الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، وأمّه فاطمة الزهراء بنت محمّد رسول الله (ص).. عاش في كنف الوحي، والرسالة، وأرضعته ثدي الإيمان، والهدى.. تنزلت آيات الله تعالى تجاهر بطهارته، وقداسته، ومكانته السامية، كآية التطهير: (إنّما يُريد الله ليذهب عنكم الرِّجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا).
وآية المباهلة: (فقل تعالوا ندع أبناءنا، وأبناءكم، ونساءنا، ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل، فنجعل لعنة الله على الكاذبين).
كما تواترت أحاديث النبي (ص)، ووصاياه، تشيد بالمكانة السامية التي يحظى بها هذا السبط الإمام (ع).
- «الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة».
- «حسين منِّي، وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط».
- وعن الصحابي البرّاء بن عازب قال: «رأيت رسول الله (ص) حاملاً الحسين بن علي على عاتقه، وهو يقول: أللّهمّ إنِّي أحبه، أحبّه».
وكان الحسين السبط (ع) صورة حية لشريعة الله تعالى وقيمه الجليلة سواء أكان في سلوكه الشخصي، أو في أسرته، أو في علاقته مع الناس، حيث الطهر، والنبل، والشهامة، وكرم النفس، وحب الناس، والسهر على مصالحهم...
إن هذه الخصائص النسبية، والحسبية المميزة قد وضعت الإمام أبا عبدالله الحسين (ع) في موقع اجتماعي قلّ نظيره، حيث ترى فيه أوسع قطاعات الأمة أملها المنشود، ترجو أن تتوفر الفرص العملية ليقود مسيرتها نحو الخير، والخلاص، والحرية والعدل الاجتماعي العميم...
لقد كان الحسين (ع) - إضافة إلى شخصيته الدينية المقدسة المتميزة - أملاً للشعوب التي تتكون منها الدولة الممتدة من المحيط إلى المحيط يومذاك خصوصاً الشعوب المستضعفة التي تشعر بالظلم، والأثرة، والاستعلاء الأموي، ومصادرة الحقوق... بسبب المؤهلات الروحية والنفسية والقيادية التي كان يتمتع بها، وحرصه على تطبيق العدالة وإقامة الحقوق، وصيانة كرامة الإنسان...
لقد هلك معاوية، فتنفس الناس الصعداء، وتحركت قطاعات الأمة المختلفة رويداً، رويداً، وكانت بلاد الرافدين أكثر أقاليم الدولة تحركاً من أجل الخلاص، بسبب فاعلية القوى المعارضة، وسعة القطاعات الشعبية الرافضة للظلم في كبريات المدن العراقية كالبصرة، والكوفة، اللتين كانتا مدناً كبرى جداً، تشكل مساحتهما الجغرافية، ضعف الخريطة السياسية لعراق اليوم... وبدأت الحركة الإعلامية الثورية تتفاعل في مختلف قطاعات المجتمع...
فهذه أمة من الناس يخاطبها زعيمها في مركز ولاية البصرة، داعياً إياها إلى الالتفاف حول الزعيم الشعبي الحقيقي للأمة: الحسين بن علي (ع) شارحاً خصائصه الدينية، والسياسية، ومؤهلاته القيادية.
فقد جمع يزيد بن مسعود النهشلي قبيلة بني تميم، وبني حنظلة، وبني سعد وخطب فيهم قائلاً: «إن معاوية مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم وتضعضعت أركان الظلم وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظن إنّه قد أحكمه وهيهات الذي أراد اجتهد والله ففشل وشاور فخذل وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدعي الخلافة على المسلمين ويتأمر عليهم بغير رضى منهم مع قصر حلم وقلة علم لا يعرف من الحق موطأ قدميه فاقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن علي وابن رسول الله (ص) ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل له فضل لا يوصف وعلم لا ينزف وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنه وقدمه وقرابته يعطف على الصغير ويحسن إلى الكبير فأكرم به راعي رعية وإمام قوم وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة فلا تعشوا عن نور الحق ولا تسكعوا في وهد الباطل».
