محمد عياش الكبيسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وآله وصحبه ومن سار على هديه واتبع سنته إلى يوم الدين. أما بعد: فلولا أن الله حذرنا من كتمان العلم فقال: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) لأحجمت، لما في البيان من فتح باب لجدل غير منتج، حيث تشيع لغة سطحية تتناول الأشخاص لا الأفكار، وتناقش النوايا لا البراهين، وهذا قد جعل الكثيرين من أهل العلم يفضّلون الصمت درءا لهذه المفسدة. الانتخابات: عقد اجتماعي بين الناخبين ومنتخَبيهم، لأداء مهمة عامة، وهذا العقد يتضمن الشهادة والوكالة، ويتضمن أيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ يتعين اختيار الصالح لإبعاد الطالح، وهذه كلها واجبات وحقوق مركبة، ينتظمها عقد تجري أحكامه على الجميع؛ المشارك والمقاطع، وعليه يكون المشارك أبرأ للذمة حينما بذل جهده في اختيار الصالح واستبعاد الطالح بخلاف المقاطع الذي يفتح الباب للغش واستخدام بطاقته من قبل الظالمين والمجرمين، ثم هو خاضع بالنتيجة لهذا العقد بحكم الواقع أقرّ أو أبى. وقد قرأت لبعض من علمائنا ما يفيد حرمة المشاركة، مستندين لأدلة وجيهة من حيث المبدأ لكنها قد لا تكون مستوفية للشروط اللازمة لبناء الأحكام عليها، وسأتناولها باختصار شديد، متوسلا إليهم أن تتسع صدورهم لمناقشات علمية واسعة وشاملة بأية صورة يحبذونها زمانا ومكانا وآلية. أولا: (المشاركة فيها إقرار بشرعية الدستور والعملية السياسية)، وهنا ينبغي التذكير أن الإقرار نوعان؛ إقرار بالشرعية، وإقرار بالمشروعية، فالمسلمون اليوم في أغلب الأقطار يتعاملون مع دساتير وقوانين وضعية  لتولية الوظائف وتوثيق الحقوق والعقود واستخراج بطاقات الإثبات وجوازات السفر، وكل ما يتعلق بشؤون الحياة كالتعليم والتجارة والخدمات، دون نكير معتبر، فهو إذاً عمل مشروع، وإن كان القانون أو النظام ليس شرعيا، ومثل ذلك التعامل مع (نظام التأشيرات) بين الأقطار الإسلامية المقسمة وفقا لمعاهدة (سايكس بيكو) فهناك ما يشبه الإجماع على (مشروعية) استخراج التأشيرات مع ما فيها من إقرار ضمني بهذه المعاهدة، ولكنه ليس إقرارا بشرعيتها، وعليه فأنا معهم في رفضهم لإعطاء الشرعية لهذا الدستور وللعملية السياسية المنبثقة عنه، لكني أدعوهم لملاحظة هذا الفارق فقط، كما أدعو المشاركين لتوخي الدقة في هذا، فحكم الاستثناء مهما كان لا ينسخ حكم الأصل. ثانيا: (إن الواجب الشرعي هو العمل على تغيير الدستور والنظام القائم، وإن المشاركة تضعف روح الثورة وتمد في عمر الظلم والظالمين)، والحقيقة أن (إسقاط الدستور) والتعويل عليه لإحداث التغيير المنشود هو تفكير معكوس، فلو تتبعنا كل الثورات الناجحة لوجدنا أن مسألة (إعادة كتابة الدستور) تأتي بعد نجاح الثورة، أما قبل ذلك فالناس سيبقون خاضعين لهذا الدستور بحكم الواقع، ولأن الناس لا يستغنون عن النظام ولو كان ظالما وفاسدا إلا بنظام جديد، وإلا شاعت الفوضى وانعدمت الحياة، والثورة لا تستطيع أن تفرض على الناس نظاما وهي في مرحلة الكر والفر والمد والجزر، والسؤال هنا: كيف نوفّق -في هذه المرحلة- بين (مشروعية الثورة) و (مشروعية التعامل مع النظام)؟ لقد تعامل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قريش كسلطة قائمة في مكة، ليس لأنها سلطة شرعية، بل لكونها سلطة واقعية، وهذا واضح في الحديبية، لكن الإعداد لتغيير الواقع المكي كان موجودا أيضا، بل لقد كان الالتزام النبوي ببنود الحديبية سببا في تقريب الفتح وليس العكس، وهذه صورة من الحلول المركبة التي قل من يتنبه لها. ثالثا: (أن المشاركة تعني موالاة الظالمين والجلوس معهم ومعاونتهم على باطلهم)، وهذه مخاوف ومحاذير لا ننكرها، لكن هذه النظرة تفتقر إلى تكييف دقيق للعمل السياسي وفلسفة الحكم من الأصل، فالشعب المتنوع في عقائده وثقافته وتربيته يملك هذه الأرض ملكا تشاركيا، فهي أشبه بالدار التي ورثها إخوة مختلفون، فيهم الصالح وفيهم الطالح، وفيهم الراشد وفيهم القاصر..وهكذا، فكيف يتعامل الصالح مع شركائه الآخرين في إدارة هذا الإرث؟ إن حصر التفكير هنا في دائرة الولاء والبراء العقدي لا يستقيم دينيا ولا سياسيا، وقد رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف وضع الوثيقة المدنية لإدارة المدينة مع المكونات الأخرى وخاصة اليهود، وكان بالتأكيد يجلس معهم ويتعاون معهم لحل الإشكالات وإدارة الأزمات ونحوها. رابعا: (ما الذي حققته لنا المشاركات السابقة؟) وهذه حجة استنتاجية لتجارب واقعية لا يمكن إغفالها، بيد أن النتائج الواقعية إن كانت تصح منفردة في التقويم، فلنسأل إذاً: ماذا حققت المشاريع الأخرى؟ وهل يجوز لنا أن نحرّم خيار (السلاح) مثلا لأننا حملنا السلاح عشر سنوات وكانت النتيجة التمكين لإيران وأذنابها؟ والمقاطعة أيضا جرّبها أهل السنّة إبان العدوان الكبير على الفلوجة فماذا كانت النتيجة؟ ثم ما هو معيار النجاح والفشل؟ وما المطلوب من البرلماني بالضبط؟ أن يقف مثلا بوجه إيران ومليشياتها؟ ويحقق التوازن في مؤسسات الدولة؟ ويطلق سراح المعتقلين والمعتقلات؟  بأية قوة يحقق كل هذا؟ إن المالكي نفسه لا يحكم العراق من خلال منصبه، بل من خلال أجهزته العسكرية والأمنية ومليشياته المتغولة والدعم اللامحدود محليا وإقليميا وعالميا،وهذا يعني أننا حتى لو فزنا بمنصب رئيس الوزراء فإن هذا المنصب سيكون خاضعا لكل تلك القوى والمؤثرات، فكيف ببرلماني أعزل لا يملك إلا ثوبه وصوته؟ إننا هنا ينبغي أن نتحدث بأمانة وصراحة، أن غاية المشاركة الحالية إنما هي مشاركة في إدارة الواقع وفق قواعد هذا النظام نفسه، وبالإمكانيات المتاحة والتي يمكن تقويتها بالتعاون والمتابعة والمحاسبة، وكذلك رفع الصوت داخليا وخارجيا عبر القنوات الدستورية والقانونية لفضح الفساد والمظالم والمخالفات الحكومية لقواعد النظام وليس لقواعد الحق الذي نعتقد، فهذا خيارنا الممكن في هذه المرحلة. إن الذين يحرمون عليكم المشاركة إنما يحرمونكم من هذا الهامش المتاح لكم فقط، من غير أن يحرّموا عليكم الخضوع العملي في شؤون حياتكم لهذا النظام،  وتولي المناصب الأدنى في وزاراته ومؤسساته. إنهم يقولون: يجوز لك أن تكون أستاذا جامعيا أو طبيبا أو كاتبا أو محاسبا أو فراشا، لكن يحرم عليك أن تكون وزيرا للتعليم أو وزيرا للصحة! ويجوز لك أن تكون إماما وخطيبا تابعا للوقف السني، لكن يحرم عليك أن تكون مديرا لهذا الوقف! فما معنى هذا؟ وما مآلاته على الأرض؟ خامسا: هناك عبارات تضمنتها بعض الفتاوى والبيانات الرسمية لدعاة المقاطعة أتمنى أن يعاد النظر فيها […]

أكثر...