المناذرة سلالة عربية قامت في وادي الرافدين قبل الاسلام، عاصمتها الحيرة القريبة من النجف، اسسها العرب الذين هاجروا من اليمن بعد انهيار سد مأرب الحدث الذي عرف تاريخيا بـ (السيل العرم) فهاجرت قبائل تنوخ ومنها نصر بن ربيعه القشعميه من بنو لخم (المناذرة) الذين اقاموا مملكتهم بعد زوال مملكة ميسان و مملكة الحضر. استمرت مملكتهم في الحيرة من (268-633 م). كانت مملكتهم في تعاون مع المملكة الفارسية لانها كانت سدا في وجه غزوات القبائل العربية الآتية من شمال الجزيرة العربية، وقد امتدت امارتهم حتى مشارف الشام وعمان والبحرين وهجر وسواحل الخليج العربي. واقامت لها صلات تجارية مع الحضر وتدمر والأنباط حتى قريش، وكان لمملكة المناذرة اسواق عربية شعرية تقام في الحيرة وفي دومة الجندل ينشدون فيها الشعر والخطب، وكانت لهم خطوط للتجارة كما كان يحدث في رحلات الشتاء والصيف في الحجاز وكانوا يحملون البضائع الفارسية بمقايضتها باخرى ترد من بيزنطة والغساسنة والعرب. وتقول الروايات ان جذيمة الأبرش كانت له علاقات وثيقة بزنوبيا ملكة تدمر. أطلق ملوك المناذرة على انفسهم لقب (ملوك العرب) اذ كتب على قبر امرؤ القيس الأول المتوفى عام (288 م) (هذا قبر امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم). وكان للمناذرة إنجازات عظيمة منها كان لهم أسطول بحري في البحرين هاجموا فيه مدنا فارسية وسيطروا على مدن تمتد من العراق حتى نجران. سجل المناذرة كتاباتهم باقدم نوع من الخط العربي وكانت الحيرة مهدا للخط العربي اذ ذكر المؤرخ البلاذري ان الكتابة العربية تعود الحيرة و الأنبار. كانت الحيرة قاعدة عسكرية كذلك فقد ساند المنذر الخامس الجيش الفارسي في حربهم ضد الرومان في معركة (كالينيكوم) قرب الرها, ويتحدث ابن قتيبة عن الحرب الشهيرة بين المناذرة والغساسنة في (يوم حليمة) في بصرى جنوبي سورية هي مضرب للأمثال كـ (ما يوم حليمة بسر). كان المناذرة على العقيدة المسيحية تعاون معهم الأكاسرة الساسانيين لانهم كانوا حمات بلاد فارس بمساعدة الفرس ضد الهجمات العربية الآتية من الجنوب، وكانوا ايضا اصدقائهم ضد البيزنطيين وكان المناذرة على سماحة اذ كان لليعاقبة اسقفيتان عربيتان هما اسقفية عاقولا واسقفية الحيرة. والجدير بالذكر ان (بنو عباد) ملوك الطوائف في الأندلس و(بنو الورد) حكام بنزرت في تونس كانوا احفادأ للمناذرة. تقع الحيرة التي اشتق اسمها من السريانية ومعناه ملتقى الطرق، كانت قرب الكوفة الحاليا وقريبة من نهر الفرات ويمر فيها نهر متفرع من نهر الفرات يسمى نهر (كافر) الذي يروي الحيرة ومنه كانوا يركبون في القوارب, وقد اشتهرت الحيرة بفنونها وصناعاتها مثل الغزل والدبغ وكانت مدينة الغناء وكانت مشهورة بالدف والعود والمزمار, ويذكر أن بعض ملوك فارس درسوا في الحيرة مثل بهرام الخامس الذي تعلم الأدب والفن والفولكلور والفروسية في الحيرة. كانت