عروبة العراق القديم

تمهيد في صلة العراق بجزيرة العرب وموجاتها إليه ومصادر تاريخ هذه الموجات فيه،مختارات لمحمد عزة دروزة:
ليس هناك من يماري في طروء جماعات أو موجات متلاحقة إلى العراق، في مختلف أدوار التاريخ القديم، ما يسمى "ساميين"، وسميناهم "الجنس العربي"، وغلبة طابعهم على هذا القطر، وعلى من كان فيه، قبل طروئهم المعروف من غير جنسهم، أو جاؤوا إليه، بعد أن أخذوا يطرأون عليه، وعدّوه بذلك مهجراً من مهاجر جنسهم، وموطناً من مواطنهم الثابتة.
وإذا كان هناك من يتوقف في التسليم بأن جزيرة العرب هي موطن ما يسمى ساميين، أو يتردد في القول إن الموجات السامية أي العربية الجنس، حسب اصطلاحنا، التي طرأت على العراق، قد جاءت من جزيرة العرب، فإن من هؤلاء من يقول: إن جرثومة الساميين التي قد يكون موطنها الأصلي غير جزيرة العرب، قد نزحت إلى هذه الجزيرة، ونمت فيها، ثم أخذت تهاجر منها إلى العراق وغيره لأسباب اجتماعية وجغرافية مختلفة. هذا إلى أن أكثرية الباحثين، يقررون أن جزيرة العرب هي موطنهم، وأن الجماعات أو الموجات المتلاحقة التي جاءت إلى العراق قد جاءت منها، حيث نزح بعضها من جنوب الجزيرة إلى شواطئها الشرقية على بحر الهند، فالخليج العربي فالعراق، وبعضها من شمالها، أي بلاد الشام، فالعراق. وكانت وظلت متشاركة في اللغة والتقاليد والعادات، تشاركاً يدل على انتمائها إلى جنس واحد، هو الذي سميناه الجنس العربي، دون الاسم الحديث "الساميين"، لأن ذلك التشارك كان وظل قائماً بينهم وبين أشقائهم الذين بقوا في جزيرة العرب، والذين تطورت عروبتهم غير الصريحة إلى العروبة الصريحة، وغدوا يتسمون بسمتها، ويُسمون باسمها، على ما شرحناه في مقدمة الكتاب في الجزء الأول، وذكرنا دلائله ومصادره، وعلى ما نعتقد أن فيه المقنع، لمن لا يريد المكابرة والتزمت باسم العلم، وعلى ما سوف نزيده توكيداً في ثنايا هذا الجزء.
ولقد جاء في كتاب القرون القديمة لبريستيد، في فصل "بلاد بابل"، أن حركة الهجرة من البادية إلى الهلال الخصيب، بدأت من ألوف السنين، واستمرت، وتمكن القائمون بها من فرض سيادتهم الجنسية عليه، برغم ما كان فيه، أو جاء إليه من عناصر ليست سامية الأصل، وكانت هذه الهجرة تزداد أحياناً، وتعظم، حتى تصبح تياراً جارفاً، يحمل القبائل الرحَّل من القفر البلقع إلى هذا الهلال، فتغشى المدن والقرى، كما تغشى المياه الأرض. وكان الطرف الشرقي من الهلال الخصيب، مقابل الضفاف السفلى لدجلة والفرات، من أهداف هجرة هذه القبائل ومستقرها.
ولقد جاء القسم الأول المخصص لتاريخ العراق القديم، من كتاب مقدمة في الحضارات القديمة لطه باقر، أن أكثر العلماء والباحثين، يقررون أن جزيرة العرب هي مهد الأقوام السامية (أي العربية حسب اصطلاحنا)، وأن موجات متعاقبة في أزمان مختلفة كانت تنزح منها إلى بقاع الهلال الخصيب، ثم تستقر فيها وتكوِّن حضارات ذات شأن كبير في تاريخ العالم. وأن مما لا شك فيه أن هذه الهجرات بدأت منذ أقدم الأزمان في عصور ما قبل التاريخ، وكان العراق مفتوحاً أمامها فاستوطنته، وطغت على حياة العراق، ومعظم الشرق الأدنى!
