اعتدت فى هذه الزاوية كل أسبوع أن أكتب عن عمل فنى يُعرض فى دور العرض، وتزخر دور العرض بمجموعة أفلام تستحق التوقف أمامها وخاصة فيلم «مانديلا»، ولكن اسمحوا لى هذا الأسبوع أن أكتب عن شىء مختلف أن أكتب عن عبدالواحد وحكايتى معه، عبدالواحد بالتأكيد لا يعرفه إلا القليل من الناس سواء فى الصحافة أو فى عالم السينما، هو عبدالواحد العشرى عضو فى نقابة الصحفيين، وللحق لا أعرف أين كان يكتب وهو أيضاً أنتج فيلمين سينمائيين هما «بحبك وبموت فيك» وفيلم «كاريوكى»، وشارك بالتمثيل فى أدوار صغيرة فى فيلم «ناصر 56» وبعض المسلسلات، عبدالواحد العشرى توفى هذا الأسبوع رحمه الله، ولكن يبقى الدرس الذى تعلمته منه حاضراً لا يموت وها أنا أكتبه متمنية أن يتعلمه غيرى ويدركه كل مصرى الآن، خاصة فى هذا الزمن الذى نجلد فيه بعضنا البعض دون أن نفكر فى ثمن هذا الجلد.

منذ سنوات عُرض فيلم «بحبك وبموت فيك» وذهبت لمشاهدته فى إطار عملى وكان فيلما سيئ الصنع وأغلب من دخل لمشاهدته خرج قبل نهاية العرض ولم يبق مشاهد إلا أنا لأنى أرفض أن أترك فيلما قبل نهايته لو كنت سأكتب عنه، لأنى أظن أن هذا هو الحق، وحين انتهى الفيلم كنت فى شدة الغيظ لأنى تجرعته حتى الثمالة، فكتبت مقالة ساخرة حول الفيلم ووضعت لها عنواناً «منك لله يا عبدالواحد» مستغلة إيفيه كان يردده أبطال الفيلم كل لحظة وهم ينادون يا عبدالواحد.

وتصورت حينها أن الأمر قد انتهى وفيلم يفوت ولا حد يموت إلا أن بعد أسابيع وجدت محامى جريدة الفجر التى كنت أعمل بها آنذاك يبلغنى بأن هناك قضية مرفوعة ضدى من عبدالواحد العشرى فتعجبت هل مقال عن فيلم سيئ سيدفع بى إلى ساحة القضاء متهمة يا نهار أسود! ولكن المحامى أكد لى أن لا شىء يستدعى القلق لأن ما كتبته لا يحمل سباً أو قذفاً، وبالتالى فلا داعى للقلق.

ومرت أسابيع أو ربما شهور والتقيت عبدالواحد فى نقابة الصحفيين فذهبت إليه أعاتبه وقلت له ساخرة «يعنى أنت تعمل فيلم وحش وأنا أتعذب بيه ولما أكتب إنه وحش ترفع على قضية هو إيه الجنان ده، كان مفروض أنا اللى أرفع عليك قضية»، فابتسم عبدالواحد رحمه الله ابتسامة طيبة وقال لى إنه تنازل عن تحريك القضية ثم أضاف لى بنفس الابتسامة الحانية أنه اتجه للقضاء ليس من أجل مقال عن فيلم ولكن من أجل ابنته فتعجبت وما علاقة ابنة عبدالواحد التى لا أعرفها بما كتبت، فسارع ليُفهمنى وكأنه يقتلنى دون أن يدرى بأن ابنته طالبة فى الجامعة وأنها بعد قراءة مقالى الساخر لم تذهب للجامعة خجلاً أن يكون زملاؤها قرأوا المقال ويعايرونها بسخريتى من والدها.. وكأن عبدالواحد فى هذه اللحظة لخص لى كل خطايا مهنتنا وكأننى فجأة شعرت بأن سن قلمى لم يكن إلا نصل سكين شهرته فى وجه من لا أعرفها بسبب مقالة ساخرة عن فيلم لن يكون أول الأفلام ولا آخرها، وأعترف أنى فى هذه اللحظة سقطت دموعى خجلاً وحزناً وخوفاً فكم من آخرين قد يكون أذاهم قلمى، وكم من أقلام تقتل وهى لا تدرى بأى ذنب تقتل.

عبدالواحد العشرى مات ولم يقدم سوى فيلمين لن يبقيا فى ذاكرة السينما، ولكنه قدم لى درساً أتمنى فى كل لحظة ألا أنساه، فالكلمة نور وبعض الكلمات قبور حتى لو كانت لمجرد السخرية، وها أنا أنقل لكم ما علمنى إياه هذا الرجل وابنته الشابة فعذراً ثانية وحق له أن أقول له ولها الله يرحمك يا عبدالواحد.



أكثر...