ديمقراطية للقلة - مايكل بارنتي

حول الكتاب

لقد حاول اختصاصيو العلوم السياسية الذين يمثلون الاتجاه السائد في أميركا، والمدافعون عن النظام الاجتماعي القائم لعدة عقود، إعادة عرض كل النواقص في النظام السياسي حيث تبدو وكأنها نقاط قوة. فهم يحاولون إقناعنا بأن الملايين ممن يحجمون عن الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات الأميركية قانعون بالظروف الاجتماعية الراهنة، وإنه لا داعي للقلق من وجود جماعات ضغط اللوبي كبيرة النفوذ، لأن هذه الجماعات إنما تمارس دور تزويد الحكومة بالمعلومات الحيوية، كما يجادلون بأن التركيز المتزايد للسلطة التنفيذية هو أمر جيد نظراً لأن الرئيس إنما يستجيب وبصورة ديمقراطية للمصالح الوطنية العريضة وليس لمصالح الخاصة. ويجادل المدافعون عن الاتجاه السائد بأن استبعاد وجود أحزاب ثالثة إلى جانب الحزبين الأميركيين الرئيسين هو أمر في مصلحة البلاد نظراً لأن وجود الكثير من الأحزاب إنما يؤدي إلى تشتت النظام السياسي وزعزعته. علاوة على ذلك فإن الحزبين الرئيسين إنما يجمعان في صفوفهما وجهات نظر الأحزاب الصغيرة حسب زعمهم، وهو ما يثير دهشة الاشتراكيين أو أية أحزاب إصلاحية ممن ظلت وجهات نظرها مهمشة لأجيال عديدة كرد فعل على الاتجاه السائد الذي يحاول تصوير كل رذيلة على أنها فضيلة يشعر المنتقدون الراديكاليون للوضع الراهن أن عليهم أن يحولوا بدورهم كل فضيل إلى رذيلة.
وعلى ذلك فهم يجادلون بأن الكفاح من أجل انتخاب ممثليهم هو كفاح بلا معنى، وأن الحريات المدنية هي مجرد تمثيلية، وأن الإصلاحات هي في جلّها مجرد محاولات لتهدئة المضطهدين.

