيغ ، أما بعد الإسلام فلما جمعت المفردات والصيغ العربية في معاجم الكتب ، أجتهد اللغويون والأدباء في تخصيص كل صيغة بمعنى خاص ولكن مع ذلك بقي كثير من الصيغ يتوارد على معنى واحد (4) فاللغة العربية الموجودة الآن مزيج من اللهجات المختلفة أختلط ببعضها بعض وأمتزج امتزاجا شديدا حتى صار لغة واحده بعد أن فني أصحاب اللهجات وبادوا كما حدث مثل ذلك بين اللغات السامية حيث تغلبت اللغة الآرامية على اللغة العبرية واكتسحتها حتى صار اليهود في عصور معينة لايتكلمون إلا الآرامية ولكن أحبار اليهود كانوا يحرصون على العبرية كل الحرص فيستعملونها فيما يكتبون وينشئون ، ولما إن خفت وطأت الآراميين وتقلص نفوذهم هبت اللغة العبرية في وجه الآرامية واستعادت لنفسها مجال المحادثة العامة والخبطات العادية وقد كان من مميزات اللغة العربية أنها تشمل على العناصر القديمة جدا من اللغات السامية وهذا يدل على أن اللغة العربية كانت موجودة في مهد اللغات السامية (5) .
إن كل قبيلة من القبائل العربية لها لهجاتها الخاصة ، مما جعل تعدد المصطلحات لمعنى واحد ولحد الآن نجهل من نشأت العربية ، ولكن من المعلوم أنه مر قرن واحد على الأقل قبل ظهور النبي محمد (ص) وقبل أن تصل العربية إلى درجة إتقان ومن المعلوم أن للعرب في الحجاز تجارة واسعة مع الفرس والرومان ، أو على الأصح مع العراق والشام ، وقد احتكرت التجارة قريش خاصة ، لأنهم كانوا يقطنون مكة التي تعتبر العاصمة الروحية للعرب والساميين ولما كانت مصلحة التجارة تحتاج إلى تعلم لغة البلاد أو الأمة التي لهم بها علاقة تجارة ولما كانت قريش زعيمة القبائل من غير منازع ، طالما كانت تتولى أمور الكعبة ، وتسيطر على تجارة الحجاز ، فأن لهجاتها استطاعت في النهاية بعد الإسلام إن تصهر كل هذه اللهجات لتخلط منها لهجة مشتركه ، هي التي نسميها اليوم بالغة العربية ، فقد كانت قبل الإسلام بقرن واحد أو أكثر لهجة لم تكن ذات علم مكتوب .
أما القرآن فضلا عن كونه أحدث تغييرا جذريا في التفكير العربي في جميع نواحي الحياة ، فقد كان مصدرا عظيما للغة التي أغناها بمصطلحات كثيرة أو بأسلوب جديد على الأصح أو أسلوب يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين كالزكاة والميراث والإيمان ومشتقاته (6) .
أما الشعر فأنه كان مصدرا بالغ الأهمية للغة ، حتى قيل لولا الشعر لضاع نصف اللغة ، لقد ظل الشعر مصدر اللغة لسهولة حفظه وروايته .
نشأة اللغة :-
لاشك أن صحف القرآن الكريم هي أقدم صحف مدونة كاملة وصلة ألينا عن اللغة العربية قبل أن تصل ألينا قصائد مدونه من الشعر العربي الجاهلي ، فصحف القرآن هي التي يجب البدء بالبحث فيها عن نشأة اللغة العربية من حيث أننا لم نعثر إلى الآن على نقوش في مركز بلاد الحجاز الأصلية مثل الطائف ومكة ويثرب ، فأننا أمام أمرين أما إن نحتمل أن العرب لم يتركوا أثار منقوشة قبل ظهور الإسلام ؟ وأما لم يكشف عن هذه الآثار بعد ؟ ويحتمل أن تكون هناك بعض النقوش على الأحجار أو الكتابات على الرق(7) .
