بقلم هند الرباط
[RIGHT]يُعد السلطان العظيم نور الدين محمود زنكي رحمه الله نموذجاً فريداً للزهد والورع وحسن القيادة ورباطة الجأش ،ويُعتبر من أعظم شخصيات الدولة الزنكية ، إذ تحفل سيرته بجهاد طويل ضد الصليبيين، وضد الدولة العُبيدية الفاطمية والتي تنتمي للمذهب الشيعي الدخيل على التاريخ الإسلامي الأصيل . كان جهاده النبيل رحمه الله في سبيل نصرة الإسلام ورفع رايته.

أصله ونشأته وحياته :
هو أبو القاسم محمود بن عماد الدين زنكي بن آق سنقر. من ألقابه التي اشتهر بها ، الملك العادل، ومن ألقابه الأخرى ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، كما لقب بنور الدين الشهيد رغم وفاته بسبب المرض وُلِدَ نور الدين محمود زنكي في فجر يوم الأحد من 17 شوال سنة 511هـ/ 1118م بحلب، ولقد نشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما، تعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان نبيلاً شجاعًا ذا همة عالية .

حبه للسنة:
أظهر نور الدين ببلاده السنة، وأمات البدعة، ومن ذلك أمره بالتأذين بـ(حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)، ولم يكن يؤذن بهما في دولة أبيه و جده،
كان نور الدين محباً للسنة حريصاً على اتباعها، قال عنه ابن عساكر: "ولقد حكى عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم يكن يسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا في ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها" . ومع أن السلطان نور الدين رحمه الله حنفي المذهب إلا أنه نشر مذاهب أهل السنة الأربعة، وبنى المدارس، ووقف الأوقاف، وأظهر العدل والإنصاف.

صلاحه وتقواه:

كان السلطان الجليل نور الدين رحمه الله صالحاً.. صادق الرؤيا.. "رأى النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ثلاث مرات، وهو يقول له في كل واحدة منها: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين، لشخصين أشقرين تجاهه، فاستحضر وزيره قبل الصبح فأخبره، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك، فتجهز ـ نور الدين ـ وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك، حتى دخل المدينة على غفلة، فلما زار طلب الناس عامة للصدقة، وقال: لا يبقى بالمدينة أحد إلا جاء، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب، قالا: نحن في كفاية، فجدّ في طلبهما حتى جئ بهما فلما رآهما قال للوزير هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما، فقالا لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فكرر السؤال عليهما حتى أفضى إلى العقوبة، فأقرا أنهما من النصارى ووصلا لكي ينقلا النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحجرة الشريفة، ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي يجعلان التراب في بئر عنهما في البيت.
فضرب أعناقهما عند الشباك الذي شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد وركب متوجهاً إلى الشام راجعاً، فصاح به من كان نازلاً تحت السور واستغاثوا وطلبوا أن يبني لهم سوراً يحفظهم فأمر ببناء هذا السور الموجود اليوم" .

زهده وتواضعه :

كان متواضعًا مهيبًا وقورًا، يكرم العلماء، وكان فقيهًا على المذهب الحنفي، فكان يجلس في كل أسبوع أربعة أيام يحضر الفقهاء عنده، ويأمر بإزالة الحجاب حتى يصل إليه من يشاء، ويسأل الفقهاء عمّا يُشكل عليه، ووقف نور الدين كتبًا كثيرة ليقرأها الناس.

يقول ابن كثير فيه: "كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعًا للآثار النبوية، محافظًا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة محبًّا لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وأبنائه في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يُسمَع منه كلمةُ فُحشٍ قطّ في غضب ولا رضى، صموتًا وقورًا. اتصف نور الدين محمود زنكي بعدد من الصفات النبيلة السامية التي مكنته من تحقيق ذلك النجاح الباهر في بناء وإدارة دولة واسعة منها:

شعوره بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، واعتماده الحلول العقلية، وقوة شخصيته، كما تمتع بخصائص عسكرية فذة جعلته من أعظم قادة زمانه، ومكنته من تحويل جيشه الصغير إلى أعظم قوة عسكرية في الشرق ، كما كان رياضيًّا من الطراز الأول مولعًا بضرب الكرة "البولو" خدمة للأغراض الدينية، ومارس أيضًا رياضة الصيد، وكان تقيًّا ورعًا شغوفًا بالعلم، معظمًا للعلماء، وكان يختار رجال دولته بعناية فائقة، منح المؤسسة القضائية استقلالاً تامًّا، وأنشأ دار العدل التي كانت بمنزلة محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين في الدولة، تحرى العدل وأنصف المظلوم من الظالم دون النظر إلى الفوارق الاجتماعية، كما كان حريصًا على تأمين الخدمات الاجتماعية لرعيته.

فتوحاته :

اعتنى نور الدين بمصالح الرعية، فأسقط ما كان يؤخذ من المكوس، وقام بتحصين بلاد الشام وبنى الأسوار على مدنها، وبنى مدارس كثيرة منها العادلية والنورية ودار الحديث، ويعتبر نور الدين أول من بنى مدرسة للحديث، وقام نور الدين ببناء الجامع النوري بالموصل،
كان نور الدين محمود زنكي وهو في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم، فالخطوة الأولى التي كان قد بدأها والده عماد الدين زنكي حين حرَّر إمارة الرها التي تشكِّل تداخلاً مع الأراضي الإسلامية، فتمكن بذلك من تطهير الأراضي الداخلية وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي، وعليه أن يخطو الخطوة الثانية، لذلك وضع أسس سياسة متكاملة تتضمن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانيًا، وطرد الصليبيين من المنطقة ثالثًا، وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن واحد، فأما توحيد الصف فهو جمع بلاد الشام ومصر في إطار سلطة سياسية واحدة، وأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة، وكان كلَّما توغل في خضم الجهاد، وتقدم به الزمان يزداد اقتناعًا بصواب هذه السياسة، وكان سبيله إلى ذلك مزيجًا من العمل السياسي والمعارك العسكرية التي تخدم توحيد الصف والهدف.

