عمران الكبيسي … ما يحدث في الأنبار لم يكن وليد شهر ولا سنة إنما حصيلة تراكمات مع الحكومات التي تلت الاحتلال على مدى عشر سنوات، نال الحيف والتهميش والاستهانة كل قطاعات المجتمع، الأنباريون معروفون بردود فعلهم المباشرة، ولهم وقفات مع كل الحكومات السابقة، وهم على رأس كل حركات التغيير التي مرت بالعراق، كنت صبيا في السادس الابتدائي أثناء العدوان الثلاثي على مصر العربية، وكان موقف الحكومة العراقية الملكية لا يرقى إلى مستوى الحدث فتظاهر الأنباريون احتجاجا على حكومة نوري السعيد، ودفعوا عشرات الشهداء، كنت أرى نعوشهم تشيع إلى الفلوجة وهيت وعنه وراوة، والعرب السنة هم من أنشأ تنظيم الضباط الأحرار وقاموا بثورة 14 تموز 1958 وأسقطوا الملكية وأبرز المساهمين بالثورة ابن الأنبار عبدالسلام عارف الذي سيطر على إذاعة بغداد وألقى منها البيان الأول للثورة معلنا قيام الجمهورية. والطيار عارف عبدالرزاق من كبيسة الذي حمى سماء بغداد صباح الثورة. وبعد تفرد عبدالكريم قاسم بالحكم سمح للشيوعيين بإقامة مؤتمرهم في الموصل عام 1959 وسير قطار السلام إلى هناك، فاحتج قائد الفرقة العسكرية ابن الأنبار العقيد عبدالوهاب الشوّاف بمؤازرة أهل الموصل، وأفشل المؤتمر واستشهد، وكانت للقوة الجوية في الحبانية بمحافظة الأنبار بقيادة عارف عبدالرزاق على رأس القوات التي أسهمت بإسقاط نظام قاسم 1963 وأصبح عبدالسلام عارف رئيسا للجمهورية، وكان لأهل الأنبار موقف من حكم البعثيين الذي دام تسعة أشهر، وعلى اثر خلاف بين القادة البعثيين الشباب انفرد عبدالسلام عارف بالسلطة وأقصى البعثيين، فقامت عشائر الفلوجة بمحاصرة مقر الحرس القومي وأبادت من فيه، وفي عام 1968 عاد البعثيون وسيطروا على الحكم ثانية، بفضل تعاون إبراهيم الداود قائد دروع القصر الجمهوري، وعبدالرزاق النايف مدير الاستخبارات مع البعثيين.. كلاهما من الأنبار، إضافة إلى فرقة الجيش في حامية الأنبار التي تحركت نحو بغداد وأمنت نجاح الثورة وإقصاء الرئيس عبدالرحمن عارف ثاني رئيس للجمهورية من الأنبار. ولم تكن بعض عشائر الأنبار راضية كل الرضا عن حكومة الرئيس صدام حسين للفترة 1979 – 2003 وكانت لها مواقف، خرجوا فيها تظاهرات وأضربت مدينة الرمادي يوم الجمعة 17 أيار 1995 انطلاقا من جامع الرفاعي احتجاجا على إعدام بعض أبنائها منهم العقيد الطيار محمد مظلوم، ولكن الرئيس صدام على دراية بطبيعة عشائر الأنبار وكيفية التعامل معها وحل إشكالياتها ومشاكلها مع الحكومة، ومن أين يؤكل الكتف، واحتفظ بمساحة من الود، فلم يحصل في عهده ما يكدر صفو العلاقة إلى حد القطيعة، وأهل الأنبار ككل العراقيين لا يقبلون الضيم وليس من السهل عليهم تمرير الإهانة والازدراء والتجاهل، فهم أهل نخوة وإباء وأصحاب كرامة لا تجرح. ولهم جرأة للمبادرة في الملمات والحسم في المواقف الصعبة. قبل الاحتلال كانت الأنبار بوابة العرب المتطوعين لنصرة العراقيين ضد العدوان الأميركي، استضافت المقاتلين المتطوعين أياما يوزعون على الأسر حتى يتم تنظيم التحاقهم بوحدات المتطوعين، وبعد الاحتلال طاردت القوات الأميركية وعملاؤها المتطوعين فعاد الكثير منهم إلى الأنبار لمعرفتهم بمن استقبلهم عند دخولهم، فاضطر نفر من الأنباريين إلى بيع حلي نسائهم الذهبية لتأمين عودة المتطوعين إلى مواطنهم، ولا ينكر أن بعض المتطوعين كان من القاعدة ووجدوا في الأنبار حاضنة لاتساع تنظيمهم، مستغلين الشعور المعادي للاحتلال. ولكن أهل المحافظة أدركوا خطر القاعدة وتطرفها فانتفضوا عامي 2008 و2009، وأخرجوا مقاتلي القاعدة من مدنهم بعد عجز الحكومة والأميركان معا، ولكنهم لم يجدوا من حكومة المالكي إلا الجحود والإنكار. لم تقتصر معاناة الأنباريين بعد الاحتلال على إهمال وتهميش الحكومة، وعوضا عن تكريم هذه المحافظة التي قاومت الاحتلال واستبسلت في منازلته وجها لوجه، وبالكر والفر ومرغت أنوف المعتدين بالوحل، وكبدت الغزاة نصف الخسائر في الأرواح والمعدات، التي فقدوها بمحافظات العراق الثماني عشرة، استعصت الأنبار وقاتلت حتى لم يصدق الغزاة كيف يخرجون منها سالمين، ولاحقوا الأميركان في المحافظات الأخرى، حتى أطلق على نقطة التقاء حدود الأنبار مع النجف بغداد صلاح الدين بمثلث الموت لكثرة سقوط ضحايا المحتلين. وعوضا من اعتراف حكومة المالكي لهم بالوطنية والشجاعة كافأتهم بإنكار الفضل والازدراء وهو ما ستتحدث عنه الحلقة القادمة بإذن الله.

أكثر...