لقد كان العرب يفطنون إلى ضرورة تدوين أكثر مايمكن من الأشياء التي يخشون على ضياعها بسرعة ، كما فعلوا في تدوين المصحف الشريف مثلا ، ويبدوا في أيام الخليفة أبو بكر (رضي الله عنه ) ، ساهموا أيضا كتاب الحيرة من الآراميين في الكوفة على تدوين القرآن كما ساهموا عرب قصر الأخيضر وضاحية كربلاء لأنهم كانوا يتقنون الكثير من اللغات واللهجات لأتساع تجارتهم الدولية وتبنيهم الديانة المسيحية كما ساهموا في مدينة سورا المجاورة للكوفة ، حيث لاستفاد منهم الإسلام كما يرجع الفضل الكبير بعد الكوفة إلى البصرة في العراق في تحقيق اللغة وتمييز صحيحها من فسادها وغيرهما من مستعملها ، كما ساهم الكوفيون بدورهم في هذا الميدان (8) .
ومهما يكن من شيء فأن الانقلاب العظيم الذي أصابه اللغة العربية ، أنما حدث عقب ظهور الإسلام فقد انقلبت إلى لغة عالمية تتكلم بها شعوب كثيرة جدا ، فقد نزح عرب الأخيضر وعين التمر وعرب الحضر وأطراف البادية وتحت قيادة أبطال المسلمين إلى جميع نواحي المعمورة وفتحوا الممالك والأمصار باسم الدين الحنيف في زمن وجيز وكانت اللغة العربية تسايرهم خطوه خطوة في جميع البلاد التي انتشروا فيها وبسطوا سلطانهم عليها ، واثر القران الكريم في جميع اللهجات السامية والعربية ، فقد بدأت تتبلبل وتضطرب وتنجذب بقوة إلى القران حتى اندمجت كلها في لهجة الحجاز كما كان ينطقها خاصة أهل مكة ومن المعلوم إن اللغة الشائعة هي اللغة النبطية ولكن اللهجة الصحراوية للحجاز كانت مميزة عن لغة الأنباط في الحجاز ، لهذا نرى إن قريش كانت ترسل أبنائها إلى الصحاري لتعلم اللهجة العربية .
ولما كانت الجيوش الإسلامية تقوض العروش وتبيد المماليك وتقيم مكانها دولا إسلامية وطيدة الأركان كانت اللغة العربية تقويض أركان اللغات وتمحوا أغلب أثارها من الوجود وخاصة العربية واليمن وسائر الأقطار العربية الأخرى ، حيث تبدأ اللغة العربية تأخذ مكانها من الألسن حتى أصبحت بعد ذلك أمم وشعوب أسلامية خالصة كما ضل القران الكريم منذ ذلك التاريخ إلى الآن هو الينبوع الفياض الذي يرتوي منه علماء الدين واللغة جميعا ، والمنار المضيء الذي يهتدون بنوره إلى محجة الصواب كلما أظلم عليه الجو وقد كان عرب البادية الغربية من العراق هم المرجع في كل مايتعلق بفصاحة الكلمة العربية وكان علماء البصرة والكوفة يستخلصون قواعدهم ومذاهبهم اللغوية بعد مباحثات طويلة بينهم وبين عرب البادية الذين يلتقون بهم حين يجيئون إلى المدن يحملون إليها متاجرهم على أبلهم ، أو حين يذهب العلماء إلى بادية العراق ليأخذوا اللغة عن أهلها وكذلك إلى بادية الحجاز ، وقد نجح علماء الكوفة والبصرة في جمع المادة اللغوية من أهل البادية ، فجمعت بذلك المعاجم والقواعد اللغوية وصارت من أعظم المراجع التي يعتمد عليها البحث عن جميع اللهجات العربية من ناحية وفي الموازنة بينها وبين جميع اللغات السامية من ناحية أخرى .


المراجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
(1)- ولفنسون – تاريخ اللغات السامية ص162 .
(2)- المصدر نفسه ص168 .
(3)- المصدر نفسه والصفحة ذاتها .
(4)- المصدر نفسه 169 .
(5)- اللسان العربي – مجلة دورية – المكتب الدائم لتنسيق التعريب – جامعة الدول العربية – الرباط ص40-41 ،إبراهيم بركات – العدد 2 .
(6)- أ. ولفنسون – تاريخ اللغات السامية ص194 .
(7)- اللسان العربي المصدر نفسه والصفحة ذاتها .
(8)- أ. ولفنسون – تاريخ اللغات السامية ص216-217 .