لست أدرى ماذا أصاب القوم؟ وما هى علتهم تحديدا؟ وأى روح خبيثة سكنت أجسادهم وسحرت عقولهم المهترئة؟ لقد باتوا كائنات طفيلية متسلقة يتسولون المنح والمعونات من كل حدب وصوب يتقمصون دور العمال، وما هم بعاملين، لا ينضح العرق من جباههم، وتفتقد الصلابة والقوة فى ملمس أيديهم لقد تخلى جميعهم عن واجباته أو كاد، وجلس مترنحاً يستجدى عطف الآخرين ومنّتهم.. وبما أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وبما أن قرآننا يقرن الإيمان بالعمل دائماً فلا أمل فى الخانعين والمتنطعين.

مما يدمىّ القلب أن ترى برنامجاً تليفزيونياً عن فلاحى فرنسا، وكيف أنهم من أكبر منتجى ومربى البط لدرجة أنه من فائض إنتاج البط يحفظونه بطرق خاصة، أشبه بحفظ المشّ والجبن عند فلاحينا.

أما عندنا فقد تخلت الفلاحة المصرية عن دورها التاريخى ولم تعد تستيقظ فجراً لرعاية الطيور وحلب البهائم، أو صنع الخبز وجنى الخضار بل بات شغلها الشاغل أن تسارع إلى أقرب مخبز لتحجز لها مكانا فى طابور الخبز.

إن الفلاح المصرى تخلى عن أرضه بثمن بخس وبنى مكانها البيوت الأسمنتية، وتخلى عن دوابه التى هى مصدر رزقه، مستقبحاً مصاحبتها مستعليا ومزدرياً إياهاـ تواقاً إلى رفاهية ممقوتة استهلاكية لن تنتج له أى خيرـ لقد تخلى ببساطة عن مصدر رزقه فتخلى الرزق عنه.

ورحم الله زمناً كان لا تقر للفلاح فيه عين إلا وحظيرته ملاصقة لبيته ولا يغمض له جفن إلا بعد الاطمئنان على دوابه كما يطمئن على أولاده، وبالقياس على ذلك بقية المهن المنتجة التى ازدارها أصحابها وهجروها متأففين، وبات الإنتاج والتصنيع فى خبر كان وظن الجميع أن المهن الإدارية والخدمية ستتيح لهم قدراً من الرفاهية وتجعلهم يرفلون فى أثواب الدِعة والأناقة راكلين بأقدامهم ملابس العمل المتسخة بالطين والشحوم.

ما لهم ولظى الشمس الحارقة فى هجير الصيف؟
ما لهم وبرد الشتاء القارص يفتت عظامهم؟

إنهم فى منأى عن كل هذا التعب، وهكذا صرنا شعباً استهلاكياً لا ننتج شيئا من صنع يدنا بدءا من الملابس التى تغطى أجسادنا مرورا بكل ما نأكله وانتهاءً بكل ما نستعمله.
فكيف نطلب العُلا ونحن نتسكع فى شوارع السبات؟
وكيف نضمن حريتنا ومقومات حياتنا الأساسية صنيعة الآخرين وبأيدهم؟
وأين ذهب الزمن الذى كان الفلاحون فيه يمتلكون اكتفاءً ذاتيا ويأكلون من خير الأرض ولحم الطيور والألبان والأغنام حتى عسل النحل ويفيض خيرهم على بقية الشعب؟

أين ذهب الزمن الذى كانت فيه المرأة المصرية منوطة بصنع ملابس أسرتها من حياكة وأشغال صوفية.
أين ذهب زمن التصنيع والإنتاج بحق؟
لا زمن البطالة المقنعة المتنطعة فى أروقة الحكومة والله لو لم ننفض عنا دثار الكسل والتقاعس لو لم ننهض من كبوتنا لأصبحنا أضحوكة العالم.



أكثر...