العيب فى ذات أفندينا
السلام عليكم ورحمة الله
العيب فى ذات أفندينا من الكتب الممتعة التى تناول فيها الراحل دكتور يونان لبيب رزق تهمة العيب فى الذات الملكية على امتداد عصر الخديو الى عصر الرئيس السابق مبارك .. المقصود بأفندينا فى الكاتب حاكم مصر أيا كان لقبه خديو .. سلطان ..ملك .. رئيس جمهورية .
بدأ الكتاب بتمهيد واستعراض بدء الحياة النيابية فى مصر عام 1866 وذلك فى مجلس شورى النواب الذى قام بتعيينه الخديو اسماعيل .. وقتها وفى أول الجلسات شهد البرلمان حادثة طريفة حيث قام رئيس البرلمان يشرح للنواب أن الأصل فى البرلمانات الأوربية أن يكون هناك حزبان أحدهما مؤيد للحكومة وآخر معارض لها يجلس المؤيد على اليمين والمعارض على اليسار فما كان منهم جميعا ألا أن تسابقوا للجلوس على الجهة اليمنى مرددين بأنهم عبيد افندينا فكيف يعارضون حكومته ! ...
وفى عهد الخديو اسماعيل أيضا احتجز بشارة تقلا مؤسس الأهرام فى قصر عابدين لأنه كتب فى احدى مقالاته بأن الفلاح مظلوم ... وكيف أنه كان للحاكم افندينا هيبة ومكانة للحد الذى جعل العبيد وحاشية الخديو يصرخون ويشقون الجيوب ويلطمون اذ أن الخديو اسماعيل عزل ليحل محله ابنه توفيق ..
مرورا بثورة عرابى أو ما اطلق عليها وقتها هوجة عرابى وتوجه الجيش الى ميدان عابدين فى سبتمبر 1881 م .. ودار حوار بين الخديوى وعرابى وهذا معروف لكن الأكثر غرابة وما لم اطلع عليه مسبقا أن عبارة " ما أنتم ألا عبيد احساناتنا ورثتكم عن آبائى واجدادى ورد عرابى الشهير " والله الذى لا اله الا هو أننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم " ... هذا العبارة التى دخلت التاريخ وظلت سنوات طويلة تتردد على مسامعى ومسامع الأجيال هذه العبارة ليس لها أصل فى الكتابات التى عاصرت الحدث ووردت فقط فى مذكرات عرابى والتى كتبها بعد سنوات طويلة من الحدث !
مرورا بعصر الخديو عباس حلمى الثانى ومحاكمة أحمد حلمى صاحب جريدة القطر المصرى لأنه نقل مقالا عن صحيفة العدل التركية تمتهن اسرة محمد على و تشير الى ظلمها للمصريين واستيلائهم على مقدرات البلاد وقد اورد صاحب الصحيفة المقال بزعم الرد عليه وتفنيده وبالفعل نشر تفنيدا لها لكن ذلك لم يشفع للرجل وحوكم بتهمة اهانة مسند الخديوية وحكم عليه بغرامة 100 جنيه والسجن المخفف عشرة اشهر .. يوقف تنفيذها فى حال دفع كفالة قدرها 1000 قرش ولكن يبدو أن أحمد حلمى وقتها لم يكن ليملك ال1000 قرش وقضى شهور سجنه لاهانته مسند الخديوية ..
ووضع قانون العيب فى الذات الملكية فى دستور 1923 م ونص على أن " الملك هو رئيس الدولة الأعلى وذاته مصونة لاتمس " .. وشهد عصر الملك فؤاد محاكمة الدكتور محمود عزمى لأنه طالب فى مقالته بوضع حد للتدخلات وألا اصبح الدستور مجرد حبر على ورق .. وبالفعل حكم عليه بغرامة 20 جنيه بعد تخفيف الحكم .. كما شهد هذا العصر محاكمة عباس محمود العقاد لأنه قال فى مجلس النواب " فليعلم الجميع أن هذا المجلس مستعد أن يسحق أكبر رأس فى البلد فى سبيل صيانة الدستور وحمايته . " ورغم ان الكلمة لم ترد فى مضبطة المجلس ألا أن جريدة الأحرار الدستوريين حرصت على نشرها للايقاع بين الملك والوفد وانقسمت الصحف بين مدافع عن العقاد ومناهض للوفد .. وبالاضافة الى استخدامه كلمة الرجعية فى مقالاته تحين القصر الفرصة المناسبة لتقديم العقاد للمحاكمة وكان المحامى عنه القطب الوفدى مكرم باشا عبيد ..وصدر الحكم فى ديسمبر 1930 بحبس العقاد 9 أشهر حبسا بسيطا ...