الحيرة بيتا للاشعاع الفكري والأدني وزخرت بالمدارس فقد تلقى إيليا الحيري مؤسس دير مار إيليا دراسته الدينية في الحيرة, كما تلقى مار عبدا الكبير دراسته في الحيرة, وكذلك تعلم المرقش الأكبر وأخوه حرملة الكتابة وبعض العلوم في الحيرة, كان لموقع الحيرة الأثر الكبير في تلاقح الحضارات, وقد كان ملوك الحيرة يشجعون الشعراء بالعطايا والصلات فقد كان من شعراء الحيرة، امرؤ القيس والمثقب العابدي والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد ولقيط بن يعمر الأيادي وعدي بن زيد العبادي وعمرو بن كلثوم وعمرو بن قميئة وأعشى قيس والمرقش الأكبر ولبيد بن ربيعة والمنخل اليشكري, وقد كانت الحيرة مركزا علميا هاما, وملتقى الأدباء في الجاهلية, وكان النعمان بن المنذر يجمع شعراء العرب في قصر الخورنق, ويقيم مهرجانا أدبيا, وتطور الطب في الحيرة لانصالهم بمدرسة (جنديسابور) في الاحواز, وظهر منهم حنين بن اسحق العبادي طبيب المتوكل في العصر العباسي وكان ابوه صيدلانيا بالحيرة، اما حنين بن اسحق فقد قال عنه المستشرق (لاكلارك) بانه كان اعظم شخصة علمية ظهرت في بغداد في القرن التاسع الميلادي. اشهر ما تركه المناذرة بناء القصور في عاصمتهم واسموه الطراز الحيري الذي استنسخة العباسيون, ويذكر المسعودي أن المتوكل العباسي اتبع في بناء قصوره نظام البناء المعروف بالحيرة والكمين والأروقة وذلك أن (بعض سماره حدثه في بعض الليالي أن ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصربن ربيعه أحدث بنيانا في دار قراره وهي الحيرة), فكان الرواق فيه مجلس الملك وهو الصدر, وفي اليمين منها خزانة الكسوة, وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب, والرواق وقد عم فضاؤه الصدر, والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق, فسمي هذا البنيان في هذا الوقت بالحيري والكمين, وكان من فن الطراز الحيري نظام القبب فكانت تضاف ثلاث قبب متجاوره في مركز المبنى, وذكر ياقوت ان الحيريين يجعلون في حيطان دياراتهم الفسيفساء وفي سقوفها الذهب والصور.
اجرى آثاريون حفريات في أطلال الحيرة عام 1931م هما (رتلنكر) و (رايس) اكشفوا آثارا من بينهما بازيليكيتين مسيحيتين اي مذبحين من الآجر وقد ثبت من الحفريات أن كنائس الحيرة لم تكن مزودة بحنيات انما كانت تنتهي بفتحات مربعة الشكل على النحو الشائع في معابد آشور وبابل, وكذلك عثرت البعثة على صلبان من الفضة وقناديل من الزجاج, وكانت الجدران مكسوة بطبقة جصية فيها زخارف نباتية, وقد عثر هذان الباحثان في أحد دور الحيرة على زخارف مدهونة في الجدران بألوان زاهية والأصباغ يتكرر فيها عنصر الصليب محاطا بدائرة. اذ ان سكان (الحيرة) هم من الاوائل الذين اعتنقوا المسيحية النسطورية، لهذا كان يطلق عليهم لقب (عباد)، وتعني بالآرامية (المؤمنين)، وكانت الحيرة تتحدث العربية والآرامية والفارسية.
