جراحات التّجميل في مجتمعاتنا باتت أشبه بظاهرة تستحقّ الوقوف عندها ودراستها، لمعرفة الأسباب الحقيقيّة وراء هذا الانتشار الواسع. فاليوم، أصبحنا نسمع أكثر بأطبّاء متخصّصين في مجال التجميل والترميم، كما أن مراكز التجميل ازداد عددها بشكل ملحوظ، فهي منتشرة بشكل واسع ولافت.
في هذا التحقيق، نبحث في إشكالية الحاجة لإجراء جراحات التجميل، وهل تندرج ضمن الحاجة الطبية، أم في إطار الرغبة لمواكبة العصرنة التي نعيشها هذه الأيام في مجتمعاتنا؟ كما سيكون لنا وقفة مع نظرة الشرع الإسلامي إلى هذه الظاهرة، وهل هناك من محاذير شرعيّة في هذا المجال؟
نبدأ التحقيق مع تجربة ندى، الّتي انغمست في عالم التجميل منذ سنوات، وهي تبحث اليوم عن طريق للخلاص من أتون هذا العالم المليء بالمغريات. الجراحات التجميلية باتت أكثر انتشارا في مجتمعاتنا

قصّة ندى مع عمليّات التّجميل
تتحدّث ندى عن قصّتها مع عمليات التجميل التي بدأتها في سنّ الخامسة عشرة، إثر حاجتها لعمليّات تجميل في أنفها، بسبب وجود كسر في الأنف يؤثّر في عملية التنفس. أجرت ندى العمليّة، وهي لم تكن تعرف ماذا سيجري بعد ذلك. فبعد العملية، اكتشفت ندى أن أنفها تغير شكله عن السابق، وهي لا ترغب في بقائه على ذلك الشكل. ضغطت على والديها غير الراضيين عن إجراء عملية جديدة، إلا أنهما رضخا لرغبة ابنتهما الوحيدة، وبعد ستة أشهر من الاقتصاد لتأمين التكاليف، أجريت العملية ونجحت، ولكن كرّت السبحة فيما بعد.
بعد سنتين من إجراء العملية الأخيرة، ومع انخراط ندى في سوق العمل، وجدت نفسها مرّة ثانية متجهة إلى عالم التجميل، وخصوصاً أنها أصبحت قادرة على الدّفع من مالها الخاصّ، دون الحاجة الى مساندة من الأهل.
من يدفع يحصل على ما يريد
ازدادت رغبة ندى في تحسين شكلها كما تقول، وأجرت عملية تجميليّة لمنطقة تحت العين، لأنها كانت تعاني بعض الاسوداد هناك، وبعد أربع سنوات، أجرت عملية ربط للمعدة من أجل إنقاص وزنها، وها هي اليوم بعد إنجاب ولدين، تفكر في إجراء عملية تجميليّة لبطنها، كي تتخلّص من تشقّقات الحمل.
تتحدّث ندى بصراحة متناهية وتقول:"ربما بالغت في اللّجوء الى عمليات التّجميل، ولكن، في رأيي، فإن التطوّر في عالم التجميل وجد ليكون حلاً للكثيرين ممن لديهم مشاكل في مظهرهم، واليوم من يدفع يحصل على ما يريد.. الجراحات التجميليّة كانت مقتصرة على النّساء، أمّا اليوم، فيخضع الرّجال لعمليّات التّجميل