كما استمر تقديم الشخصيات للمحاكمة بتهمة العيب فى الذات الملكية فى عهد الملك فاروق وبانتهاء عصر أسرة محمد على وتنازل الملك فاروق عن العرش اختفى العمل بقانون العيب فى الذات الملكية لأنه لم يعد هناك ملوك وأن بقى فى نفوس من خلفوهم رفض العيب فى ذواتهم !!! ..
أما فى العصر الجمهورى فلم يكن هناك مجال للعيب فى ذات الرئيس عبد الناصر اذ أن الرجل معروف باستقامته كما أن زخم الأحداث التى شهدتها مصر حالت دون ذلك فالرجل لم يفقد شعبيته رغم التحديات والنكسة وما دار فى عهده بل أنه لأول مرة تقبل المصريين فكرة الزعيم الأبوى بعد سعد زغلول .. فالعيب فى عهد عبد الناصر كان ممنوع برغبة شعبية ..
بينما شهدت سنوات حكم السادات الأخيرة خاصة بعد توقيع معاهدة السلام كما من المعارضة السياسية للدرجة التى دفعت السادات لاصدار قانون حماية القيم من العيب .. فكان السادات برأى المؤلف يتصرف من خلال التربية الريفية والتى فى اعتقاده جعلته يشعر أن المنصب الذى تبوأه يمنحه الحق لأن يكون أبا لجموع المصريين وهو قريب من منطق العمدة فى أى قرية والذى ما أن يتبوأ منصبه حتى يصبح بالنسبة لأهلها " آبا العمدة " ...
أما الرئيس السابق مبارك فقد شهد عصر انتهاء فتراته الرئاسية أكثر من مرة بعكس سابقيه وكان قد جاء فى وقت بدأ الأتحاد السوفيتى ينزوى ويتفكك فلم يعد لديه أختيار سوى التوجه صوب الولايات المتحدة اذ أن السادات سلفه اختار التوجه اليها بعكس عبد الناصر الذى كان حليفا للأتحاد السوفيتى فكلا الراحلين كان لديهما الأختيار أما مبارك فلا .وأشار الى أن عهد مبارك حمل الكثير من الهجوم عليه والذى تعالى فى السنوات الأخيرة بسبب دور نجله جمال وما يتردد عن التوريث ودور لجنة السياسات .. وهنا يعمد المؤلف الى المقارنة بين النقد والتجريح وأن كثير من الصحف الخاصة لم تعد تفرق بين الأثنين ..
وقد احتوى الكتاب على عدد غير قليل من الملاحق كوثائق للدراسة منها ما كتبه خليل مطران فى رثاء بشارة تقلا .. وما ورد فى مذكرات عرابى وسليم النقاش والأهرام حول حادثة عابدين ووثيقة اتهام احمد حلمى والعقاد ومذكرة الدفاع ومنطوق الحكم وغيرها مما وثق المؤلف به دراسته ..
ومن أهم الفقرات التى وردت فى الكتاب فى الفصل السابع حيث استحسن المؤلف قيام الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 عبر استفتاء شعبى لتفتح المجال لأنتخاب رئيس الجمهورية وقال بالنص فى ص95
" غير أن الأمر يتطلب قبل ذلك اصلاحات فى النظام السياسى والأجتماعى القائم وهى اصلاحات قد تقضى باتخاذ اجراءات قد تبدو مؤلمة لبعض القائمين على السلطة ولكنها سوف تكون يقينا أقل ايلاما مما يجرى الآن والذى ينذر بوقوع مصر فى أيدى حكومة سلفية تحل محل الحكومة المدنية التى عرفتها قبل قرنين من الزمان بكل النتائج الوخيمة التى تترتب على ذلك "

اذن المرحوم الدكتور يونان لبيب رزق تنبأ بوقوع مصر فى ايدى حكومة سلفية عام 2007 وقبيل الثورة بسنوات أربعة ولكن آذان النظام أبت أن تسمع .. وأبى عقله أن يستوعب .. حينما تنطلق الصرخات من أعماق التاريخ وكتابه فلا تجد مجيبا فلا عجب اذا أننا أمة قرأت فى التاريخ ما يعجبها وفقط ولم تعمد الى الأستفادة منه ..

كتاب العيب فى ذات افندينا .. تأليف د . يونان لبيب رزق .. صادر عن دار الشروق 2008 ..