الاميرة الراهبة هي هند ابنة (الحيرة) عاصمة مملكة المناذرة دولة بني العباد التي كانت قريبة من النجف التي تقع على نهر الفرات، (امارة المناذرة) كانت مستقلة على وفاق مع الامبراطورية الساسانية الفارسية وكانت تصد هجمات الصحراء العربية. اسم (الحيرة) آرامية الاصل وتعني (الطرق المتقاطعة)، ويبدو انها كانت تقوم بنفس الدور السياسي العسكري لـ (دولة الحضر) السابقة القريبة من الموصل، والمتمثل بحماية الحدود العراقية التابعة للامبراطورية من الغزوات البدوية القادمة من الجنوب. بمجرد إن انتهت (الحضر) في القرن الرابع، قامت (امارة الحيرة) في نفس القرن. وبما ان (الحيرة) قريبة على (بابل) القديمة، فانها حملت الكثير من روحها الحضارية المندثرة. فسكان (الحيرة) هم من العراقيين الاوائل الذين كانوا قد اعتنقوا المسيحية النسطورية، لهذا كان يطلق عليهم لقب (عباد)، وتعني بالآرامية (المؤمنين)، وكانت لغتهم السائدة الآرامية. وفيهم قال الشاعر (يسقيـكما من بني العباد رشا - منتسـب عبـده إلى الأحـد) كان التواجد العربي في المدينة تمثله قبيلة (بني لخم) وكانوا يعرفون بـ (اللخميين) وكانوا العنصر الحاكم ومنهم (المناذرة) الذين شكلوا سلالة امراء الحيرة، وكان عرب الحيرة آراميوا اللسان ثم العربية وكان منهم شعراء نظموا الشعر الرقيق منهم المنخل اليشكري الذي (فاذا شربت فانني رب الخورنق والسدير) ثم (واذا صحوت فانني رب الشويهة والبعير) ثم يقول (احبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري).

مارست (الحيرة) تسامحا دينيا ليس له ضريب، فقد كانت الغالبية مسيحية نسطورية يشاركها بقايا معتقدي الديانات العراقية القديمة باوثانهم التي كانت تتمثل بآلهة الكواكب، وهم اتباع مذهب (عبادة القمر). وكان هناك اتباع (المانوية)، وكذلك اتباع المذهب المسيحي (اليعقوبي ـ المنفوزي) والصابئة الذين كانت اعدادهم كبيرة ثم اليهود من بقايا السبي البابلي وبقايا مملكة عيناب. كان الملوك واكثر السكان على المسيحية حتى سقوط المناذرة قبل الاسلام، وكان يرأس المسيحية أسقف. ومن (الحيرة) ذهب قسم من المبشرين العراقيين إلى اليمن والبحرين وعمان والأجزاء الأخرى من جزيرة العرب لنشر النسطورية العراقية. وفيها ايضا أنعقد مجمع (داد) يشوع في سنة 424 ميلادية لتنظيم شؤون كنيسة النهرين النسطورية. دولة المناذرة صارت مركزا مهما اذ كانت تظم اعدادا من الاديرة حيث كان يعيش فيها الرهبان الذين بالاظافة الى واجباتهم الدينية كانوا سدنة للمخطوطات التي كانت بالسريانية ثم انتقلت الى العربية بعدئذ. وينبغي الاخذ بنظر الاعتبار ان الاديرة كانت المكان الوحيد لحفظ التراث فلم يكن هناك من مكان لحفظ التراث غير الاديرة.

كان لمناذرة الحيرة صلات مع الجزيرة العربية وخاصة قريش التي كانت البارزة في الجزيرة العربية لموقعها في مكة، فمن الحيرة (سراة نصارى اشتركوا مع سراة قريش في الأعمال التجارية، مثل كعب بن عدي التنوخي، وهو من سراة نصارى الحيرة، وكان أبوه أسقفاً على المدينة، وكان يتعاطى التجارة، وله شركة في التجارة في الجاهلية مع عمر بن الخطاب في تجارة البز، وكان عقيداً لهم). ومن (الحيرة) تعلم العرب (الكتابة) وتم اشتقاق الخط العربي من الخط السرياني. قيل ان الخليفة هارون الرشيد زار الحيرة وشيد بها عددا من المباني وهذا قول غير اكيد لانه عندما بنى العباسيون الكوفة عاصمة لهم كانت الحيرة قد آلت الى الزوال حتى قيل ان حجارات قصر الخورنق والسدير نقلت الى الكوفة وبنيت بها القصور. وفي عهد المقتدر تعرضت مدينة الحيرة كغيرها من بلاد السواد لغارات البدو ثم اضمحلت وانتهت من الخارطة، وبرزت بعدها الكوفة ثم النجف.