يحاول كتاب (ديمقراطية القلة) رسم صورة متوازنة. فهو يسعى لتبيان حقيقة أن الديمقراطية تتنافى في الرأسمالية القائمة في الوقت الراهن، وأن النظام الاجتماعي الرأسمالي إنما ينتهك الديمقراطية على نحو مستمر. كما يبين الكتاب في الوقت نفسه كيف تسعى القوى الشعبية لمتابعة كفاحها المضاد، وكيف أنها تحقق نجاحاً في هذا الصدد في بعض الأحيان. ‏
يقدم كتاب «ديمقراطية القلة» تفسيرات عن الموضوع المحظور الرأسمالية التي ابتعدت عنها الكتابات السياسية السائدة، ويحاول مايكل بارنتي مؤلف الكتاب المزج بين مناح عديدة لفهم الموضوع، إذ يلفت الانتباه إلى المؤسسات السياسية التقليدية مثل: الكونغرس، والرئاسة الأمريكية، والبيرقراطية، والمحكمة العليا، والأحزاب السياسية، والانتخابات، والأجهزة التنفيذية، ويضع السمات الرسمية للحكومة الأمريكية ضمن إطار شامل يربط بينها وبين الحقائق المتعلقة بالقوى والمصالح الطبقية. ‏
كما يركز الكتاب على أسس السياسة الأمريكية ومسار تطورها التاريخي، لاسيما فيما يتعلق بالدستور، وتنامي دور الحكومة، والثقافة السياسية كما يتقصى الكتاب عهود الإصلاح الرئيسية مستهدفاً تطوير فهم نقدي للأبعاد الطبقية للمفاهيم السياسية الأمريكية، وللكفاح الذي تخوضه القوى الديمقراطية والصعوبات التي تقف في وجه الإصلاح. ‏
ويحاول بارنتي أن يتقصى وبأسلوب نقدي ليس من يحكم فحسب، بل يتقصى نتاج النظام فهو يوجه الانتباه إلى محتوى الممارسات الفعلية للحكومة، لذا يتجه في تقصيه على الاقتصاد السياسي للسياسة العامة، فأهمية الحكومة كما يراها لاتكمن في النهاية في تركيبتها الهيكلية غير الملموسة في حد ذاتها، بل فيما تفعله، وكيفية تأثير سياساتها على الناس داخل البلاد وخارجها. ‏
لذا نجد الكاتب قد أورد قدراً كبيراً من المعلومات حول السياسة العامة، لأنه يرى أن لاجدوى أن يتم الحديث عن العملية السياسية وكأنها أمر منفصل عن القضايا الفعلية ومحتوى هذه القضايا، وكأن هذه العملية منفصلة ومعزولة عن قضايا السلطة والمصالح. ‏
غير أن هذه المعلومات الوصفية إنما تقدم بهدف دفع القارىء إلى إجراء تحليل للواقع السياسي الأمريكي وتركيبته الكلية. ‏
يتخذ كتاب «ديمقراطية القلة» ماقد يطلق عليه البعض مسمى المنحى الهيكلي، إذ بدلاً من معاملة التطورات السياسية على أنها أمور حدثت بالمصادفة، أو أنها نتيجة لأفعال شخصيات معينة أو بسبب أحداث خصوصية معينة، فإن الكاتب يحاول أن يبين أن معظم ‏
ما يحدث هو نتاج ترتيب السلطة، والثروة، والطبقة، والمؤسسة كما تمت هيكلتها ضمن نطاق المنظمات السياسية المسيطرة، والاقتصاد والمجتمع نفسه. ‏
وفي إطار الرد على من يعتقدون أن التحليل الهيكلي يتطلب معالجة المؤامرات، وأن هذه المؤامرات هي مجرد أمور من نسج الخيال، يسعى الكاتب إلى اعتبار المؤامرات برامج سرية تم التخطيط لها عن وعي من قبل أناس يحتلون مراكز مرموقة، وبأنها جزء من ترسانة الحكم الهيكلي. فلا شك في أن أي تركيب هيكلي أو نظام لا يمكن أن يوجد دون سلطة بشرية، ولا بد للعناصر الحاكمة من أن تجاهد بوعي للإبقاء على أوضاع حكمها المهيمن، والعمل على تقدم وتنامي هذه الشروط. فالتشكيلات الاجتماعية الأكبر والقوى الأوسع لا تعمل وكأنها كيانات غامضة غير ملموسة، بل يوجهها أشخاص يسعون عامدين لتحقيق أهداف معينة مستخدمين أشكال أساليب السلطة كلها بما فيها الدعاية، والإقناع، والانتخابات، والخداع، والأكاذيب، والتخويف، والتحريض، والإكراه، والتنازلات. بل إنهم قد يلجؤون إلى السرية وإلى العنف المدبر وغير ذلك من الألاعيب الإجرامية. إن قضيتي «ووترجيت» و«إيران كونترا» هما مجرد مثالين ذاع صيتهما لهذا النوع من المؤامرات التي تنسج على أعلى المستويات بهدف خدمة مصالح هيكلية. وبدلاً من النظر إلى المؤامرة والتركيبات الهيكلية على أنهما مقصوران على جماعة معينة فقد يكون من الأجدر اعتبار المؤامرة إحدى الأدوات التي تلجأ إليها تلك التركيبات الهيكيلية. ‏
لا ينكر ما يكل برانتي كاتب «ديمقراطية القلة» أن بعض المؤامرات هي من نسج الخيال، ولكن يرى أن بعضها الآخر حقيقي، وأن هذا البعض إنما هو جزء من التركيبة الهيكلية السياسية القائمة وليس الاستثناء منها. ‏
يضم الكتاب ثمانية عشر فصلاً يتناول فيها الكاتب السياسة الحزبية، والثروة والفاقة في أمريكا،وثقافة الطبقة الغنية الحاكمة والمؤسسات الأيديولوجية، ودستور القلة، وصعود دولة الشركات الكبرى. كما يتوقف الكاتب عند الامبراطورية العسكرية والسيطرة الكونية أحد الهواجس الكبرى للولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى القمع السياسي وغياب الأمن القومي، ويعالج على صفحات الكتاب مسألة وسائل الإعلام الموجهة للكثرة وكيف أنها تحت سيطرة القلة، بالإضافة إلى ممارسات الكونغرس الدؤوبة لوضع السلطة بالجيب. كما يتوقف أمام تدخل المحكمة العليا في الشؤون السياسية، ووصاية الرئيس على النظام، كما يضم الكتاب قسماً عن اتفاقيات التجارة الحرة ومنظمة التجارة العالمية، والتهديد الذي توجهه كلتاهما للسيادة للديمقراطية. ‏
أخيراً يمكن القول أن كتاب ديمقراطية القلة إنما يضعنا أمام حقائق من شأنها أن تضيء الاستعار الذي تعيشه الإدارة الأمريكية تحت مسميات زائفة من مثل تصدير الديمقراطية، والتي لاتهدف في النهاية إلا لاستنزاف العالم لصالح قلة ترسم السياسة الأمريكية وفقاً لما يخدمها. ويمكن اعتبار كتاب ديمقراطية للقلة بمثابة كشاف حقيقي لمن أراد أن يخوض في هذا الغمار. ‏

رابط التحميل

https://www.mediafire.com/?vy4n177mdigappf