خلع شهرا نيسان وأيار بُرديهما على امتداد الربوع الفسيحة , وتضوعت البساتين بعبق الرياحين , تألق من بين بيوت القرية, بيت ابي همام , توافد الرجال في عصر يوم مبارك هو يوم الجمعة, وصدح في فضاء القرية صوت الهاون وهو يسحق حبوب البن , يحيلها الى مسحوق ناعم . كان لرنين الهاون موسيقى بدوية معروفة, سرعان ما تتبدل الى موسيقى لا تقل عنها رقة وعذوبة, حتى يخيل اليك ان حفيف اوراق الشجر يرقص طربا اعجابا بها. تنعم شبان القرية وهم يتداولون " يد " الهاون يتعاونون على تحضير مسحوق البن, ولكل منهم اغنية يصدح بها ويترنم وهو يعزف ايقاعا يخلب الالباب, كان سالم وهو الاخ الاصغر لهمام معجبا باغنية بدوية لطالما استأذنه الشبان ان يكرر ترديدها " يالله دكو هالكهوة او زيدوها هيل صبوها للنشامى بظهور الخيل" . تتشابك ايدي الرجال ويزدان المكان بالدبكة البدوية, على وقع موسيقى رنة الهاون.
خرج الرجال من بيت ابي همام يتقدمهم احد الوجهاء تحددت وجهتهم الى بيت ابي حاتم .
لم يكن بيت ابي حاتم اقل روعة وتأنقا من بيت ابي همام , كان الاثنان قد اتفقا ان يكون هذا اليوم امتدادا وتتويجا لصلة الرحم التي تربط العائلتين . ومضات الفرح تأطر الشارع الترابي بين بيت ابي حاتم وبيت ابي همام , توافدت النسوة كما الرجال صوب بيت ابي حاتم, ازدحم البيت بالقادمين , تعالت زغاريد النساء, وشاركتها الصبايا اصواتها الشجية وكل واحدة منهن تغمز صاحبتها بأن صوتها ارق ايقاعا واعلى اسماعا. تورد وجه همام وهو يتقبل التهاني من الحضور, لقد امسى همام واسماء خطيبين. نظر همام الى حاتم وقد استرجع تلك اللحظات التي همس بها حاتم الى ابي همام, احتضن همام نسيبه حاتم والدمعة تسقط كحبة اللؤلؤ على خده ثم قال لحاتم " الزلم على قدر افعالها, الله يحييك يا اخي" تبسم حاتم ضاحكا واعاد التحية الى همام وهو يشد على يديه " انت حزام ظهري"
تفرق الرجال الى مرامهم وأهليهم, تبعتهم النسوة , اما همام وابيه فقد تأخرا قليلا.
تعالت زقزقة العصافير على شجرة التوت الكبير امام بيت ابي همام كأنها تشاركهم الفرح والمسرة في وقت قاربت فيه الشمس على المغيب.
استيقظت القرية على رائحة البارود عالقة بملابس الجنود الذين عادوا باجازة من وحداتهم وهي تزاحم رحيق البنفسج وشذا الاقحوان. قصص وحكايا يتندر بها العائدون من الوحدات العسكرية المرابطة قرب الحدود. انفتحت الاعين على احداقها, وفرضت الحكايا التي تناقلها الجنود حضورها في الدواوين والمضائف وجلسات المزارعين في الحقول. كانت بوادر الشؤم تلوح في الأفق, وبدأ صوت الرصاص يعلو على صوت الحناجر.
تضع ام همام رأسها بين كفيها وهي تستمع الى القصص المتناثرة هاهنا وهناك عما يدور قرب الحدود, وبدأت تستعجل همام لإنهاء مراسم الخطوبة والاستعداد للزواج.
تكاثرت الاناشيد الوطنية في الاذاعة والتلفاز, وتغيرت كلماتها وطبيعة انشادها.
فوق اجواء المدن كان للطائرات الحربية وصفارات الانذار نصيب , وتداول الناس كلمات لم نكن نسمعها من قبل , الموظفون في الدوائر الرسمية يخضعون لدورات اجبارية في الدفاع المدني, واستدعاء للجنود الاحتياط بشكل ملفت للنظر . وقف ابو همام في ساحة البيت الفسيحة , ضرب بكفه على ساقه, نظر الى ام همام وهي تنظف ركنا من ساحة الدار , هز رأسه قليلا, ردد بصوت خافت, انها الحرب, انتبهت ام همام لزوجها , وقفت امامه ولم تنبس ببنت شفة لكن الاستغراب كان واضحا على محيا وجهها الاسمر الذي لوحته شمس الحقول , ادام ابو همام النظر الى زوجته وقال " اللهم اني لا اسأل ك رد القضاء ولكني اسألك اللطف فيه"
سلاما نلتقي غدا