ولقد تكون دماء الموجات العربية التي طرأت على العراق، واختلطت بدماء من كان قبلها فيه من غير جنسها، أو جاؤوا إليه بعد أن أخذوا يطرأون عليه. ولقد تكون اكتسبت شخصية خاصة نوعاً ما في الأرض الجديدة، التي حلت فيها وتأثرت بأولئك الذين هم من غير جنسها، في اكتساب هذه الشخصية. غير أن هذا لا يغير من الأمر شيئاً كبيراً في اعتقادنا، ما دامت هذه الموجات قد جاءت من جزيرة العرب، وطل طابعها هو الغالب على العراق وعلى من فيه من غير جنسها، وظلت كذلك تحتفظ بكثير من خصائص جنسها ولغته وتقاليده، على ما ذكرناه في مقدمة الكتاب أيضاً.
ولقد كان من تلاحق موجات الجزيرة العربية المعروفة يقيناً إلى بلاد العراق في دور العروبة الصريحة قبل الإسلام وبعده، وما قام وظل يقوم من صلات وثيقة من هذه البلاد وجزيرة العرب، وما كان من استمرار التشارك في اللغة والخصائص والتقاليد العقلية بين هذه الموجات الصريحة، والموجات التي قبلها، مما أكد وقوّى وخلّد ذلك الطابع على العراق، وجعل دعوى انتماء تلك الموجات إلى العروبة وجزيرة العرب محكمة حاسمة.
ويكفي أن يدقق المرء في أسماء الأعلام العراقية، ونعني قرى العراق وقصباته وأنهاره التي تحمل لمحة العروبة المتقدمة على دورها الصريح. ويكفي كذلك أن يقارن بين مفردات لغات تلك الموجات، وبين مفردات اللغة العربية الفصحى، ليرى مصداق ذلك قوياً، لا يتحمل مراء.
ففي معجم البلدان لياقوت الحموي، المتوفي في القرن الهجري السابع، أسماء مئات من القرى والقصبات والأعلام التي تحمل لمحة العروبة المتقدمة، على دور العروبة الصريح. والتي لا شك في أنها تسمية تلك الموجات التي حلت في العراق وأنشأتها، قبل هذا الدور... [هنا يسرد دروزة قائمة بعشرات القرى والأماكن العراقية نقلاً عن معجم ياقوت الحموي – إ. ع].
ولم ننقل من المعجم الأسماء التي غلبت فيها اللمحة الأعجمية، ولا التي جاءت بصيغة عربية فصحى، وهذه وتلك مع ذلك قليلة فيه، والمعجم لم يحتوِ جميع الأعلام والقرى والقصبات العراقية، بدليل وجود أسماء كثيرة تطلق على أعيان موجودة إلى اليوم، لم ترد فيه وعليها لمحة القدم.
وعلى كل حال، فإن كون جل ما أورده، مما تبدو عليه اللمحة العربية القديمة، المتقدمة على العروبة الصريحة، يدل على أن الموجات العربية القديمة، طبعت العراق بطابعها الذي ظل غالباً إلى زمن مؤلف المعجم.
ولقد ظل كثير من أسماء القرى والمدن والمواقع العراقية، يحمل لمحة العروبة القديمة، برغم ما طرأ عليها من تحوير وتبديل. وفيما يلي جملة من ذلك، ننقلها عن خريطة العراق الإدارية والطبيعية التي رسمها طعمه السعدي. ومنها ما ورد في معجم ياقوت، ومنها ما لم يرد، كما أن جملة مما ورد في هذا المعجم لم ترد في الخريطة، مما فيه مصداقية لما طرأ على الأسماء من تبديل وتغيير وفيها على كل حال الدلالة التي أردناها. والخريطة إلى هذا لم تذكر إلا المهم من القصبات والقرى... [هنا يسرد دروزة أسماء العشرات من الأماكن في العراق نقلاً عن الخريطة المذكورة، حسب الترتيب الأبجدي، من أم الذبيان وأم الشبابيط إلى وادي عكاش ووادي رنكة – إ. ع].
