نزار عبد الغفار السامرائي الدخول الى رواية سعد سعيد الاخيرة يبدأ من عتبة العنوان حيث تشكل الثلاث عشرة ليلة وليلة مقدار الزمن الذي يروي فيه يسار العراقي المغترب العائد الى بلده بعد عذابات سنين مثقلة بالذكريات ،حكايته لضابط مركز الشرطة الذي احتجز فيه بعد مشاجرة عابرة. فالعنوان يأخذنا الى اشهر الكتب الحكائية (الف ليلة وليلة) الذي اصبح مناصا للكثير من الاعمال السردية العربية منها وغير العربية . لذلك فأن تصورنا الاول ازاء عنوان الرواية اننا سنكون مع حكاية او مجموعة حكايات تتناغم مع العنوان .. وهكذا نجد المؤلف يسرد روايته على لسان بطلها الذي يتحدث في كل ليلة ،كما كانت تفعل شهرزاد ، لكن الراوي على العكس من حكايات شهرزاد يبقى الرواية مقصورة على حكاية واحدة تتعلق بشاب قادم من احدى المحافظات (لم يذكرها الراوي بالاسم) الى بغداد ليكمل دراسته في الجامعة المستنصرية ، ليسقط في دوامة اتجاهه اليساري وشغفه بالنساء والخمر ، دوامة تدور فيه دون ان تترك له مجالا ليفكر بالعودة الى ذاته التي تركها وراءه في مدينة صغيرة غادرها وكأنه يغادر براءته الاولى ليقع ضحية مجتمع قاس بطبقيته وماديته التي لا تترك له مجالا وهو الثوري الحالم الا الهرب من الوقوع بين ايدي سلطة لا ترحم . وكما هو شأنه في رواياته السابقة فأن سعد سعيد يفتتح روايته بخطاب مباشر على لسان بطل الرواية وشخصيتها الرئيسة موجه الى ضابط الشرطة في جلسات سمر مسائية وكأنه يتحدث الى القارئ بشكل مباشر بحكاية عن عاشق عراقي يجد نفسه مطاردا من السلطات الامنية في ثمانينيات القرن الماضي فيضطر للالتحاق بقوات الانصار في جبال كردستان قبل ان يهرب الى سوريا فإحدى الدول الاوربية .. واذا كان سعيد قد عودنا في رواياته الاربع السابقة على نمط الفنتازيا والخوض في عوالم من الخيال فأنه في روايته هذه يستخدم اسلوب الواقعية وكأنه يرسم سيرة شخص ما ،فالحكاية مرّ بها الكثير من العراقيين وأن كانت بأشكال مختلفة ، وكما اعتاد ايضا في رواياته السابقة فأنه ينطلق في روايته هذه من اللحظة الراهنة ليعود بنا الى زمن ماض ويتابع السرد بشكل خطي ، تقاطعه احيانا لحظات تنعطف بنا الى حادثة ما على لسان غير لسان الراوي ، ليعود ويستكمل خطية الزمن الحكائي بانسيابية ماهرة وصولا الى ما قبل النهاية حيث يموت الراوي ليستكمل ضابط الشرطة الحكاية معلنا انه هو ذات الشخص الذي عذب (يسار) ،ذات يوم ليدفعه الى خيانة رفاقه ، ومن ثم كان السبب الرئيس في هربه الى خارج البلد. وما يمكن تسجيله ان الرواية تشكلت من مجموعة لحظات وافكار عبثية ابتداء من لحظة رؤية يسار للفتاة زها في اروقة الكلية ، مرورا بتردده في مفاتحتها بحبه ، واقدامها هي على منحها نفسه ، لتصل قمة العبث في اللحظة التي غيرت مسار حياة يسار عندما قرر النزول من الجبل والعودة الى بغداد حتى يبحث عن زها ، في الوقت الذي كانت هي ميتة منذ يوم افتراقهما ، واللحظة العبثية هنا تكمن