لقد خصنا الكاتب والقاص العراقي المبدع علي حسين عبيد ، بمجموعة رائعة من المقالات والقصص ، وقد وعدني بالدخول الى منتدنا ....
رائحة التأريخ

هل للمكان سحره الخاص وسطوته القوية على الانسان، هذا ما عشته وأنا أطالس مكانا جديدا مغسولا بالاساطير، فما أن دخلته صحبة الاصدقاء المغاربة والعراقيين حتى شعرت أن رائحة الماضي الغامض تخترق ذاكرتي التي ربت على الخمسين وهي محملة بإرثٍ نادر وحاضر غريق، توقفت برهة لتنهض حياتي وسط بنايات منسقة ومطلية ومسربلة بروح التأريخ، إنه الحي الحضري او هكذا يسميه ساكنوه وهو يستحق هذه التسمية عن جدارة.
في هذا الحي (البرتغالي/ الاندلسي/ المغربي) الكائن بمدينة الجديدة ستعيش عالما آخر كأنه لا ينتمي الى عالم الارض وواقعها، وستشعر بأنك مفصول عن اللحظة الأرضية وغارق في بطون التأريخ المضاءة بأنفاس الاجداد او انك قفزت الى اعماق المستقبل السحيق، وسيأخذك هذا الشعور من تلابيبك في الاماسي العابقة برائحة التراث الأصيل المدهش، وستبدأ المفاجآت السارة من لحظة دخولك البوابة الخرافية لهذا الحي الفلكلوري المتفرد حيث تتطلع بفضول كبير نحو تصاميم البيوتات الموغلات في القِدَم ليس من حيث بنائها بل من حيث تصاويرها المضمخة برائحة التأريخ الحادة وأشكالها المعمَّدة بروح الأصالة، فنوع الاحجار سيحيلك فورا الى أحجار وتماثيل ورسوم ومسلات بابل الحمورابية واشكال النوافذ والابواب ستعيدك فورا الى الانفاس الاندلسية الخالدة التي تركت (شهيقها وزفيرها) وبصماتها ليس في المدن الاسبانية العربية (قرطبة وسواها) فحسب وانما هنا في الشوارع والزنقات المغربية ستلمس لمس اليد أمجاد الاجداد التي لا تزال أنفاسها تفور في صدور الاطفال والشيوخ والنساء معا، فها هم اطفال هذا الحي يتطلعون للزائرين بمحبة وثقة مدعومة بثقة التأريخ وصدقه، ولن تستغرب عمق وصدق وسكينة هذه النظرات التي لم ترها في عيون اطفالك الغائصين في وحل الاطماع والتقاتل بين الكبار والصغار، أولئك اللاّهون الساهون عمن يوغل بذاكرتهم محوا وتزييفا وتهريبا.
وستدخل القاعة التراثية، وسيأخذك الماضي بأحضانه بقوة، إذ حتى الارض التي تستقر عليها أقدامك تقول لك انا انتمي الى ذلك الزمن الانساني الباهر، وعلى الجدران سوف تقرأ بوضوح لا يقبل اللبس صفحات مشرقة ووجوها كالشموس وأرواحا تنضح بالاصالة والتفرد، سلسلة متعاضدة من الزخرفات والإيقونات واللوحات الفنية الصادقة الاطوار تلامس بصيرتك وسريرتك وبصرك وتقول لك، خذ هذا جزء من تأريخك الانساني، وستقول أنت لنفسك من يجرؤ على قتل هذا الإرث التليد، ولكن لماذا يحاولون ذلك في بغداد وفي العراق، لماذا هتكوا حرمة المتاحف، والمكتبات، وجسر الصرافية، لماذا هذا الاصرار على قتل الذاكرة الانسانية في العراق.
وها انك وسط هذه القاعة المهيبة الساحرة المحمية بتعويذة الفن والخير والحق والجمال، ها انك تحلم بمن يحمي قلبك وعقلك وذاكرتك وتأريخيك الذي ينتمي في كل الاحوال الى ذاكرة الانسان على مر الأزمان.
علي حسين عبيد