ولقد أثبت ولنغنستون مؤلف كتاب تاريخ اللغات السامية جدولاً فيه جملة كبيرة من المفردات الأشورية البابلية والآرامية التي كان يتكلم بها سكان العراق، في ظل دولها الآرامية والأشورية والكلدانية والعمورية، مع ما يقابلها من المفردات العربية، التي كان يتكلم بها أهل جنوب جزيرة العرب قبل العروبة الصريحة، ثم ما يقابلها كذلك من المفردات العربية الفصحى، ننقله فيما يلي، كدليل حي على اتحاد الأرومة بين أهل جزيرة العرب القدماء، على اختلاف أروماتهم، وبالتالي على صحة الجنسية العربية بالنسبة لهذه الأرومات:
 
عربي فصيح
أشوري بابلي
آرامي
لغة جنوب الجزيرة العربية القديمة
أب
أبو
أبا
أب
ابن
بنو
برا
ابن
أخ
أخو
أحا
أخو
أخذ
إخوز
أحد
أخذ
أحد
أدو
حد
أحد
أذن
أزنو
أودنا
أزن
اثنتان
شنا
تريْن
سنيث
أرض
أرضو
أرعا أرقا
أرض
أربع
أربعو
أربع
أربع
اسم
شومو
شما
سم
أم
أمو
أما
أم
امة
أمتو
أمتا
أمة
إنسان
نشو
ناشا
أنش
دبس
دشبو
دبشا
دبس
دم
دمو
دما
دم
ذئب
زيبو
دابا
زاب
ذنب
زباتو
دونبا
زناب
راس
رشو
ريشا
راس
ركب
ركب
ركب
ركب
زرع
زو
زرعا
زرع
سبع
سبو
شبع
شبعو
ست
ششو
شتا
سسو

عربي فصيح
أشوري بابلي
آرامي
عربي قديم من جنوب الجزيرة العربية
سلام
شلمو
شلما
سلم
سن
شنو
شنا
سن
سنبلة
شوبلتو
شبلتا
سبل
سماء
شمو
شماريا
سماي
شمس
شمشو
شمشا
شمس
شعر
شرتو
سعرا
سعرت
طحن
إطن
طحن
طحن
طيب
طبو
طبا
طيب
ظفر
مبرو
ظفرا
ظفر
صل
صلّو
طلا
صالوت
عشر
عشرو
عسر
عشرو
عظم
عصمتو
عطما
عضم
عقرب
عقربو
عقربا
عقرب
عمود
إمدو
عمودا
عمد
عنب
انبو
عنبتا
عنب
عين
أنو
عينا
عين
فتح
أبت
فتح
فتح
فم
بو
بوما
أف
قرن
قربو
قرنا
قرن
قمح
قمو
قمحا
قمح
كبد
كبتو
كبدا
كبد
كرش
كرشو
كرسا
كرش

عربي فصيح
أشوري بابلي
آرامي
عربي قديم من جنوب جزيرة العرب
كلب
كلبو
كلبا
كلب
كوكب
كاكبو
كوكبا
كوكب
لب (بمعنى قلب)
لبو
لبا
لب
لسان
لشانو
لشنا
لسان
لهب
لابو
شلهب
لهب
ليل
ليلتو
لليا
ليله
ماء
مو
مايا
ماي
مائة
مأتو
ما
ماأت
مثل
مشل
متلا
مسل
مر
مرو
مرنمر
مرا
ملك
ملكو
ملكا
ملكي
موت
موتو
موتا
موت
نسر
نشرو
نشرا
نشر
نفخ
نفح
نفح
نفخ
نفس
نبشتو
نفشا
نفس

عربي فصيح
أشوري بابلي
آرامي
عربي قديم من جنوب جزيرة العرب
نمر
يمرو
نمرا
نمر
ود
ودّ
يد
وُدّ
ورق
ورقو
يرقا
ورق
وفر
وفرو
أبقر
وقر
ولد
وُلد
أيلد
ولد
يد
إدو
أيدا
أد
يمين (ناحية)
إمنو
يمينا
يمن
يوم
أمنو
يوما
يوم
 
[ويستطيع كثيرٌ منا في بلاد الشام والعراق أن يرى من الأمثلة أعلاه مدى دخول بعض ما جاء في الجداول أعلاه في الكلام العامي، بالشكل المثبت حرفياً بالجدول أو المحور بحرف، ومدى انتشار أسماء أماكن وعائلات من اللهجتين الأشورية البابلية، والآرامية، حتى اليوم – إ. ع].