في ان ذلك القرار اوقعه بيد مخابرات النظام وبالتالي انحرف مسار حياته بعيدا ، وتستمر المواقف العبثية في اتهامه من قبل الامن السوري بكونه عميلا للنظام في الوقت الذي هو هارب منه . اضافة الى كونه يصبح غنيا متمكنا في بلاد الغربة بعد ان انحرف بمساره ليصبح شريكا لمهرب مخدرات ، في الوقت الذي كادت مواقفه الثورية أن تؤدي بحياته . وتستمر المواقف العبثية في المشاجرة التي يجد نفسه وسطها بعد ان أكتشف حقيقة موت زها في اليوم الذي فارقها وهي تحمل جنينهما في بطنها ،ما يؤدي الى احتجازه في مركز الشرطة وموته في اللحظة التي ينهي بها القاء حكايته على مسامع ضابط الشرطة.وهل هناك عبثية اكثر ومصادفة اغرب من ان نكتشف ان الضابط هو (ابودفرة) كما يلقب يسار ذلك الانسان السادي الذي يعذبه ويكاد ان يغتصبه يوم كان بيد امن النظام قبل ان يرضخ ويوافق على خيانة رفاقه ومن ثم يهرب الى المجهول بمساعدة شاب كردي جمعته الصدفة معه وقرر ان يرافقه في لحظة عبثية ايضا. كما ان الحدث الروائي مبني على مجموعة من المصادفات ابتدأت بلحظة مشاهدته لفتاة الجامعة (زها) للمرة لاولى والثانية بمحض الصدفة ، ولعل قمة المصادفات الغريبة ذلك الموقف الذي يجعله امام شاب عراقي مغترب هو الاخر يدخل صدفة الى احدى المتاجر التي يمتلكها يسار باحثا عن عمل ، لنكتشف بعد ذلك انه كان جارا لعائلة زها الامر الذي يدفع يسار للعودة الى بغداد باحثا عنها بعد سنوات طويلة… وفي النهاية لا يمكننا ان نميز ان كان يسار شاب ثوري كان يسعى وراء هدف ما ، ام انه مراهق استهوته الافكار اليسارية التي كان يؤمن بها خاله وغذتها في رأسه امه ، قبل ان يجد نفسه غارقا في بحر الهوى تتقاذفه امواجه يعيش لحظته الحاضرة دون تفكير بالقادم وبالتالي لا يستدل على طريقه حتى يجد نفسه امام لحظة الحقيقة بأنه قد امضى العمر يطارد خيط دخان كما هو شأن نزار قباني في قصيدة قارئة الفنجان. البناء الفني للرواية يرتكز على شخصية اساسية (حية) هي يسار الذي ينبني الخطاب الحكائي على لسانه هو منذ بداية الرواية ، في الوقت الذي يتدخل السارد في مقاطع من الرواية ليعود بنا الى لحظات ساقطة من ذاكرة (الراوي) لا يود التحدث عنها. اضافة الى تداخل في الحكي لشخصيات اخرى تظهر في حياة يسار لكنها سرعان ما تختفي دون ترك اثار على المقبل من الحكاية ، الا باستذكارات عابرة ، في الوقت الذي يبقى الخطاب يسير باتجاه واحد يعبر عن رؤية احادية للراوي بعيدا عن استخدام الخطاب الحجاجي او تداخل وجهات النظر للأشخاص الكثيرين الذين يظهرون في ثنايا الحكاية ، ليكون الخطاب محصورا بما يرويه يسار ،وما يسرده الراوي ، وهو ما امتازت به الكثير من الروايات العراقية السنوات الاخيرة . وفي الوقت الذي يمكننا ان نحكم على الفصل الاخير اي الليلة الثالث عشرة من الرواية والتي تأتي على لسان ضابط الشرطة بأنها خارج متن الرواية بالوقوف عند لحظة موت يسار ، نجدنا بمراجعة بسيطة […]

أكثر...