• طالب عبد العزيز
في بلاد النوروز talbabdalaziz.jpgعدت من طهران قبل أيام،لم أكمل الرحلة التي أردت لها أن تطول حتى نهاية الاحتفالات بأعياد النوروز،ذلك لأن التنقل وبمختلف الوسائط بين طهران والمدن الايرانية الأخرى بات من سابع المستحيلات بسبب حركة الناس بين الجبال في الشمال والسهول في الجنوب،وللأمانة وجدت شعبا مختلفا عما تصوره لنا الاطراف السياسية،بل أن ما أتى به الزعماء الشيعة العراقيين من الذين قضوا الشطر الأول من حياتهم هناك كان الاسوأ،بل أنهم لم ينقلوا لنا من بلاد فارس العظيمة،من حضارة المدن التاريخية الكبرى أصفهان وشيراز وتبريز وسواها، من بلاد كسرى انوشروان،بلاد العلماء والشعراء والفقهاء والزاهدين سوى ما علق بأحذيتهم.



محطات كثيرة توقف عندها القطار الصاعد من آبدان إلى طهران،لكني كنت أتوقف طويلا عند حركة المسافرين العجلين،الذين يهبطون خفافا هناك،ليذهبوا إلى دورات المياه ومن ثم ليذهبوا للصلاة،لم أر عصا سوداء كالتي رأيتها في الرياض بالسعودية،وهي تهزم الناس باتجاه المساجد ،ولم أسمع نداءً صاخبا معنِّفا،كالذي أسمعه في أسواقنا ساعة حلول كل صلاة،كان الناس يذهبون بلا ضجة،وبدونها يعودون حيث مقاعدهم،لم تكن الصورة مفردة بين مشاهداتي بل تكررت في مدن طهران وقم وبروجرد وآراك وغيرها من المدن التي مررت بها ،مشهد خالص للصلاة،صورة شخصية لمدينة مسلمة،لا يشكل الاسلام فيها عائقاً مدنيا،ولا حلقة مفقودة في سلم التحضر،إنما هو ممارسة اجتماعية،محض سلوك مجتمعي،غاية في التهذيب،حتى أن المسافر بالكاد يسمع أذان الفجر في مدينة كبيرة كطهران، لعِلمِ الجميع بأن النداء للصلاة نداء يأتي من عميق النفس لا من اعلى منارة في المدينة.



عبر طريق هي الأجمل هناك،وبين أناس هم غير الذين تركتهم في مدينتك، تخرج من طهران المزدحمة،وتتجه شمالاً،حيث تبرعمت تواً غصون التوت في الشوارع ،براعم لم تكد تتفلتُ من لحاء أشجارها لتصل إلى (دربند)،حيث يلوح الثلج أبيض في الأعلى،ولأن الطريق ضيقة هناك، فقد توقف السائق وسرنا راجلين،وسط منعرج جميل،ساحر وبهي من المحال والمطاعم والكازينوهات،صوت الماء وهو ينزل أبدياً من الشلال،الذي لا يُرى ،يضفي على الخارج والداخل هيبة المكان،لكن مرآى الحلوايات والمربيات بخاصة(الأحمر والوردي والرمّاني)المعمولة من التوت والأجاص والمشمش وكل ما تمسكه يدُ الطبيعة فينبت فاكهة يجعل منازل الضوء براقة عليه،هم يجعلون الضوء خالصاً على أواني الفضة والنحاس، هكذا لتبدو في غير أعصرها ،مع انها بالمتناول،رخيصة مبذولة لمن يشتري ويبيع.يقول لي صاحب إيراني،اسمه مسعود،كان عمِل في اليابان ست سنوات،اتخذته من هناك ليفهمني بقليل من لغة الانجليز ما يحدث لي : إن الحلوايات هذه غرام النساء،يصنعونها من أجلهن،وعليك أن تعلم أن نسبتهن في البلاد تفوق نسبة الرجال،وبهذه يكون مسعود قد قال لي : الحضارة أنثى،فتعال .



على واجهة المطعم حيث جلست أتناول وجبة المساء كانت هناك يافطة صغيرة كتبت بالفارسية وتتدلى من مكان مهمل في الريح،تقول ما معناه "إن الحجاب واجب على المرأة المسلمة"،وقبالة الطاولة حيث جلست مأخوذاً بسحر المكان، كانت هناك امرأة جميلة بعمر النوروز، الذي أبتدأ فارعاً مع حبيب لها يدخن الاركيلة،كان طوى ذراعه على خصرها،فأدخلها نائمة في حضنه،لم أكُ فظّاً،غليظ القلب لأرى كل ما صنع بها الولد العاشق،الذي لم يعرني انتباها ،لكني لم أك غافلاً أيضا عمّا صنعا، فقد كان صوت القبلة،قبلتهما ،يصلني مع بحّة الماء المنهمر من الأعلى،مع الأغنية التي تنبعث من مذياع المطعم،مع هبوط قرص الشمس والمطر الناعم الذي ظل يطرق سقف العريشة حيث أجلس ويجلس الآخرون. ظلت اليافطة يتيمة المعنى،فقد غاب الفقيه،غاب المشرّع، واختفت نداءات المُحرّم والرجس،لقد أسقط العاشقان الشيطانَ في بئر هيامهما،ومن قبلهما أسقطت السلطات الكبرى سلسلة الرجال الذين قالوا لا للعشق لا للحياة،لا للقبل.




أكثر...