ابراهيم ابن ادهم







.أمسى أميرا وأصبح أجيرا .....قصة واقعية مدهشة عن شخصية مشهورة تعتبر مثالا صارخا في الزهد




إنه شاب في ريعان الشباب ؛ يملك الثروة والسلطة والعزو الجاه ؛ فقد كان أبوه ملكا ، وكان هو أميرا مدللا ، يسير بسيره جيش من الخدم و الحشم ، يرفل حلل العز، يتقلب رياض النعيم ....




وفجأة تأبى نفسه كل هذا المتاع الذي يبهر النفوس !! و يسلب العقول!!




ثم يؤثر عليه ماعند الله ! لقد تنازل عن ذلك كله طيبة به نفسه !!




خرج من الغنى إلى الفقر !!




ومن العز إلى الذل !!




ومن الاجتماع إلى الوحدة !!




ولما كان لابد للإنسان ما يقيم أوده من طعام وشراب وكساء ، و كان هذا الرجل عزيزالنفس لايرضى أن يمد يده لأحد ؛ عمد إلى عمل يكسب منه لقمة عيشه ، فصار أجيرا في حفظ البساتين وحراسة المزارع ... فتحول بذلك من أمير إلى أجير !!!!!!!!!!!!!!




هناك تساؤلات كثيرة تثيرها النفس ... ندعها الآن لأننا سنجد الإجابة في سيرة بطل هذه القصة فمن هو ياترى....؟




إنه الزاهد المشهور إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي الخرساني البلخي .




ولد في مكة عندما كان أبواه يؤديان فريضة الحج , نشأ إبراهيم في بلخ بخراسان في بيت عز ورئاسة فقد كان أبوه من ملوك خراسان ’ وكان صاحب ثروة عظيمة ,وخدم وحشم وقصور وبساتين , وكان إبراهيم بن أدهم يعيش في هذا النعيم المقيم , والجاه العريض , فقد كان يرافقه عشرون خادما مابين فارس وراجل لخدمته وحمايته فهو الأمير المدلل المحبوب من أبيه وأمه , المبجل من أهل محلته لمكانته الاجتماعية أولا ولحسن خلقه ثانيا وشفقته على من يحيط به , ومع هذا الثراء الواسع , والجاه العريض , فقد كان أبوه صاحب ديانة وصلاح ولذلك فقد نشاء إبراهيم في بيت عز وصلاح وتقوى ولذا فلا بد أن يكون قد درس وتعلم العلوم الشرعية منذ صغره مثل أولاد الأثرياء حيث يخصص من يقوم بتعليمهم وتأديبهم حتى ينالوا من العلم حظا وافر .




وقد ذكر الذهبي أن إبراهيم بن أدهم كان من المحدثين , وذكر جماعة من أخذ عنهم الحديث منهم والده ومالك بن دينار , والأعمش . ثم ذكر جماعة ممن أخذوا عنه الحديث منهم سفيان الثوري , وشقيق البلخي , وبقية بن الوليد .




إذن لقد عاش إبراهيم بن أدهم بداية حياته عيشة المترفين المنعمين , الذين يحدوهم الجاه والثروة , وقد ذكرت الروايات أنه كان يحب الصيد القنص في البراري والمروج شأن المترفين وأرباب النعمة في كل عصر .