ترك المناذرة آثارا تكرر استخدامها في العصر العباسي منها القصور وهي القصر الأبيض وقصر بن بليلة وقصر العدسيين الكلبيين وقصر الزوراء وقصر بني مازن وقصر سنداد وقصر العذيب وقصر مقاتل وقصر الصنبر واشهرها قصر الخورنق والسدير وقصر (الأخيضر) قرب كربلاء. كانت مملكة المناذرة عامرة بالادير والصوامع منها دير اللج ودير الحريق ودير مارت مريم ودير العذارى ودير ابن براق ودير بني مرينا ودير حنة ودير الجرعة ودير مزعوق ودير الأكيراح ودير الأسكون واشهرهم دير هند الكبرى ودير هند الصغرى. وكان مجتمع الحيرة مثلا للتسامح الديني، اذ ضم المناذرة الكثير من الطوائف الدينية، بجانب الغالبية المسيحية النسطورية. فكان هناك اتياع الديانة القديمة باوثانهم التي تمثل آلهة الكواكب، وبالذات اتباع مذهب (عبادة القمر). وهناك ايضا اتباع (المانوية)، والمذهب المسيحي (اليعقوبي) واليهود والصابئة. وفيها ايضا أنعقد مجمع (داد) يشوع في سنة 424 م لتنظيم شؤون كنيسة النهرين النسطورية. ومن (الحيرة) تعلم العرب (الكتابة) اذ اشتقق الخط العربي من الخط السرياني وقبل الاتنهاء من هذا السرد لابد من الاشارة الى امرؤ القيس فهو اشهر شعراء دنيا العرب، قيل عنة انه قصد القسطنطينية مطالبا بعرش ابيه ومما قال (بكى صاحبي لما رآى الدرب دونه وايقن انا لاحقان بقيصرى - فقلت له لاتبكي عينك انا نحاول ملكا ان نموت فنعذرى) وله معلقته المشهورة (فقا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل)، اما المنخل اليشكري فقد نظم شعرا لطيفا قال فيه (اذا شربت فانني رب الخورق والسدير) (واذا صحوت فانني رب الشويهة والبعير) حتى قال (احبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري). ينبغي ان لا ننسى (هند بنت النعمان) وتكنى ايضا بـ ( هند الصغرى) كانت أميرة فصيحة من بيت إمارة، نشأت في بيت الملك بالحيرة، غضب (كسرى) على أبيها (النعمان) وحبسه فمات في الحبس، ترهبت وأقامت في دير بنته بين ( الحيرة) و(الكوفة) في (دير هند الصغرى). وهو من اعظم ديارات (الحيرة)، التي غاب أثرها. قال أبو فرج الأصفهاني، عنها (ترهبت ولبست المسوح، وأقامت في ديرها مترهبة، حتى ماتت ودفنت فيه). وذكر الأصفهاني عن دير (هند الكبرى بنت الحارث الكندي) وكان مكتوب في صدره ( بنت هذه البيعة هند بنت الحارث عمرو بن حجر الملك بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وأمة عبده، في زمن ملك الأملاك (خسرو أنوشروان)، وفي زمن (آفرايم الأسقف)، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها، ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما وبقومهما إلى إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهرين).
كان المناذرة حلفاء الساسانيين اذ كانوا يصدون هجمات الصحراء ساندوا الفرس معركة (كالينيكوم) قرب الرها. وخاضوا معركة (ذي قار) بسبب غدر كسرى فارس خسرو الثاني بالنعمان بن المنذر، قاتلوا الفرس وانتصروا عليهم، عام (610م). بلغ عدد ملوكهم الاثني عشرة منهم عمرو بن امرؤ القيس والنعمان بن امرؤ القيس واشهرهم النعمان بن المنذر, الملقب أبو قابوس. قيل من اقوال هند انها بكت حرقة يومًا، وهي في عزها، فقيل لها‏‏ ما يبكيك، لعل أحدًا آذاك‏؟‏ قالت‏‏ لا، ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت الدار سرورًا إلا امتلأت حزنًا‏.‏ كان ذلك السقوط الابدي للمناذرة ولم يبق من آثارهم اثرا، انها اسوأ ضربات التاريخ، حتى سور بغداد المدورة نقلوا حجاراته وبنوا لهم بيوتا تهدمت في سقوط بغداد المتتالي حتى عصرنا الذي يعيث فية الفاسقون فسادا دون وازع.