وتصاعدت وتيرة الأحداث، وانهالت على أبي عبدالله الحسين (ع) المذكرات، والرسائل، والوفود تدعوه للتوجه إلى العراق ليكون منطلقاً لدعوة الخير، وإقامة المعروف، وإطلاق حقوق الناس، التي متهنها الظالمون حتى بلغ الحال أن ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب كلها تدعوه للبيعة، والطاعة، وبلغ ما وصله من المذكرات ورسائل التأييد إثنا عشر ألف كتاب وكل كتاب كان توقعه العشيرة أو المحلة أو الجمع من الناس، وكان مضمونها: «إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول الله، فأقدم، إنما تقدم على جنود مجندة...».
على أن الإمام أبي عبدالله الحسين (ع) رغم أن الحجة قامت لديه بضرورة الإستجابة لصرخة المظلومين، وتلبية دعوة الجماهير الواسعة من الناس من أجل النهوض بالمسؤولية التاريخية لإقامة المعروف، والحق إلاّ أن تلك الدعوات لم تستفزه، ولم تخرجه عن حكمة، ورصانة في التفكير، وأناة في التدبير، فإن مسؤولية بهذا الحجم لابدّ من التمهيد لها عبر دراسة علمية متقنة، وهكذا فعل المصلح الرشيد أبو عبدالله الحسين (ع)، فقد أرسل مسلم بن عقيل أكثر أهل بيته حكمة، ودراية ورزانة واستيعاباً لظروف الجماعات، وطبيعة حركتها، واتجاهات الرأي العام فيها، فهو ابن عم الإمام (ع)، وابن أبرز شخصية في المجتمع العربي والمسلم في معرفة أنساب العرب، وخصائص الجماعات العربية..
فلم يكتفِ الإمام (ع) بالمذكرات، والرسائل، وإن كثرت فمن الراجح أن تكون العواطف الجياشة هي التي أملت كتابة هكذا مذكرات، بيد أن الظروف إذا تغيرت، وأحكمت السلطات سيطرتها على الأقاليم، أو هددت بقطع الأرزاق، أو أشاعت الذعر من جيوش قادمة من الشام مركز الدولة العاتية. فمن الممكن جداً أن تذهب تلك العواطف ادراج الرياح.. وهكذا شاء الإمام السبط (ع) أن يدرس الموقف عن كثب وبروية حيث أرسل إلى الكوفة وهي عاصمة العراق يومذاك، الشهيد مسلم بن عقيل، كما ذكرنا. وهذا ما يتضح من فلسفة إرسال ابن عقيل القائد الحكيم، كما يتجلى من نص رسالة الإمام (ع) إلى جماهير الكوفة المتحفزة لنصرته!
فقد كتب الإمام السبط (ع) رسالة إلى جماهير الكوفة التي دعته للمجيء إلى الكوفة جاء فيها ما يلي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم وقد فهمت كلّ الذي قصصتم وذكرتم ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم رأيكم فإن كتب إنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أُقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله! فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله، والسلام».
وهكذا تحرك مسلم (ع) باتجاه الكوفة، من أجل دراسة الموقف عن كثب، واطلاع الإمام السبط (ع) بالواقع، أولاً، بأول، والتحرك في ذلك الاقليم بطريقة سلمية محفوفة بدرجة عالية من الكتمان بعيداً عن العنف كما تضمن ذلك نص التكليف...
فكانت مهمة مسلم (ع) لدراسة الموقف مباشرة، وإطلاع الإمام السبط (ع) على تطوراته، لأنّ الحسين (ع) أرادها نهضة برضى الناس، وقناعتهم دون فرض أو إكراه، ثم هي من أجل الناس، وتحقيق مصالحهم الدينية، والدنيوية على حد سواء: «ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق...» كما نصّ على ذلك كتابه إلى جماهير الكوفة الذي حمله مبعوثه الخاص مسلم بن عقيل (ع