وطن متخم بالأساطير، بمفاتن الحضارة، الطبيعة فيه تميط اللثام عن سحرها، نخلة يتراقص سعفها كأميرة تتباهى بضفائرها في حضرة السلطان، تحتاج لألف عين لتستوعب دهشة المكان، وطن يحتاجه العالم كأوكسجين يستنشق من خلاله صيرورة الإنسانية بكل تجلياتها ورقيها، هذا وطني الذي كلما رأيته أشعر بعدم قدرتي على امتلاكه فأحلم بـ(متى؟) أطول من الجرح وأعمق من خيبتي في ثمار ما بعد التغيير. خرجنا من واحات النخيل وتوجهنا صوب واحة من سحر الماء، وسط صحراء يكتنفها ويسورها كون من الغموض وعالم من الأسرار، حكايات سمك لا يؤكل، ومياه تتحول بطرفة عين إلى تماثيل بريشة فنان لا تعرفه غير الطبيعة، إنها بحيرة ساوه لوحة الإعجاز التي لم يكتشفها أو يفهمها احد.<br>
<br>
السور الكلسي عند وصولنا لمشارف البحيرة التي تبعد بمسافة 31 كيلومتراً غرب مدينة السماوة كان علينا أن نجتاز طريقا ترابيا يلي مباشرة نقطة تفتيش نصبت هناك ولا ادري لماذا نصبت هناك هل هي لحراسة الخراب الذي لحق بالمرافق السياحية؟ أم أنها لمراقبة طيورها وأسماكها الغريبة عن كل اسماك العالم؟ البحيرة التي يطلق عليها العديد من الأسماء مثل (أم الأسرار) (والبخيلة) و(البطة) تبلغ مساحتها 5/12 كم2 تحيط بها الصحراء من كل جانب، ويبلغ عرضها نصف كيلو متر في أضيق منطقة، أما طولها فيبلغ قرابة الـ5 كيلومتر، وعرضها في أوسع منطقة فيها يبلغ 2 كيلو متر، والغريب أن الذاهب إلى البحيرة لا يشعر بوجودها ولا يصدق بان هذه المعجزة تعيش وسط تلك الصحراء، منابع مياه البحيرة مدفونة في أعماقها، ومستوى مياهها ثابت منذ تكوينها، وحينما تُسحب منها المياه عبر قنوات، تتكثف مياهها على هيئة أحجار كلسيّة، والبحيرة مسوّرة طبيعياً بسياج كلسي يتضمن كهوفاً تنتشر على ضفافها وارتفاع السور يبلغ خمسة أمتار. تعددت الأسماء والسر غائب يقول المسرحي ماجد الوروار إن الكثير من الحكايات والأساطير والأسرار تعيش في عقول الناس وتتحدث عن هذه الجزيرة، وكانت وصايا أجدادنا وآبائنا كلها تصب في وجوب الحذر من البحيرة وعدم التواجد قربها ليلا من غير تعاويذ، لوجود أشباح وعفاريت تعيش فيها، مؤكدا أنها مجرد إشاعات لا أكثر، فالكثير من اهل السماوة يزورونها ليلا ويقضون ساعات جميلة يتمتعون بالهواء الطلق ومشاهدة أمواجها والطيور التي تزور ضفافها ليلا. وبشأن التسميات، قال سميت بالبطة لان شكلها لناظرها من الأعلى يشبه البطة تماما، ولكون تاريخ تكوينها غير معروف وكذلك مصدر مياهها وتركيبته الكيمياوية سميت بـ(أم الأسرار)، اما تسميتها (البخيلة) لكون الكثير من الفلاحين الذي كانت لديهم مزارع قريبة منها حاولوا أن يشقوا منها قنوات لسقي أراضيهم، لكنها شاهدوا بأم أعينهم كيف يتكلس الماء ويتحول إلى أحجار كلسية تسد تلك القنوات. مولد النبي وإيوان كسرى واختلفت آراء العديد من الباحثين بشأن تاريخ وجودها، فهناك العديد من الروايات يتناقلها أبناء السماوة منهم من يقول: إن البحيرة فاضت يوم مولد النبي (ص)، وإنها ستعلن جفافها مع ظهور الإمام المهدي (ع) كما يقول احد أبناء المدينة، والبعض يقول إن البحيرة كانت الرافد المائي لطوفان النبي النوح وهي بقايا ذلك الطوفان، ورأي آخر يربط ما بينها وما بين اهتزاز إيوان كسرى ولذا أن البحيرة تشكل ما يشبه اللعنة عند الفرس، وهذا ما يدعونا للاعتقاد بان وشائج العلاقات العميقة مع الجارة إيران قد تكون من أهم مبررات عدم الاهتمام بالبحيرة لكون الفرس يعدونها لعنة على كسرى، وكذلك استمرار الجارة العظيمة بقطع المياه عن جارها العراق حتى يشعروا بمدى الذنب الذي اقترفه العراقيون حين منعوا الماء عن الإمام الحسين (ع) في كربلاء، ولا ندري كيف ارتضوا لأنفسهم أن يمارسوا دور الشمر بن ذي الجوشن في قطع المياه ليس عن الناس فقط بل حتى على الطبيعة، ولكن كل شيء وارد في زمن يتسلط فيه الباطل ويهان الحق تحت خيمة الدين السمح. متى يعود كلكامش؟ الذاهب باتجاهها سيلاحظ حتما حجم الخراب الذي حل بمرافقها السياحية التي بنيت على شكل خيام، فهي الآن عبارة عن هياكل شاخصة تعطيك صورة واضحة عن حجم الدمار الذي حل بها بعد التغيير، فكان التغيير بالنسبة لها نقمة وليس نعمة، جدران تسورها الأتربة والأنقاض خطت عليها ذكريات عشق وخواطر صحبة مروا هناك وجلسوا قبالة ساوه لتغازل غزلهم وتحاور ذهولهم بها بأسرار وحكايات أخرى، تحسرت متسائلا: كم من مليارات صرفت على إدامة الفساد؟ ..ولا اعتقد أن ساوه بحاجة إلا لمليارات لا تتجاوز عدد أصابع الكف الواحدة لإعادة القها وسياحها الذين هجروها بسبب انعدام الخدمات نهائيا فلا يمكن لزائرها هناك أن يحظى بقنينة ماء فلا شيء فيها سوى المأساة...أسئلة كثيرة وكبيرة كلها تصيح...لماذا؟ والرد دائما لك الله يا وطني، لان الجدد من أولياء الأمر أودعوا عدالتهم مع أرصدتهم ..هناك حيث يسكنون، وساوه تقول متى يحين زرع أراضي ضمائرهم ببذور المروءة والشرف وعشق الأوطان؟ متى يعود كلكاكش بعشبة حياتي؟ متى ينتفض شعلان أبو الجون من جديد؟ وأنا احتاج لأشرطة من أقراص "بنسلين" الأطفال لأوقف جلطتي، وآركيلات معبأة بالحشيشة لأهدئ لوعتي، وصوت حسيني العويل أصيح به على وطني"شلون أوصفك.. وانته دفتر، وآنه جلمه". نسبة مياه ثابتة ساوه العجيبة لو كانت في أي بلد آخر لقلبوا الدنيا من اجلها وأقعدوها في سبيل إظهار مفاتن أسرارها وسحر حكاياتها ولجعلت محمية عالمية لكونها معجزة من معجزات الدنيا، فهي تتميز عن أية بحيرة في العالم لكون مياهها لا تأتيها من أي رافد نهري او بحري كما هو حال البحيرات الأخرى، يقول صديقي أبو احمد إن هناك عيناً كبيرة وأخرى صغيرة في مركز البحيرة هنا ما تغذيها بالمياه، فضلا عن وجود شقوق في قعرها هي تغذيها ايضاً. لكن الدراسات فندت هذه الفكرة لكون قاعها مكونا من صخور صلدة لا يمكن ان يتسرب منها الماء، والشيء الآخر المحير في البحيرة كونها حافظت على نسبة المياه الثابتة على الرغم من ظاهرة التبخر المعروفة، وعلى الرغم من قدم وجود البحيرة، ارتفاع البحيرة عن مستوى سطح الأرض المجاورة لها بحوالي خمسة أمتار تمنع رؤيتها من مسافات بعيدة فلا بد أن تكون قريبا منها لكي تراها، وهي مسورة بصخور وسدود جبسية، وترتفع مياهها احد عشر مترا فوق مستوى نهر الفرات. لوحة رسمتها الطبيعة نزلنا على ضفافها خمسة رجال وحسناء فاحشة الأسرار والأساطير، الشمس فيها لا تشبهها شمس أخرى حتى غروبها يعلن حركة حياة، فالأمواج تتراقص من غير منة الريح، أصوات طيورها على اختلاف أنواعها تقول "يوسف، محمود، حسام، أبو احمد، مصطفى" اخرجوا من دار حبيبتي فهي ملكي، اتركوها يا من دمرتم ما فيها، وأعلنتم الجحود بها، تمنيت لحظتها أن املك قاربا وأمانا لأقضي ليلتي فيها...