أما قصة تحوله من هذا الجاه العريض , والنعمة السابغة , فهي عجيبة حقا ’ وسأرويها كما ذكرتها المصادر : قال أبو نعيم الاصفهاني : أن أحد أصحاب إبراهيم بن أدهم ويسمى إبراهيم بن بشار قد سأله : كيف كان أوائل أمرك حتى صرت إلى ما صرت إليه ؟ قال إبراهيم غير ذا أولى بك . فقال له : هو كما تقول رحمك الله ولكن أخبرنا لعل ينفعنا به يوما , فقال له : ويحك اشتعل بالله فلما ألح عليه صاحبه , أجابه إبراهيم بن أدهم عن سؤاله قائلا : كان أبي من أهل بلخ , وكان من ملوك خرسان , وكان من المياسر , وحبب إلينا الصيد , فخرجت يوما راكبا فرسي وكلبي معي , فبينما أنا كذلك فثار أرنب أو ثعلب فحركت فرسي , فسمعت نداء من ورائي يقول : ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت , فوقفت أنظر يمنة ويسرة فلم أر أحدا , فقلت : لعن الله أبليس , ثم حركت فرسي , فإذا بي أسمع نداء أجهر من ذلك يا إبراهيم ليس لذا خلقت , ولا بذا أمرت , فوقفت أنظر يمنه ويسره فلا أرى أحدا , فقلت لعن الله إبليس ثم حركت فرسي فإذا أنا أسمع نداء من قربوس سرجي يقول يا إبراهيم ما لذا خلقت ولا بذا أمرت؛




فقلت أنبهت أنبهت ! جاءني نذير من رب العالمين , والله لا عصيت الله بعد يومي هذا ماعصمني ربي فرجعت إلى أهلي , فخليت عن فرسي , ثم جئت إلى أحد رعاة أبي فأخذت منه جبة وكساء وألقيت ثيابي إليه ! ثم أقبلت إلى العراق !!




هذا ماروته كتب التاريخ عن أمر تحول إبراهيم أدهم من النعمة والعز والجاه العريض إلى حياة الزهد والقناعة والانقطاع عن الدنيا , وهناك روايات أخرى غير هذه عن قصة تحوله عن الدنيا , وكلها تدور حول أن هناك إلهاما وكرامة حصلت لهذا الرجل , فطابت نفسة عن الدنيا , حصل ذلك في شكل صوت سمعه أكثر من مرة يحثه على ترك حياة اللهو والعبث .




بعد هذا التحول تغيرت حياة إبراهيم كلها فقد تخلى الرجل عن جميع ما يملك من حطام الدنيا ,ثم أنه انتقل من المنطقة التي يسكنها يعرفه الناس فيها . وهي خراسان إلى العراق ثم إلى الشام ,حيث لا يعرفه أحد , فهو لو بقي في خراسان لعامله الناس معاملة الأمراء , وميزوه عن العامة وهو لا يرغب في ذلك , لأنه يريد عز الآخرة , لا عز الدنيا .




إذن كيف صارت حياة إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام ؟




لقد سكن إبراهيم الشام وأكبر همه أن يحصل على الخبز الحلال ! قد كان حريصا أشد الحرص على ألا يدخل بطنه إلا الحلال الخالص من الكسب الطيب , فكان لابد لهذا الأمير المدلل الذي كان يرافقه عشرون خادما _ أن يشمر عن ساعده ويعمل بيده ليحصل على الخبز الحلال الذي ينشده _ فقد كان يقول : مانزلت الشام لجهاد ولا رباط , وانما نزلتها لأشبع من خبز الحلال !




فما العمل الذي يمارسه إبراهيم بن أدهم في بلاد الشام ؟




والجواب .. أنه كان يعمل في حفظ البساتين لأهل الشام ، أما مواسم الحصاد فكان يستغلها فيعمل أجيرا مع الحصادين لقد تحول من أمير إلى أجير !! وهو راض بذلك كل الرضي ! مغتبطا به كل الغبطة ! سعيدا به كل السعادة !