على أننا ونحن نثبت أسماء الأعلام العراقية التي تبدو عليها اللمحة والصيغة العربية القديمة، ثم جملة من المفردات المتماثلة من اللغات العراقية القديمة، واللهجات العربية القديمة الأخرى، التي لها أشباه تعد بالألوف، لا نقدمها كدليل وحيد على الجنسية الوثقى بين معظم سكان العراق القدماء والجنس العربي وجزيرة العرب، وإنما كدليل مضاف إلى تقريرات العلماء والباحثين على انتماء هؤلاء السكان الذين عمروا العراق، وطبعوه بطابعهم المستمر منذ ستة آلاف سنة على الأقل، بقطع النظر عما قبل ذلك من احتمالات إلى الجنس "السامي" حسب اصطلاحهم، والعربي حسب اصطلاحنا، ولاسيما أن جمهرة الباحثين يعتبرون التشارك اللغوي من مظاهر الوحدة الجنسية (أي القومية، كما أوضحنا من مقتطف د. محمد عمارة في المقدمة – إ. ع)، بين الأقوام "السامية"، على ما شرحناه في المقدمة. وهذا فضلاً عن ما هناك من التشارك في العقائد والأفكار والتقاليد أيضاً، وهو ما سوف تأتي الشواهد عليه في ثنايا هذا الفصل.
فكل هذا يسوغ، فيما نعتقد، الجزم بالجنسية العربية للموجات التي طرأت على العراق من جزيرة العرب، مما سماهم كتاب الإفرنج خطأ باسم "ساميين". كما يسوغ القول إن هذه الموجات قد طبعت العراق بطابعها الغالب، ويبرر سلكها في سلك تاريخ الجنس العربي، خلافاً لما سار عليه المؤرخون.
ولقد سلك جرجي زيدان دوراً من أدوار تاريخ هذه الموجات، في سلك التاريخ، ونعني به دور ما سماه العمالقة الذين منهم حمورابي، بسبب ما رآه من التشارك بينهم وبين الجنس العربي. وقد فعل صواباً. وكان الأولى أن يشمل بعمله بقية الموجات والدول عربية الجنس في العراق، من آرامية وآشورية وكلدانية، لأنها هي والأرومة التي ينتمي إليها حمورابي من موطن واحد هو جزيرة العرب، ومتشاركة في اللغة والعقائد والتقاليد.
ولقد قال الدكتور جواد علي، أن تسمية الساميين مصطنعة، وأن تسمية "العرب" هي الأقرب إلى العلم، والأدق والأصح والأصدق، على كل حال من تلك التسمية، وأنه ليس غريباً ولا بعيداً عن العلم والمنطق، أن تسمى الشعوب التي أدخلها العلماء تحت مصطلح "السامية" عربية، لما بينها من صلات ومشاركات وتقارب. ولقد كان هذا يقتضي أن يسلك هذا المؤرخ تاريخ هذه الشعوب في سلك تاريخه: العرب قبل الإسلام.
فنحن إذ نفعل ذلك، إنما نفعل أمراً لا غبار عليه، تقريراً للحقيقة التاريخية المتصلة بالواقع المستمر، منذ عشرات القرون، قبل الميلاد المسيحي، وتصحيحاً للتوجيه التاريخي، وتدليلاً على أن عروبة العراق الصريحة الحاضرة، هي امتداد لما كان من عروبته الصريحة وغير الصريحة التي سبقت الإسلام بعشرات القرون، وذلك بالإضافة إلى ما في ذلك من إبراز سعة نطاق نشاط الجنس العربي وحيويته في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والحضارية والسياسية والعسكرية، حينما برز على مسرح العراق الذي كان مصدراً رئيسياً من مصادر الحضارة البشرية التي شعت على العالم، وكانت من مشاعل هداية البشر وحضارتهم الأولى من جهة، وتكون من جهة أخرى قد وصلتنا بهم حيوية العروبة في دورها الصريح على مسرح العراق، وبين حيويتها عليه قبل هذا الدور، فيظهر من ذلك سلسلة متصلة الحلقات، يمد بعضها بعضاً من جهة أخرى.
