أرسل (م) إلى افتح قلبك يقول: أنا عمرى 42 سنة، خريج "ألسن"، ولكنى أعمل بالتجارة منذ تخرجى، أى من 20 سنة تقريبا، عملت فى البداية مع والدى الذى كان له عمل خاص محدود إلى حد كبير، ولكنى استطعت أن أكبر هذا المشروع بشكل لم يصدقه والدى نفسه، فى خلال 3 سنوات فقط، فكبر رأس المال، وزاد الدخل، وتوسع النشاط، بشكل كبير جدا والحمد لله، وأصبحت أنا المسئول عن العمل بعد أن كنت معاونا لأبى، خاصة بعد أن دخل فى وعكة صحية كبيرة، أصبح لا يستطيع متابعة العمل بشكل يومى بعدها، ثم كانت مشيئة الله أن توفى والدى بعدها ببضع سنوات، لأصبح أنا صاحب العمل والمسئول الأول والأخير عنه، ولأجد نفسى أدير تجارة يقارب رأس مالها المليون جنيه، من لا شىء تقريبا، وأنا فى الـ 28 من عمرى فقط.

والدى- رحمه الله- كان فخورا بى جدا، وشهد لى كل أصدقائه وعملائه فى السوق بأنى "هدية ربنا له"، حتى أنهم كانوا يلقبوننى بـ"قطعة الماس"، لأنى تمكنت من عمل نقلة كبيرة فى عملنا فى زمن قياسى جدا، كما أنى لم أتوقف بعد وفاة والدى، بل ازداد جهدى واجتهادى، فتمكنت من أخذ بعض التوكيلات "الصعبة" التى يسعى كثيرون ممن هم فى مجالنا، للحصول عليها منذ سنوات.. أحكى لك كل هذا يا دكتورة لتعرفى أنى كنت مثالا قويا للتاجر الذكى، الشاطر، المتطور دائما، ولسنوات طويلة، رغم صغر سنى، وبالرغم من أنى أعمل فى غير مجال دراستى.

كل هذا كان منذ 3 سنوات، فمنذ أن بدأت ثورتنا "المباركة" تلك، حتى بدأ كل شىء فى الرجوع إلى الخلف، وبشكل مخيف، بالطبع قاومت بشدة فى البداية، حاولت تمالك زمام الأمور حتى تمر الأزمة بأقل الخسائر، كنت أعتقد أنها سحابة عابرة وستختفى سريعا، لكن هذا لم يحدث بكل أسف، تخليت عن عدد كبير من عمالتى المدربة تخفيفا للنفقات، أوقفت خطوط إنتاج بأكملها لأن الطلب قل بشكل لا يمكن تعويضه، ثم تخليت عن مكان مصنعنا الذى أسسته بنفسى طوبة طوبة، وانتقلت لمكان آخر أصغر وأقل تكلفة، حتى وصل بى الأمر إلى أنى أصبحت أنفق من رأس مالى، وهذه كارثة فى شرع كل التجار ورجال الأعمال، وانتهى بى الأمر إلى أنى قررت إغلاق مصنعى والتوقف عن نشاطى تماما منذ شهر تقريبا.

أكاد أجن.. ماذا حدث؟، أنا كما أنا، أعمل بنفس النشاط والهمة كما كنت دائما، عملائى ما زالوا يشهدون لى ولمنتجاتى بالجودة الفائقة، عمالى ما زالوا يتمنون الرجوع للعمل معى، أنا لا أبالغ عندما أقول إنى فعلت كل شىء يمكن فعله فى الفترة الأخيرة حتى أحافظ على كيانى فى السوق، ولم أنجح، فى حين أن هناك من هم أقل كفاءة وخبرة وذكاء منى استطاعوا عبور الأزمة بنجاح.