علم وضرورة طبيّة
يؤكّد د. عبد الأمير فضل الله، الاختصاصي في جراحة التّجميل والتّرميم، أنّ الجراحات التجميليّة باتت أكثر انتشاراً في مجتمعاتنا، ففي السّابق، كانت المسألة تتعلّق بالفئات الغنيّة أو الميسورة فقط، وقلّة من النّاس كانوا يفكّرون في إجراء العمليّات التجميليّة. أمّا اليوم، فهي لم تعد حكراً على أحد، بل أصبحت بمتناول الجميع، لأنّ كلفتها أصبحت أقلّ من السّابق. ويشير د.فضل الله إلى أنّ ظاهرة التّجميل دخلت اليوم في المبادئ الشعبيّة العامّة، ولا سيّما مع ازدياد الثّقافة الطبيّة عند النّاس، إلى جانب الثّقافة الجراحيّة، فمن يرغب بإجراء عمليّة جراحيّة تجميليّة، يقدم على ذلك وهو يعرف ماذا يفعل، وما هي المخاطر الّتي تواجهه. ويسجّل د.عبد الأمير ملاحظةً مفادها أنّ بعض الجراحات التجميليّة كانت مقتصرةً على النّساء، أمّا الآن، فلم يعد الأمر على هذا النّحو، وأصبح الرّجال يخضعون لعمليات تجميليّة، وإن بنسب متفاوتة.
التّجميل من النّاحية الطبيّة؟!
التّجميل هو ترميم عاهة أو ترميم جرح، أو أن يكون هناك شيء يزعجنا، مثل أذن أو أنف، أو شدّ وجه أو ما إلى ذلك، ففي عالم التّجميل ليس هناك أنواع، بل حاجات عند الإنسان نعمل على تلبيتها. فالجراحة التّجميليّة يجب أن تتمّ تحت إشراف طبيب مختصّ، يتولّى بنفسه مباشرة هذه العمليّة الّتي تعتبر بالدّرجة الأولى جراحيّة، بحيث نضطر خلالها أحياناً إلى إدخال جسم غريب، وهذا عمل طبّيّ يتطلّب طبيباً مختصّاً. تكثر المراكز غير المتخصّصة في عالم التجميل وتخفض الأسعار لجلب الزّبائن والنّتائج غير مضمونة

يتابع د.عبد الأمير فضل الله شرحه للجانب الطبي من الموضوع، مشيراً إلى وجود حالات تندرج في إطار الضَّرورة الطبيَّة، وخصوصاً عندما تتأثَّر صحَّة الإنسان أو حركته أو حتّى نفسيَّته. هناك حالات طارئة تستدعي التدخّل وإجراء عمليّة بشكل سريع، ولا سيَّما في حال الحروق، وعدم قدرة الإنسان على تحريك اليد بسبب الحرق، ففي هذه الحالة، نحتاج إلى جراحة ترميم وليس جراحة تجميل، وفي الأغلب، يلجأ النَّاس اليوم إلى عمليّات التّجميل بسبب الرّغبة في تحسين الشّكل، على الرّغم من عدم وجود مشاكل في التنفّس، ولكن قد يقدم الشّخص عليها ليرتاح نفسيّاً.
مراكز التّجميل
وفي قراءةٍ لواقع المراكز التجميليّة، يؤكّد د.فضل الله وجود مراكز مهمّة في لبنان والعالم العربيّ تحترم نفسها، وتتعامل مع أطبّاء اختصاصيّين، يستعملون تقنيّات عالية جداً. وفي المقابل، هناك من يتعدّى على هذه المهنة، من خلال مراكز غير متخصّصة، تعمد إلى تخفيض الأسعار لجلب الزبائن، وهنا تكمن المشكلة، لأنّ النّتائج غير مضمونة.
ويحذّر د.فضل الله من المخاطر الطبيّة في حال اللّجوء إلى مراكز تجميليّة غير متخصّصة، لأنّ ذلك قد يسبّب التهابات في مكان الجرح وتداعيات سلبيّة.
رأي الشّرع
"عمليّات التّجميل هي عمليّات جائزة من حيث المبدأ من النّاحية الشرعيّة".
هذا هو رأي الشَّرع الإسلامي الّذي أفادنا به عضو المكتب الشرعيّ لسماحة العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله(رض)، سماحة الشّيخ حسين عبد الله، الّذي أوضح أنَّ الشّرع الإسلاميّ لا يمنع من مسألة تجميل الإنسان لجسده، أو إحداث بعض التَّغييرات، سواء كانت عيوباً يريد إخفاءها، أو أموراً يريد إصلاحها، أو حتّى كان الأمر ليس لأجل علاج أو إصلاح عيوب، بل لأجل التّحسين والتّجميل. على سبيل المثال، إذا كانت امرأة لها أنف كبير، وترغب في تصغيره، أو كانت بعض النّساء أو بعض الزّوجات تحتاج إلى عمليات تجميل، سواء للصَّدر أو الرّجلين أو المعدة، فهذا الموضوع جائز من حيث المبدأ وليس محرَّماً.
ولكن؟!
يتابع سماحة الشّيخ حسين عبد الله، مشيراً إلى إشكاليّات فقهيّة عند بعض الفقهاء حول الموضوع، تتركّز حول الأسئلة التّالية: هل هذا يعدّ من تغيير خلق الله الّذي ورد الحديث عنه في القرآن الكريم عن لسان إبليس: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ}[النّساء: 119]؟ الشّرع يفرّق بين ما إذا كانت الجراحة التجميليّة في موردٍ علاجيّ أو تجميليّ