ولقد أنشأت الموجات العربية في العراق دولاً عديدة متلاحقة، لم تكد سلسلتها تنقع بسلطان غير عربي الجنس طيلة خمسة وثلاثين أو أربعين قرناً قبل الميلاد، منها ما ظل محلي السلطان والنطاق، ومنها ما اتسع سلطانه حتى شمل جميع العراق، ثم تجاوزه إلى أقطار شاسعة في شمال العراق وشرقه وغربه، ووصل إلى البحر الأسود شمالاً، وبحر قزوين شرقاً، والبحر الأبيض والقطر المصري غرباً.
ولقد أنشأت هذه الدول منشآت عمرانية عظيمة، وخرب كثير منها وانطمر تحت التراب. ولقد كتب كثير من ملوكها سيرتهم الحربية وغير الحربية على الأحجار والمنشآت التي انطمرت بدورها. ولقد جرت تنقيبات كثيرة منذ أواسط القرن السابق، في أماكن كثيرة من العراق، وخاصة في مواقع عواصم دوله القديمة، مثل أور وأوروك وبابل ونينوى ودار صرغون وبارسيب وكلح، كانت تجري على نطاق ضيق، وعلى غير أسلوب علمي، ثم تقدمت منذ أواخر القرن السابق واتسعت، وساهمت مصلحة الآثار العراقية فيها، إلى جانب بعثات الجامعات الأمريكية، فعثر على كثير من الآثار والكتابات والنقوش.
ولقد كانت النقوش التي دونوها بالخط المسماري، فظلت غامضة، بل وظنها الناس أنها زخرفة، إلى أن أكتُشِف في أواخر القرن الثامن عشر في برسيبوليس آثار عليها كتابة بهذا الخط، ثم كتابات بالغة الفارسية واللغة البابلية واللغة العيلامية، فكان ذلك مفتاح ذلك الخط، كما كان شأن حجر رشيد المصري، بالنسبة للخط المصري القديم، فعكف على دراستها أستاذ ألماني اسمه كروتنند، واستطاع أن يحل بعض رموزها بالمقارنة مع اللغة الفارسية، وأن يقرأ بعض الأسماء والمفردات البابلية، ثم أكتُشِف في بهستون، بالقرب من كرمنشاه، آثار مثل آثار برسيبوليس، عليها كتابة بالخط المسماري، وكتابات باللغات الثلاث، فعكف على دراستها أستاذ إنكليزي اسمه رولنصن، واستعان بما كان من جهود كروتنند، وشاركه في عمله أستاذ ايرلندي اسمه هنكس، فاستطاع بدوره حل بعض رموزها، بالمقارنة كذلك مع اللغة الفارسية، وأن يقرأ بعض الأسماء والمفردات البابلية: ثم تتابعت بحوث العلماء، وازدادت المعرفة باللغتين البابلية والآشورية، حتى غدا موضوع قراءتهما اعتباراً من 1857 علماً مضبوطاً، وحتى أمكن قراءة ما خلفه الآشوريين والبابليون من نقوش كثيرة متنوعة، فساعد ذلك على جلاء تاريخ الموجات العربية ومآثرها في العراق، منذ أقدم الأزمنة التاريخية بمقياس غير ضيق، وخاصة منذ القرن الخامس والعشرين قبل المسيح.