الاميرة الراهبة هند ابنة (الحيرة) هي (هند بنت النعمان) وتعرف في التاريخ بـ ( هند الصغرى) تميزا عن (هند بنت الحارث). هند بنت النعمان بن المنذر ملك الحيرة , قيل عنها انها تزوجت من الشاعرٍ عدي بن زيد العبادي ثم قتله النعمان لوشايةٍ .ثم آثرت الترهب، وكانت هند تنظم الشعر الرقيق. كانت أميرة فصيحة من بيت إمارة، ولدت ونشأت في بيت الملك بالحيرة. قال أبو فرج الأصفهاني إن هند ترهبت (لما حبس "كسرى" "النعمان الأصغر" أباها، ومات في حبسه، ترهبت ولبست المسوح، وأقامت في ديرها مترهبة، حتى ماتت ودفنت فيه). وذكر الأصفهاني دير (هند الكبرى بنت الحارث الكندي) بالحيرة، وكان مكتوب في صدره (بنت هذه البيعة هند بنت الحارث عمرو بن حجر الملك بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك "خسرو أنوشروان"، وفي زمن "آفرايم الأسقف"، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما وبقومهما إلى إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهرين) كتب عنها جليل العطية الكاتب العراقي ف كتابه (الديارات). ترهبت ولبست المسوح وأقامت في دير بنته بين ( الحيرة) و(الكوفة) عرف بـ (دير هند الصغرى). وهو من اعظم ديارات (الحيرة) آنذاك، التي جميعها غابت آثارها. وقيل أن هند، عاشت حتى زمن الحجاج بن يوسف الثقفي (95 هـ )، وقيل زارها سعد بن أبى وقاص عند دخوله الكوفة.

الواقع ان هند الراهبة اساء المؤرخون ذكرها في روايات كثيرة لا اساس لها من الصحة، موضوعة ومتخيلة في عصور عديدة وهي من الروايات التي يروونها في جلسات الليل في قصور السلاطين، منها ذكرهم انها تزوجت الحجاج بن يوسف الثقفي فوالدها النعمان بن المنذر, [fot1]الملقب بأبو قابوس تولى الحكم في 582 م حتى 610 م وانتهي حكم المناذرة في 633 م. وفتح سعد بن أبي وقاص العراق سنة 636 م بعد موقعة القادسية اثر سقوط المدائن. اما الحجاج فقد ولي على العرق في عهد عبد الملك بن مروان الذي في 696 سك العملة و في 75 هـ حج عبد الملك وخطب على منبر النبي فعزل الحجاج عن الحجاز لكثرة الشكايات عنه، وأقره على العراق، ويعني ذلك ان الراهبة هند بنت النعمان كانت في شيخوختها وهذا الادعاء يظهر المدى الذي مرت به الاقوام في البلاد المفتوحة حيث اصبحوا من الدرجة الثانية في الاعتبار. ومن القصص الاخرى ماقيل ان خالد بن الوليد قابلها في صومعتها وجرى بينهما حديث قالت هي فيه (ما طلعت الشمس بين الخورنق والسدير إلا على ما تحت حكمنا، فما أمسى المساء حتى صرنا خولا "عبيدا" لغيرنا)، فأنشدت تقول (فبيا نسـوس الناس والأمر أمرنا - إذا نحن فيهم سـوقة نتنصف) ثم (فتبا لدنيا لا يـدوم نعيمها - تقلب تارات بنا وتصرف). هذا التجديف لم يسلم منه الجانبان في العصر الاموي والمؤرخين، فالمتصحف لرواياتهم يرى اما مدحا يمدحون انفسهم ويذمون الاخرين، ثم لا تستنكف الجانب الاخر في مدح النفس والصاق الذم بآلاخرين وهي صفة ماتزال قائمة بين ظهرانينا حتى هذه الساعة. [/fot1][fot1]

لم يترك لنا التاريخ الا القليل من شعر واقوال الاميرة الراهبة هند ابنة (الحيرة) غير ذاك الذي كان تنعي به حياتها وحياة المناذرة الذين سقطوا من علوهم الى الحضيض، حتى (دير هند الصغرى) لم يبق منه غير بناء متهدم في الأخيضر حيث يوجد أثر قديم يبعد 6 كم غرب الرزازة, ويظهر من الآثار الشاخصة أنه كانت فيه كنيسة ملحقة بالدير ومن بعض آثارها كتابات بحروف كلدانية. حتى المؤوخون اهانوها اذ جعلوها جارية ادخلوها في كتابات معدة لقضاء الليالي في دواوين السلاطين.