من سينما الأسود والأبيض مازلنا نستقى أفضل إفيهات نضحك منها أو حكم نستعيدها بين وقت وآخر، وما أحوجنا الآن لبعض من الحكمة التى إافتقدها أهل القرية التى كان يعيش بها عماد حمدى الأرمل الذى يربى أبناءه وتساعده المطربة صباح التى يراها أهل القرية مجرد غازية ويراها الشرير محمود المليجى أنثى يريدها، فقرر أن ينتقم منها ومن الرجل الذى يأويها، بأن يقلب أبناء القرية عليهما، ويجتمعوا تحت بيته وهم ينادون فى صوت واحد «الغازية لازم تنزل الغازية لازم ترحل»، لكى تعود قريتهم نظيفة طاهرة كما يتصورون، وكأن وجود الغازية هو الذى يؤذيهم ويدنس طهارتهم وما كانوا بأطهار وما كانت قريتهم بأرض مقدسة.

وكأننا فى تلك الأيام بعد مرور أكثر من نصف قرن ونيف عن أحداث وشخوص هذا الفيلم، نعيش تلك الحالة فى مصر، وكأن لا شىء تغير ولا العالم صار مختلفاً، ولا السينما تلونت، ولم تعد أبيض أو أسود، فبعض المصريين يتقمصون الآن دور أهل القرية البسطاء، رغم أنهم ليسوا بسطاء وآخرون يتقمصون دور محمود المليجى الشرير، وهناك من تقوم بدور العانس القبيحة التى تريد عماد حمدى لنفسها، فتحاول طرد الغازية، أما الحكومة فهى تقوم بدور عماد حمدى الذى تجذبه أحيانا الغازية، وأحيانا أخرى يضعف أمام كبارات القرية وكبيرهم الشرير المليجى.

فمنذ أزمة فيلم حلاوة روح التى لم تنته بعد، راحت صفحات على الفيس بوك وحملات على تويتر تُطلق صفحات بعنوان اطردوا هيفاء وصافيناز من مصر، وحملات أخرى بعناوين أخرى بنفس المعنى، بل راحت شخصيات عامة بعضها من الوسط الفنى نفسه، يطالب الحكومة بنفس الطلب وأضيفت إلى هيفاء وصافيناز سما المصرى مؤخراً، وكأن وجود هيفاء وصافيناز وظهور سما المصرى، هو سبب كل الرذيلة فى مصر وسبب نواكبها، وكأن بغياب هذه الأسماء ستصفو لنا الحياة، وسيصير الفن أرقى والشوارع أكثر اتساعاً، والخضرة أكثر اكتساءً وسيعم الأمن والأمان وسيختفى التحرش وتزيد التقوى والورع، ويُنزل علينا الله سبحانه مائدة من السماء عامرة تطعمنا وتسقينا من كل جوع.

هيفاء يا سادة مجرد مؤدية سيئة لكلمات تتراقص بدلال على موسيقى، وصافيناز مجرد راقصة ترقص، وسما المصرى مجرد الإثنين معاً، أى بعبارة أخرى أن كلا منهن تعمل ما هو مُعلن فى وظيفتها، ومن حقك أن ترفض هذا الذى يقدمونه، فأنا شخصياً أرفضه، ولا يعجبنى وأنتقده بل أقاطعه، ولولا مهنتى أحياناً ما كنت عرفت ماذا يقدمون، ولكن أن تتصور أن اختفاء الثلاثة من الحياة كفيل بأن ينقى حياتنا، ويجعلها أفضل هو لامؤاخذة الهبل الكامل، لتذهب هيفاء فهناك ألف ألف هيفاء فى كل مناحى الحياة من فن وسياسة واقتصاد، ولتذهب صافيناز، فهناك ألف ألف صافيناز ستأتى لترقص لنا وعلينا، ولتذهب سما المصرى وتختفى، ففى حياتنا مليون سما مصرى آخر وأخرى، فلا تصرخوا مطالبين بأن الغازية لازم تنزل الغازية لازم ترحل، لأن مصر مليئة بالغوازى، بعضهم تعرفونهم بالاسم، وآخرون غير معلنين، وتعرفهم بعض الدوائر، الغناء والسينما لن تعود لعهدها الذهبى لو غابت هيفاء، والرقص لن يكون الأرقى لو اختفت صافيناز والكليبات الساخرة والتليفزيون المتجاوز، وقلة الأدب والمسخرة لن تختفى بوضع سما المصرى فى السجن، أو نزع الجنسية عنها، الجمهور هو الذى يؤازر بعض القبح، فهل يتصور عاقل واحد على وجه الأرض أن منع بعض القبح أو الإباحة كفيلة بنهايتهما؟!

وعجباً أن أجد بعضاً من أهل الفن ومن يطلقون عليهم وعلى أنفسهم مثقفين، يؤازرون المطالبة برحيل الغازية، أو إبعادها ولو كنت من بين المتجاوزين لسردت لكل منهم أعمالاً مشينة فى تاريخه الفنى، وليس الشخصى، ولكنى أكتفى بحكمة قالها السابقون.. إن كنت ناسى أفكرك.

ورُب قائل وماذا عن الفن والقيمة والجمال، هل نتركها نهباً؟ ولهذا الذى يخاف بالفعل وليس لغرض فى نفس يعقوب، أقول الحل ليس فى أن ترحل الغازية، الحل فى أن تقاطع الغازية وتصنع عملاً أفضل من أعمالها، وتساند الجيد منه، وتسوق له وتدافع عنه، الحل أن يعمل الإعلام بشكل احترافى، ومنظم ومسؤول لكى يروج للقيمة وليس الهيافة والقبح، ونظرة على البرامج الفنية فى المحطات المختلفة، تؤكد ما أقوله.. الحل ألا يعيش الشعب فى دور أهل القرية ويجرهم الشرير ليصرخوا الغازية لازم ترحل، أما الحكومة التى تؤدى دور عماد حمدى المُحاصرة بين الشرير والعانس، فأولى بها أن تكون أكثر قوة، لأن الغوازى كُثر فكيف بها تقدر عليهن جميعاً؟ ويبقى السؤال هل يعرف أحدكم من يقوم بدور المليجى والعانس، أنا أعرفهم ولكنى أترك لقارئى الفطن الحرية فى تصور من يكونون؟



أكثر...