[هنا يضع دروزة جدولين، أحدهما يمثل تطور الخط المسماري، أي الذي تحفر فيه الرموز على شكل مسامير، عندما كان كل رمز مسماري يمثل كلمة، مثلاً: الله، الشمس، جبل، إنسان، ثور، سمكة، قلب، يد، يد وذراع، رجل، سنبلة، قطعة من الخشب، شبكة، سياج، والجدول الآخر يمثل الرموز المسمارية عندما بات كلٌ منها يمثل حرفاً، مثلاً: أحرف العلة، أ، ب، ج، د، ... ، ومن المعروف أن اللغات المعتمدة على الأحرف هي أرقى من اللغات التي تضطر لاختراع رمز مختلف لكل كلمة على حدة – أ.ع]
ولقد زار هيرودوت اليوناني، من رجال القرن الخامس قبل الميلاد العراق، ووصف في كتابه مشاهداته، وذكر مسموعاته عن أخبار العراق القديمة، كما كتب عن ذلك إسترابون وديودور وبطليموس وغيرهم من مؤرخي قبل الميلاد وبعده وجغرافييهم، فكان ذلك أيضاً مما ساعد على ذلك الجلاء.
ومما ساعد عليه أيضاً، أولاً: ما عثر عليه من مدونات دونها كتاب عراقيون في بداية الألف الثاني قبل الميلاد احتوت كثيراً من أسماء ملوك السلالات العراقية الحاكمة، وشيئاً من أخبارهم، وثانياً: الفصول الكثيرة التي احتوتها أسفار العهد القديم، مثل أخبار الأيام والملوك عن صلات ملوك العراق باليهود ودولتهم، وثالثاً: المدونات والنقوش المصرية التي احتوت بيانات، عما كان يحدث بين مصر والعراق من صلات وأحداث سياسية وعسكرية، ورابعاً: ما استند إليه الكتاب اليونان والرومان القدماء من تاريخ معزو إلى مؤرخ بابلي اسمه بروسوس أو برشوحا من أهل القرن الرابع قبل الميلاد، ذكر أنه دوّن فيه أخبار ملوك بابل كافةً، نقلاً عن سجلات قديمة كانت في عهدته، حيث كان كاهن معبد بل في بابل. وقد اشار برشوحا إلى ذلك بقوله: إن كاهناً قديماً اسمه اكسيسوتروسن خبأ في بعض مخابئ المعبد السجلات المسطر عليها تاريخ الخليفة، وأخبار الأيام الأولى وقد فُقِد هذا الكتاب، ولكن يوسينوس اليهودي، وأوساسيوس وكليمنسوس وشنسليون اليونانيين نقلوا عنه فصولاً عديدة. وخامساً: ما استند إليه ديودور الصقلي من كتاب معزو إلى إكتازياس، طبيب الملك ارتخششتا الثاني (405 – 359 ق.م) نقلاً عن الكتب الفارسية في القصر الملكي. وقد فُقِد هذا الكتاب أيضاً، ولكن ديودور نقل عنه فصولاً عديدة أيضاً.
وهكذا غدا بالإمكان عرض فصول، قد يصبح التعويل عليها في تاريخ الدول العراقية القديمة، التي تمت إلى الجنس العربي، استناداً إلى وثائق تاريخية وأثرية قديمة، وخاصة بالنسبة للحقب التي تلت القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، مهما كان فيها من ثغرات واقتضاب، ومهما تحولت المقتبسات من المدونات القديمة المستندة إلى جداول الملوك، وروايات برشوحا واكتازياس، والمسموعات التي لا تؤيدها النقوش من تحفظ. أما ما قبل القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، فإن في تاريخ الدول العراقية العربية الجنس ثغرات واسعة، تجعل من المتعذر عرض فصول متسلسلة، وكل ما يمكن هو عرض صورة منفردة.
ولقد خصص طه باقر معاون مدير الآثار العراقية القديمة المجلد الأول من كتابه مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة للعراق، احتوى دراسات أثرية وتاريخية قيمة له ولغيره من الباحثين في تاريخ العراق القديم ومآثره الحضارية، طبع طبعته الثانية سنة 1375 ه/ 1955 م، والقسم المخصص للمآثر الحضارية فيه قيم وافٍ، ولعله أوفى ما كتب بالعربية في ذلك. أما القسم المخصص للتاريخ السياسي، فهو على قيمته العلمية، واستناده إلى النقوش والمدونات القديمة، ودراسات الباحثين، لا يحتوي فصولاً متسلسلة لتاريخ الدول العراقية وأحداثها، وقوائم بأسماء ملوكها، كما فعل بريستيد، وإن كان فيه إلمامات غير يسيرة من ذلك، وخاصة بالنسبة لتاريخ الآشوريين.
