بعد السقوط جاءنا من جاءنا ...ونحن لا نقول عليهم هذا الكلام لأننا لم نر منهم الا ما يسيء للشعب والبلد ...فنحن لا زلنا نتذكر بكل حب وحنين لمن أحب شعبه وأخلص له .
لا يخفى عليكم ان العراق كان بلد غني بالطيور الوحشية ولا سيما في منطقة الأهوار التي جعلتها فتنة ومقصدا للأجانب الذين يستمتعون بصيدها. فيما تركز البط في منطقة الاهوار، انتشرت طيور الدراج في سائر الانحاء. اعتاد سكان بغداد على الخروج لصيدها في المناطق المجاورة.
من اشهر هذه المناطق في المنطقة الوسطى الحقول المحيطة بناحية العطيفية. كان مشكور ابو طبيخ مديرا لهذه الناحية في سنة 1934. في موسم الدراج. كان جالسا في بيته يشرب الشاي في يوم كثير المطر عندما دخل عليه الخادم وقال، «استاذ اكو واحد عصمانلي بالباب يريد يشوفك». كان الريفيون يقصدون بكلمة عصمانلي عثماني. ويعنون بها بالضبط افندي، الرجل المتعلم من الفئة الحاكمة. قال له المدير: «اسأله ماذا يريد». خرج الخادم ليسأل ذلك الطارق عن حاجته. ثم عاد الى سيده ليخبره بأنه يريد مساعدته. «سيارته غاطسة بالطين. كل هدومه وقندرته مطينة. شلون اجيبه؟ راح أروح اصرفه. فقال له مشكور ابو طبيخ، «لا ابني لا. يمكن هذا بعدين يرجع لبغداد يفضحنا. يمكن يطلع واحد من ابناء الذوات ويسوي لنا قيل وقال. روح جيبه. خلي يخش. طين مو طين».
خرج الخادم وجاء بذلك العصمانلي غارقا بالطين. ما ان رآه مدير الناحية حتى هب اليه ليرحب به ويعتذر منه. «سيدي ما كنا نعرف. ما ندري انت هنا حتى نقوم بالواجب. قوم أبو حسين. قوم روح جيب ماي وأغسل قندرة صاحب الجلالة».
لم يكن الطارق غير الملك غازي. كان قد خرج مع من خرجوا لصيد طيور الدراج. ركب سيارته المتواضعة وحمل بندقيته وخرج بدون حرس ولا مرافقين. كان النهار لسوء حظه ممطرا حول الآرض إلى بوتقة من الوحل. ما ان توغل بسيارته في الآرض المبتلة وقبل أن يصادف دراجا واحدا او يطلق طلقة واحدة، غرست سيارته بالطين. وكما يقولون، كان الله رحيما بالطيور في ذلك اليوم، وبجانب الدراج لا بجانب الملوك. حاول الملك، ولكنه كلما حاول ازدادت غرسا في الوحل، حتى يئس من اخراجها، ولم يبق له غير أن يلتمس المساعدة من مدير الناحية.
«يا اولاد، جيبوا ماي وفرشة نظفوا قندرة الملك». انطلق الخدم والحرس فنزعوا قندرته، ينظفونها من الطين ويغسلونها ويمسحونها، في حين انهمك آخرون في تنظيف بنطلونه وجواربه بقدر ما يتسع الحال. سمع اثناء ذلك عمال كراج اللطيفية بما حصل للسيارة الملكية، فخف الزلم واهل الحمولة لرفعها من حفرتها واعادتها الى الطريق العام «دير بالك يا ولد! هذي سيارة الملك غازي، لا توسخها»! جاؤوا بالماء، سطلا بعد سطل، والكل يعتزون ويبتهجون في ان اعطاهم الله هذه الفرصة ليتباركوا بغسل سيارة الملك الشاب.
شكر الملك ضيافة المدير مشكور ابو طبيخ، ومساعدة أهل الناحية. صافحهم واحدا واحدا وانطلق عائدا الى بيته، خائبا في صيده. التفت المدير الى الفراش، «ولك يا أبو حسين، شلون تقول واحد رجال عصمانلي؟ ما تعرف الملك»؟
«استاذ والله ما عرفته. ما يفرق بشي عن بقية الناس. حاله حالهم. جاي بطرق الثوب والبنطلون. لوما انت تقول جيبه خليه يخش، كان طردته».
هذا واحد ممن أحببناهم ...ومن يجلس على كرسي الحكم اليوم لايصلح أن يكون كرسيا من خشب يجلس عليه جلالته ..ولا يسعنا الا أن نقول له :-
أتذكر يوم كان ثوبك جلد شاة ...ونعليــك من جلد البعيــــر
فسبحان الذي أعطاك ملكا ...وعلمك الجلوس على السرير
خالص حبي وتقديري