انفجر الليل على دوي غير مألوف وأزيز الطائرات يمزق صمت القرية وسكونها تشرأب العيون الى الاعلى ، خطوط بيضاء بمسارات متقاطعة تزين السماء ، وحده اكرم كان يعلم ما يجري فهو قد حصل على تعليم لا بأس به فضلا عن ذلك فأنه مدرب ذو باع طويل في مدارس القتال وحصل على اكثر من ترقية عسكرية لجهده الدؤوب ولاجتيازه الدورات العسكرية بتفوق ولتقدير طلبة الدورات العسكرية واساتذتها لكفاءته .
امتاز اكرم بهدوء دمث واخلاق رفيعة اضافت لها دواوين القرية حنكة وخبرة وهذبتها الايام بمراسها .
لم يشهد الاطفال مثل هذا اليوم من قبل ، ولذلك تراهم يتزاحمون حول بعضهم او يتخفون خلف جذوع النخيل عند كل دوي وازيز طائرة مقاتلة .
هتفت الارض برجالها ، ذكوات تقف عند حدود الفحولة تجمعوا عند الحقل حيث يركن اكرم ظهره الى بقايا محلة القمح .
لفافة التبغ لم تفارق شفاه اكرم منذ الفجر ،هدرت النفوس التي جبلت على الكرامة ، وعـــلا وجيب قلوب الرجال ، لطالما استمعوا مبهورين الى قصص الابطال عبرالتاريخ ، هكذا يغرس الاجداد مآثرهم في النفوس ، هكذا تربت الاجيال في ديوانية المضيف.
كان الشرر يتطاير من مقلتي اكرم تكاد لا تميزهما عن جمرتين متقدتين او عيني ضيغم في حلكة الظلام .
هصر ذهنيته بعصف فكري عبر خطوط متداخلة من القضايا ، لم يكن ليدفع عنه المشاكل بأزملها فما هو الا واحد من ابناء القرية الذي ابعدته السنون عن الاستمرار في الخدمة العسكرية ، عاد الى حيث المنجل والمسحاة يعالج الارض بعقلية اكثر تفتحا ولذلك فهو حجة بين اقرانه المزارعين يحكِّمونه فيما اشكل بينهم من مواعيد الحراثة والبذار .
أناخت الايام راحلتها فويق بساتين القرية وألقت بأزمتها لتستريح من المخاض جاءت بوليدها في غير زمانه ولغير ابائه وألقت به في غير ما أرادت .
لم يعتد الرجال ان تلوح لهم الشمس بالمغيب وهم في الحقول يستمعون الى ما يقوله اكرم عن هذا اليوم العصيب ، نهض اكرم ونهض معه الجميع هذا وقت صلاة المغرب قالها بصوت خافت بدت عليه سحنة الحزن واضحة .
حانت منه إلتفاتة الى الوراء فلاحظ ابا همام مطرقا برأسه الى الارض فبادره اكرم يا أبا همام نحن اخوانك فأن كنت بحاجة الى المال فقل ما تريد, اراك قد تأخرت بزفاف همام ... وبين من اثنى على اكرم موقفه لابي همام وبين من استدرك القول واستعذبه وبادر الى مثله ... شق صوت الاذان طريقه الى الاسماع وبدء الليل يرخي سدوله على ربوع القرية .