ولرئيس أساقفة سعرد أدي شير الكلداني الآشوري، كما نعت نفسه، كتاب في جزئين سماه تاريخ كلود وآشور مطبوع في المطبعة الكاثوليكية في بيروت سنة 1912 أحدهما ديني والآخر سياسي. وفي الآخر، توجد فصول مسهبة نوعاً ما في تاريخ الدول العراقية، وأسماء ملوكها منذ القرن الخامس والعشرين إلى القرن الخامس قبل الميلاد، مع نتف مقتضبة عن ما قبل ذلك، استناداً إلى التنقيبات الأثرية، والمدونات القديمة المقتبسة من كتاب وأثريين غربيين، مثل تاريخ ماسبرو المطول، المعنون بتاريخ الشعوب القديمة في الشرق في ثلاثة مجلدات، وتاريخ ماسبرو المختصر، بالعنوان نفسه، ومجلة الكتاب المقدس، وتاريخ سني ملوك ثور لميثان، وتاريخ دول الكلدان والأثوريين لأوبير، وتاريخ هيرودوت، ومجلة المشرق، وكتاب ميزوبوتاميه وأثور لبيلي فراسير، وتاريخ الشعوب الشرقية لنورمان، وتاريخ ملوك بابل لبيشينش وغيرهم.
ولجميل مدور كتاب عنوانه تاريخ بابل وآشور مطبوع في مطبعة الفوائد في بيروت سنة 1893، فيه فصول عن دول بابل وآشور ومدنها وآثارها وحضارتها، استناداً إلى روايات القدماء، والتنقيبات الأثرية كذلك.
وقد كتب جرجي زيدان فصلاً في كتابه تاريخ العرب قبل الإسلام، في تاريخ أسرة من الأسر العربية الجنس، قامت لها دولة كبرى في بابل منها حمورابي الشهير، استناداً كذلك إلى الكتابات الأثرية والروايات والمدونات القديمة. وفي الجزء الأول من التاريخ العام لأحمد رفيق التركي، الذي يستند إلى كتب شبامر وموردتار وده ليج، وماقس دونكر، وهومل الألمانيين وماسبرو وسينوس الفرنسيين، فصول في تاريخ البابليين والكلدانيين والأشوريين. وفي كتاب العصور القديمة لبريستيد الذي ترجمه إلى العربية داوود قربان فصول كذلك في هذا التاريخ. وستكون هذه الكتب من المراجع الرئيسية لما سوف ندونه في الفصول التالية عن تاريخ الموجات العربية في العراق ومآثرها المتنوعة التي سوف تكون تامة الحلقات – بقدر ما يمكن – لتاريخ العراق القديم كما فعلنا في الجزء السابق، وخاصة لتاريخ الجنس العربي فيه قبل العروبة الصريحة، مما نرجو أن يكون مفيداً للقارئ العربي، وخاصةً للناشئ العربي، الذي يجب أن يكون ملماً بهذا التاريخ الذي هو جزء من تاريخ أمته العظيمة. ومع أن من المحتمل أن يكون هناك كتب في تاريخ العراق القديم، فإن فائدة الكتاب تظل قائمة، لأنه يدور بنوع خاص على تاريخ الجنس العربي في العراق القديم، ويبرز قوة الصلة بين العراق وبين هذا الجنس، مما لم نطلع على ما فيه الغناء من ذلك في حجم الكتاب وأسلوبه وترتيبه. ولسوف يرى القارئ العربي فيه صوراً غير يسيرة، سياسية وغير سياسية، مشابهة لما نرى اليوم من صور على مسرح البلاد العربية، يمكن أن يكون فيها تعليل للأحداث الجارية.