لقد تنازل عن عز الدنيا طيبة به نفسه , لأنه يريد عزا دائما لا ينقطع في الدار الآخرة , لقد كان أميرا يعمل أجيرا في حفظ البساتين أو حصاد الزرع الزرع , وكان بعضهم يشتط في طلباته حيث يأمره بأحضار أشيائه , ويكثر من حاجاته التافهة , وكان إبراهيم بن أدهم يلبي تلك الطلبات التافهة بنفس راضية , علما أن أصحاب الملك لو علموا أنه إبراهيم بن أدهم لحملوه على أعناقهم إكراما له , وتبركا به , لأنهم يعتقدون أنه من أولياء الله الصالحين , ولذلك فإنه إذا عرف من مكان انتقل إلى حيث لايعرفة أحد إنه يريد أن يعيش في الظل بعيدا عن الأضواء , لقد زهد في كل شي من أمور الدنيا حتى الشهرة والمجد وإليك هذه القصة تبين ذلك " قال إبراهيم بن أدهم : كنت في بعض السواحل وكانوا يستخدموني ويبعثوني في حوائجهم , وربما يتبعني الصبيان حتي يضربوا ساقي بالحصا, إذا جاء قوم من أصحابي




فأحدقوا بي و أكرموني ,فلما رأى أولئك إكرامهم لي أكرموني , فلو رأيتموني والصبيان يرمونني بالحصا, وذلك أحلى في قلبي منهم حيث أحدقوا بي "




وفي موضع آخر قال إبراهيم بن أدهم " بينما أنا قاعد علىباب البحر , إذا جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانه , فكنت في البستان ذات يوم فإذا أنا برجل قد أقبل ومعه أصحابه , فلما قعد في مجلسه , صاح ياناطور , فقلت هو أنا ذا . قال : اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه , فذهبت فأتيته بأكبر رمان , فأخذ رمانه فكسرها فوجدها حامضة فقال لي ياناطور أنت في بستاننا منذ كذا وكذا , وتأكل فاكهتنا وتأكل رماننا , لا تعرف الحلو من الحامض , قال : إبراهيم :قلت : والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا , وما أعرف الحلو من الحامض , فأشار الرجل إلى أصحابه فقال : أما تسمعون كلام هذا ؟ثم قال : أتراك لو كنت إبراهيم بن أدهم , ما زاد على ذلك ثم انصرف . فلما كان الغد ذكر صفتي في المسجد فعرفني بعض الناس , فجاء الرجل ومعه عنق من الناس , فلما رأيته قد أقبل مع أصحابه , اختفيت خلف الشجرة , والناس داخلون , فاختلطت معهم وهم داخلون , وأنا هارب "




فانظر _ رحمك الله كيف تنازل إبراهيم بن أدهم عن حياة العز والجاه العريض , وقنع بأن يكون أجيرا يخدم الناس , ويلبي طلباتهم مقابل حصوله على قليل من المال يشتري بالقليل منه الخبز الحلال وباقية يتصدق به .




والعجيب أنه يجد راحة نفسه وطمأنينة فؤاده عندما يكون في موقع يعامل فيه باحتقار




وأزد راء !! كما مر بنا في النص السابق عندما كان الصبيان يرمونه بالحجارة ، ويسخرون منه حيث قابله أصحابه فأكرموه ، فعرف أولئك قدره فأكرموه أيضا ، وأقبلوا يعتذرون إليه ويكرمونه .. ولكنه يقول : فلو رأيتموني والصبيان ترمونني الحجارة ؛ وذلك أحلى في قلبي منهم عندما أكرموني .....




وهذا أمر في غاية العجب ، لقد عزفت نفسه عن الدنيا ، وأقبلت بكل حواسها نحو الدار الآخرة التي هي المقر الدائم ....




إن مثل إبراهيم قد أراح نفسه من منغصات الدنيا كلها ، ألا ترون أن أحدنا عندما ينتقص من حقه أو يتعرض لإهانة ؛ يبات الليل كله في تعاسة ونكد ، فيضاعف بذلك همومه وأحزانه !!




فلو كان مثل هذا الرجل لأراح نفسه من كل ذلك !!




والرسول – عليه السلام – يقول : اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا وأحشرني في زمرة المساكين




هذا وسيرة ابن أدهم أكبر من أن يحيط بها مقال واحد وسيكون لنا لقاء آخر مع بعض مواقف ابن أدهم الإيمانية إن شاء الله تعالى