ساوه أغنية السماوة الأزلية وأنشودة الوركاء التي لا تشابهها أنشودة. يقول الإعلامي حسام: إن عمقها يصل في المنتصف إلى 250 متراً وهو عمق يعدل عمق الخليج العربي بمرتين ونصف، حيث يبلغ عمقه 100 متر، والناظر إليها سيراها لوحة رسمت بلونين؛ اللون الأخضر للمياه القريبة من الضفاف، والأزرق لوسطها، وحين تنعكس أشعة الشمس عليها، اجزم بعدم قدرة أي فنان بالعالم على مقاومة سحر تلك اللوحة. مددت يدي فيها وكأني كولومبس يكتشف أميركا من جديد، نعم لحظتها شعرت بأنه من حقي أن اصرخ في وجه العالم كله "هذا وطني"، هل سمعتم ببحيرة في العالم بنت سورها بمياهها، وإذا ما حدث فيها شق تقوم بإغلاقه بمياهها التي تتحول إلى أحجار كلسية، كهوف على مرآى البصر تتوسد ضفافها، سعتها مابين المترين والثلاثة أمتار. أسماك تذوب وطيور تجوب تناولت قنينة ماء من السيارة وملأتها بتلك المياه وقمت بالاحتفاظ بها داخل السيارة والى الآن هي معي، توضأت بمياهها فتحولت ذراعاي من سمراء إلى بيضاء بفضل أملاحها، أسماكها التي تميل إلى اللون الأسود أراها وهي ترقص داخل المياه حاولت أن امسك أحداها فقال صديقي حسام العاقولي إذا أخرجتها من البحيرة ستذوب من حرارة الشمس لكون اغلب جسمها مكون من الشحوم، وهي عمياء لا ترى وهذه احد أسرار البحيرة لكونها تعيش فيها من غير غذاء لأنه لا يوجد أي اثر للحياة في البحيرة نباتيا أو حيوانيا، باستثناء تلك الأسماك، وطيور مهاجرة تداعب ضفافها بين الحين والآخر، لأن نسبة الملوحة فيها هي ضعف نسبة الأملاح في الخليج العربي، ويؤكد حسام ان مياه ساوه فيها علاج لأمراض المفاصل وكذلك الأمراض الجلدية. وما يذهل في هذه المعجزة التي أعلنت صيرورتها الطبيعة وحسب الدراسات التي أصدرتها بحوث الباحثين بان ساوه لا تشبه أية بحيرة او مصدر مائي آخر في تكوينها المائي والقاعي في العالم، وحتى في كمية ونسب العناصر الكيميائية والفيزيائية فيها تختلف عن مثيلاتها، ونسبة الملوحة التي في مياهها لا تجعلها مشابهة لمياه البحر ولا لمياه الأنهر، تكون مياهها مشبعة بالكبريت ودافئة دائما لذلك تجد العديد من أنواع الطيور التي تجذبها المياه الدافئة تغازل بحيرة ساوه بوجودها، وهذا ما يجعل منها منطقة صيد لطيور متعددة منها الفلامنكو وطيور الماء والبط الصيني كما يقول حسام. مصدرها المياه الجوية أما بالنسبة للرأي العلمي فيقول رئيس جيولوجيين د. نصير حسن البصراوي في دراسة له تحت عنوان (هيدروجيولوجية وهيدروكيميائية بحيرة ساوه ): بحيرة ساوه بحيرة طبيعية تكونت نتيجة لفاعلية التأثيرات الجيولوجية والتركيبية في المنطقة. مصدر المياه في البحيرة هي المياه الجوفية القادمة من التكوينات المحصورة والمتمثلة بالرص، الدمام والفرات، حيث ساعدت أنطقة الصدوع المتواجدة في المنطقة وخصوصاً نطاق صدع الفرات على نفاذ المياه الجوفية عبرها إلى الأعلى على شكل عيون داخل البحيرة. ملوحة مياه البحيرة عالية جداً وتصل إلى 30000 ملغم/ لتر، وهي ذات نوعية كلوريدية – صوديومية. يحيط بالبحيرة جدار جبسي تكون بفعل إغناء مياه البحيرة بتراكيز عالية من الكالسيوم والمغنيسيوم والكبريتات والآتية من تكويني الرص والدمام، ووصول هذه التراكيز إلى حالة من الإشباع أدت الى ترسيب الجبس على جدار البحيرة وتاركة الصدارة في نوعية المياه الى الكلورايد والصوديوم. أصل المياه في بحيرة ساوه هي المياه الجوية سواء القادمة من الأمطار أم من تكويني الرص والدمام، وهذا ما بينته الدوال الهيدروكيميائية لهذه المياه ومقارنتها مع المياه البحرية...


بحيرة ساوة 1113.jpg?width=400


منقول