حيكت أساطير كثيرة حول «تدمر» منذ عهد الجاهلية حتى قال «النابغة»:
وخيس الجن إني قد أمرت لهم أن يبنوا تدمر بالصفاح والعمد
ويبدو أن الكثير من الحكايا التي قيلت حول نشأة تدمر كانت كثيرة إلى حد يسهل معه القول: إن تدمر شغلت العالم القديم. لكن ما إن ظهر الإسكندر المقدوني ليقلب وجه البسيطة عام «331ق.م» ثم يموت بسرعة تاركاً سورية تتخبط، حتى قامت في حمص حكومة وطنية بقيادة بدوي عربي قوي البأس يدعى «شمسي كرم» أعلن استقلاله عن العرش اليوناني.
حكمت أسرة «شمسي كرم» هذه حتى أيام القيصر «دومتيان» «81ـ 92م». لكن هذه الأسرة العربية لم تذهب قبل أن تمهد السبيل لاستقلال «تدمر»، فأصبحت إمارة بقيادة أسرة عربية بدوية ذات شأن تدعى «آل السميدع» سرعان ما حكمت وأصبحت تملك النفوذ الحقيقي في الشرق. وقد نبغ فيها بطل مشهور اسمه «أذينة بن حيران بن السميدع» قام بثورة، وخلع نير الرومان عام 250م. لكن ثورته أخفقت وانتهت بموته. وكان لأذينة ولد يدعى «أذينة» باسم أبيه فالتجأ إلى البادية عام «251ـ 258» وبقي هناك يسعى حتى استطاع أن يلفّ حوله رهطاً من شجعان البدو الذين كانوا يخيمون في تلك الأصقاع، فاقتحم «تدمر» وأجبر امبراطور الروم أن يعترف له بحق زعامتها، فعظم أمره ودانت لسطوته سورية والأناضول، وضربت باسمه النقود. لكن مجده لم يطل، إذ سرعان ما اغتاله ابن أخيه «مهنا» عام 266م. لكن أهل حمص ثاروا عليه وقتلوه عام 267م. وكانت «زينب» زوجة أذينة امرأة جميلة وشجاعة وذكية، وكان لها منه ثلاثة أولاد هم: «دحيلان» و»حيران» و»تيم الله». فأقامت الأول خلفاً لأبيه، ونصبت نفسها وصية عليه فلم تقلّ عن زوجها سطوة وهيبة، فأزالت اسم «اورليان» عن النقود سنة «271م»، وأرسلت جيشاً من سبعين ألف مقاتل بقيادة «زبداي» إلى مصر، فاستولت عليها وصارت حدود مملكتها تمتد إلى النيل جنوباً والفرات شرقاً والبحر المتوسط غرباً، فعظم شأنها وبنت عاصمتها وزينتها زينة جعلتها مشابهة لأعظم العواصم بما أضافته إليها من الأبنية الفخمة والحصون المدهشة التي مازالت باقية حتى الآن.
لكن مجد سلطانة المشرق لم يطل، فقد تنبهت روما لهذا الخطر الداهم، فأخذت تستعد لكسر شوكة التدمريين. فجهز الامبراطور «اورليان» جيشاً جراراً قاده بنفسه معتقداً أنه يستطيع في مدة قصيرة أن يدك أسوار تدمر إلى الحضيض، غير أن التدمريين وقفوا بوجهه وأظهروا من البسالة ما ذكره لهم التاريخ بالإعجاب. ولما رأى اورليان عناد زينب وبسالتها كتب لها ما يلي: «من اورليان» عاهل العالم الروماني وغازي الشرق إلى زينب ومن يلوذ بها. عليكم أن تستسلموا، وأنا أعدكم بأن تبقوا أحياء. أما زينب فعليها أن تعتزل».
فكان جواب زينب: «من زينب ملكة المشرق إلى اورليان: لم يجسر أحد أن يطلب مني ما طلبته، وستقضي الحرب بيني وبينك، أنت تبغي استسلامي، وتجهل أنني أفضل الموت على أن تمنّ عليّ أنت بالحياة».
وعندما تسلم اورليان هذا الرد صعق لهذه الجرأة، فهاجم تدمر لكنه لم يستطع اقتحام أسوارها لمناعتها، فحاصرها حتى نفد ماؤها فاقتحمها ليجد زينب تقف أمامه شاخصة كالرمح تتقدم ما تبقى من رجالها الذين بلى جسمهم التعب والضنك، ولكنه لم يبل بأسهم وعزيمتهم، وتذكر الروايات أن اورليان قد دهش من هذه الشجاعة والشموخ التي تبديها امرأة بدوية وهو الذي عهد المرأة الرومانية جارية في بلاطه مهمتها تسلية عسكره. وهنا تشعبت الروايات وتعددت حول نهاية تلك المرأة الحديدية التي استطاعت أن تهز عرش روما عاصمة الدنيا في تلك الفترة، وتجبر «عاهل العالم» قيصر روما كما كان يلقب نفسه أن يقف ولو لبعض الوقت أمام أسوار مدينة تحميها امرأة عربية بدوية اسمها زينب.
ما أجمل صفحات التاريخ عندما تشكل لوحة معبرة نعلقها على أطلال التقاليد والعادات الحاضرة لتصور لنا كيف كانت المرأة العربية في الماضي وكيف أصبحت في الحاضر.

د. منى الياس
منقوول