فى منطقة شديدة الخصوصية تقف «الست» أم كلثوم وحدها، وحتى يومنا هذا، رغم وفاتها منذ عقود، متفردة تشدو وتصدح بصوتها القوى العذب الذى يخترق الروح والوجدان ليصعد بهما إلى جبال العظمة.

كثيرون من الأجيال الجديدة، لا يعلمون الكثير عنها، وبالنسبة لهم فإنها مطربة يسمعها فقط من يعرفها من الأجيال التى تربت على صوتها، ويظل معظمهم يردد هذا الكلام، إلى أن يعرف الحب طريقه إلى قلبه، ولكنه ليس ذلك الحب العابر، بل الحقيقى، الذى يحمل كل المشاعر، من حيرة وغيرة واشتياق ولوعة، فساعتها يتحول المحب أيًّا كان عمره إلى باحث عن صوت أم كلثوم مفتشًا فى أغنياتها عن ظلال حكايته، ومعنى يزيده قربًا من المحبوب.

وحده الحب هو مفتاح السر فى العلاقة بين كوكب الشرق وجمهورها، فنحن نعشق فيروز، ونحلق بصوتها إلى السماوات السبع، ونحب الاستماع للكثير من الأصوات الجميلة والمتميزة، ولنا ذكريات مع الكثير من الأغانى، ولكن «الست» حالة خاصة، نتوحد معها ونذوب بين نغماتها كلما اقتربنا من العشق، أو لنكن أكثر دقة ولنقل «الوجد الإنسانى»، تكتشفها، وتدرك معنى أغانيها، ليس ذلك فقط، بل تكتشف نفسك معها، ذلك هو سر وعظمة صوت أم كلثوم، تلك المرأة التى وعت مبكرًا لجماليات صوتها، والتى وظفت ذكاءها فى تطوير نفسها، فغنت كل الأشكال، من الطقطوقة والموال، والأغنية الخفيفة، والقصيدة، إلى الأغانى الوطنية، وتمكنت من أن تتلون بصوتها، تبهجنا حين تغنى فى فيلم سلامة، وتقول «القبلة إن كانت للمحبوب اللى على خد الورد يدوب، ياخذها بدال الوحدة ألوف، ولا يسمع للناس كلام ولا يخشى للناس ملام»، وتطربنا وهى تشدو «أعطنى حريتى أطلق يدىّ» فى القصيدة العظيمة «الأطلال»، ويتأوه معها المحبون، عندما تتغنى بكلمات أغنيتها «أنت الحب»، وتقول «لكن أغير م اللى يحبك ويصون هواك أكتر منى»، أما خصام المحبين، وقربهم فتعرفه عندما تغنى «الحب كده»، مرددة «الحب كده وصال ودلال ورضا وخصام أهو من ده وده.. الحب كده مش عايز كلام.. الحب كده.. حبيبى لما يوعدنى تبات الدنيا ضحكالى.. ولما وصله يسعدنى بافكر فى اللى يجرالى.. ينسينى الوجود كله ولا يخطر على بالى.. ولما طبعه يتغير وقلبى يبقى متحير مع الأفكار أبات فى نار وفى حيرة تبكينى وبعد الليل يجينا النور وبعد الغيم ربيع وزهور، وأهو من ده وده الحب كده مش عايزة كلام.

ما يقرب من الـ40 عامًا مرت على رحيلها وماتزال أم كلثوم وأغانيها مرادفا للحب والحياة، وعلمت المحبين ومستمعيها أن هناك طقوسًا خاصة، عند التواصل معها والاستماع إليها تشدو، لا يجوز أن تسمع الست وأنت تأكل أوتفعل أى شىء آخر، فقط تتفرغ لها وتدخل محرابها، لتصبح مثل المتعبد الناسك فى محراب الحب، وحدك مع صوتها قد تكتشف للحياة معنى أجمل وترى المحب فى قربه منك، أو بعده عنك، أو تبكى من الهجر والفراق، ويستدعى خيالك جمال فترة. بأكملها، عندما كانت النساء تتزين وترتدى أجمل ما تملك وهى ذاهبة للاستماع إليها، وكذلك كان الرجال، عصر كامل كان يمتلئ بالتفاصيل المختلفة والجميلة والأنيقة، وهو ما يغذى الروح، لذلك سنظل رغم مرور السنوات نردد مع المحبين والعاشقين عظمة على عظمة ياست.



أكثر...