هنا الردّ بأنّه ليس المراد بتغيير خلق الله التّغيير الجسديّ، لأنّه إن كان المراد التّغيير الجسديّ، فإنّه يمنع على الإنسان أيّ عمليّة أو إحداث شيء، وعلى هذا القياس، ألا يعتبر قصّ الشّعر تغييراً في الجسد، أو قصّ الأظافر مثلاً، هل هذا تغيير في الجسد؟
ويتابع الشّيخ عبد الله متسائلاً: إذا ولد إنسان عنده أصبع زائد؛ هل يحرم عليه أن يزيل هذا الأصبع الزائد بحجّة أنّه تغيير في خلق الله؟ فإن جاز هذا هنا، فإن قالوا بأنّ هذا الأمر علاجيّ، فإذاً يصبح عندنا حكم عامّ عليهم أن يلتزموا به، أنّه إذا كان في مورد العلاج، فعليهم أن يلتزموا به ويصبح جائزاً في الحالات المشابهة.
التّجميل لغير العلاج
الخلاف الأساس من النّاحية الشّرعيّة مع عمليّات التّجميل، هو بمورد التجميل للتّجميل المتعلّق بغير العلاج. ويتوقف سماحته عند الآية: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}[الرّوم: 30]، مشيراً إلى أنّ الآية لا دليل فيها على حرمة تغيير الجسد، فتبقى مسألة تجميل الإنسان لنفسه، ولو بإحداث تغييرات في أعضائه، على أصل الإباحة، إلا إذا كان الموضوع يتعلّق بكشف ما يحرم كشفه في حالة التّجميل غير الضّروريّ، لأنّ الشّرع يفرّق بين الجراحة التجميليّة في مورد علاجيّ، والجراحة التجميليّة لغيره، ولكل حالة حكمها في الشرع.
وحول إشكاليّة إجراء عمليّات تجميل من أجل الإغراء، وتحديداً عند النّساء، يقول سماحته:
"الإغراء لا يتوقّف على تغيير الجسد، بل هناك إغراء في أدوات التّجميل وفي طبيعة الثياب، وفي الممارسات، وفي الصّوت، وربما تكون عمليات التّجميل تساعد في تصحيح العلاقة الزوجيّة بين الزّوجين أو ما إلى ذلك، فلكلّ حالة حكمها، ولا يمكن الحكم بالمطلق على الموضوع".
توصيات طبيّة
وفي الختام، يشدِّد د.عبد الأمير فضل الله، الاختصاصي في جراحة التَّجميل والتَّرميم، على ضرورة القيام بالعمليّات التّجميليَّة من خلال طبيب مختصّ، من أجل تفادي التّأثيرات الصحيّة السلبيّة، سواء كانت للعلاج أو لغيره، لأنّ المختصّ، يستطيع، في حال حدوث مشاكل بعد العمليّة، معالجة الجرح بشكل أفضل. علينا أن نتعاطى مع عمليّات التّجميل على قدر الحاجة، حتّى لا ندخل في حلقة مفرغة لا تنتهي

ويختم د.فضل الله بالقول: "نصيحتي لكلّ إنسان: لا تقدم على عمليّة تجميليّة إلا بقدر الحاجة، حتّى لا تدخل في حلقة مفرغة لا تنتهي منها، فتصبح عمليّات التّجميل كالسبّحة، وهذه السبّحة تكرّ حتّى تصل إلى مرحلة عدم الرّضا عن الذّات، وهنا الخطورة الأكبر في الموضوع.
فاطمة خشّاب درويش