إنجازاته :

بشأن إنجازاته الإجتماعية والإدارية فلقد لخصها ابن عساكر في قوله: "وأدر على الضعفاء والأيتام الصدقات، وتعهد ذوي الحاجة من أولي التعفف بالصلات، حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة العميان، ومعلمي الخط والقرآن، وعلي ساكني الحرمين ومجاوري المسجدين، وأكرم أمير المدينة الحسين، وأحسن إليه، وأجرى عليه الضيافة لما قدم عليه وجهز معه عسكراً لحفظ المدينة، وقام لهم بما يحتاجون إليه من المؤونة، وأقطع أمير مكة إقطاعاً سنياً، وأعطى كلاً منهما ما يأكله هنياً مرياً، ورفع عن الحُجّاج ما كان يؤخذ منهم من المكوس، وأقطع أمراء العرب الإقطاعات لئلا يتعرضوا للحجاج وأمر بإكمال سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واستخراج العين التي بأحد وكانت قد دفنتها السيول، ودعي له بالحرمين، واشتهر صيته في الخافقين، وعمر الربط والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم وبقدر ما يكفيهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار وحران والرها والرقة ومنبج وشيزر وحماه وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلا وله فيه حسن أثر، وما من أهلها أحد إلا نظر له أحسن نظر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلابها، وأقام عليها الحفظة من نقلتها وطلابها وأربابها، وجدد كثيراً من ذي السبيل وهدى بجهده إلى سواء السبيل ".

نور الدين محمود زنكي يربي صلاح الدين الأيوبي على الجهاد:

من الملامح البارزة في حياة نور الدين محمود زنكي علاقته بصلاح الدين الأيوبي؛ إذ تولى نور الدين تربية صلاح الدين منذ صغره؛ فكان له بمنزلة الوالد والمعلِّم، وكان يدربه على فنون القتال، ويغرس فيه حب الجهاد في سبيل الله U، ثم عينه بعد ذلك قائدًا للشرطة، ثم أرسله بصحبة عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر؛ استجابة للوزير شاور ضد ضرغام الذي استعان بالصليبيين، وبعد انتصار أسد الدين ووفاته، تولى صلاح الدين الوزارة في مصر للدولة العُبيدية، رغم كونه سُنيًّا، وعمل صلاح الدين على تنفيذ أحلام نور الدين، وأحلامه الشخصية، وأحلام المسلمين جميعًا بالقضاء على الدولة العبيدية، وعادت مصر دولة سنية مرةً أخرى، وأضاء وجهها المشرق من جديد.

كانت علاقة نور الدين محمود زنكي بصلاح الدين بعد إسقاط الدولة العبيدية الفاطمية ، حسنة إجمالاً، وبخاصة أن صلاح الدين قام بتنفيذ الأمر الصادر إليه من نور الدين بوجوب الدعوة للخلافة العباسية بوصفه نائبًا عنه، وقائدًا لقواته في مصر، ومع ذلك لم تلبث هذه العلاقة الطيبة أن أخذت في التوتر تدريجيًّا.
ولقد عرض بعض المؤرخين وجهات نظر مختلفة تحاول أن تكشف عن أسباب هذا التوتر منها:

* الطموحات التي نشأت لدى أسد الدين شيركوه في حكم مصر، فلم يخف شيركوه هذه الغاية في نفسه بل ظل يتحدث عنها حتى استاء نور الدين محمود زنكي وانتابه القلق من هذا الطموح.

ولكن اختلاف وجهات النظر السياسية كانت من أهم أسباب توتر العلاقة بينهما ، فقد رأى نور الدين محمود زنكي في بلاد الشام أنها بمنزلة الأرض الرئيسية للمعركة ضد الصليبيين، وتطلع إلى مصر كمصدر للطاقة البشرية الإضافية والواردات المادية التي تسد نفقات الجهاد، وخطوة تمهيدية للقضاء على الصليبيين في بيت المقدس وهو لم يناضل في ضمها إلا من أجل هذه الغاية، أمّا صلاح الدين فقد كان مقتنعًا نتيجة للصراع بين القوى الثلاث في الشرق ، الإسلامية والصليبية والبيزنطية حول مصر بأن هذا البلد يشكل في الوقت الراهن مركز الثقل في العمليات العسكرية.

شهادات المؤرخين وثناؤهم عليه :

قال ابن الأثير في بيان فضله: « قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريًا للعدل والإنصاف منه ".

يقول الإمام ابن عساكر: « بلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، حسن الرمي بالسهام، صليب الضرب عند ضيق المقام، يقدُم أصحابه عند الكرة، ويحمي منهزمهم عند الفرة، ويتعرض بجهده للشهادة لما يرجو بها من كمال السعادة ».

وقال الفقيه أبو الفتح الأشري: « وكان نور الدين محافظًا على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها. وكان كثير الصلاة بالليل كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها».

نسأل الله تعالى أن يتغمد السلطان العادل نور الدين بواسع الرحمة وعظيم المغفرة وأن يسكنه الفردوس الأعلى ، اللهم آمين ، كما نسأل الله عز وجل أن يمن على المسلمين بقادة من أمثاله، ما أقصى الأماني لولا الثقة في الله تعالى والرجاء في رحمته الأسمى.
السلطان الجليل العادل نور الدين محمود زنكي do.php?imgf=13924385

[/COLOR][/SIZE]