أعرف أنه حال البلد، وأننا فى أزمة اقتصادية لم نمر بمثلها من فترة طويلة، وأعرف كل ما ستقولينه، لكنى، فعلا، لا أعرف لماذا نجح آخرون وأنا لا؟.. ألم أكن ناجحا طوال حياتى؟.. ألم أخلق كيانا من العدم من قبل؟.. ألم أكن قادرا على إدارة كل شىء حتى وأنا أصغر سنا وأقل خبرة من الآن؟.. هو إيه إلى حصل؟.. أحيانا يشطح بى تفكيرى إلى أن ما أعانيه نوع من أنواع الحسد أو السحر أو الأعمال، ولكنى شخص ملتزم طوال حياتى، أصلى وأصوم، وأخرج زكاة مالى وما يفوقها من الصدقات كل عام.. طيب إيه؟.. هل كنت فى حلم وأفقت منه؟.. هل انتهى زمن النجاح والإنجاز؟.. ألن أستطيع الوقوف على قدمى من جديد؟.. لا أعرف.

• وإليك أقول: لا لن أقول لك وضع الاقتصاد، ولا أزمات السياسة، ولا حال البلد، سأقول لك هذا "حال الإنسان"، نعم، كلنا هذا الرجل الذى عندما يعمل شيئا ويرزقه الله التوفيق والسداد فيه، ويبارك له، فيفتح له ويوسع عليه، ينسى المنعم والمدبر ومسبب الأسباب، ويرجع الفضل لنفسه، لذكائه، لاجتهاده، لعلاقاته، لشطارته وإمكانياته التى ليست لأحد غيره.

وهذا ليس وضعك وحدك، بل وضع آلاف وملايين من البشر، عندما يصبح لأيهم خبرة بشىء، ويلم بخيوطه، ويوقن تماما أنه أصبح يعرف "من أين تؤكل الكتف"، كما يقال، ينسى أن كل ما وصل إليه هذا ليس إلا توفيقا من الله، وفضلا منه، ولا يلتفت إلى أنه قادر على سحبه ومنعه فى أى لحظة، حتى مع وجود الأسباب الظاهرية التى نركن إليها نحن ونطمئن لوجودها.

أريدك أن تسأل نفسك بأمانة.. هل أصبحت تعتمد على الله وتتوكل عليه مؤخرا فى عملك، كما كنت تفعل قبل أن يفتح عليك ويكبر لك فى تجارتك؟.. هل كنت تلجأ إليه ليلهمك السداد فى خطواتك واختياراتك؟.. أم كنت تثق فى قدرتك وفى خبرتك وفى شطارتك فقط؟.

ولكى لا تعتقد أنى أتهمك أو أقلل من شأنك، أحب أن أطمئنك بأنى أنا نفسى مررت بنفس التجربة، مع اختلاف الموضوع والتفاصيل، فقد جاء على وقت اعتقدت فيه أنى "فتكة" فى موضوع ما، وأنى أصبحت أعرف عنه كل شىء، وأكثر من غيرى بكثير، حينها كانت كل الإمكانيات متوفرة لى، كما لم تتوفر من قبل لكى ينجح الأمر، ولكنه لم ينجح، فوجئت، وصدمت، وظللت أفكر مئات وآلاف المرات لماذا؟.. ما الذى كان يجب على فعله ولم أفعله؟.. وبعد لف ودوران انتبهت أخيرا إلى أنى ركنت إلى نفسى أكثر من اللازم، التفت إلى النعمة- وهى توفيق الله لى سابقا- عن المنعم، أغفلت أن رزقى لم يكن يأتينى من قبل لشطارتى ولا لكفاءتى ولا لتميزى على الآخرين، إطلاقا، كان يأتينى لأن الله كان يدبر لى أمورى فيرزقنى، وهذا ما يحدث بالضبط مع الآخرين، ومع كل الناس، لا تعتقد أن من وفق فى عبور الأزمة فعل أكثر منك، أو كان يعرف معارف أقوى من معارفك، أو أى احتمال آخر، أبدا، هذا كان رزقه، الذى دبره الله له، هكذا بمنتهى البساطة.

لا تفهم من كلامى أنى أقول ليس علينا الكد والاجتهاد والتعب، من أجل الوصول إلى ما نريد، فلا أحد عاقل يستطيع أن يقول مثل هذا الكلام، فنحن مطالبون بالسعى، وبالأخذ بالأسباب فى كل مكان، وبالحرص على ما ينفعنا مهما كان بعيدا أو صعبا، لكن كل ما أريد أن أقوله أننا عندما نفعل ذلك وفقط، دون أن نفهم أن هناك من هو أهم من الأسباب، مسبب الأسباب، الذى يجب أن نتعلق به أولا وأخيرا ودون أى شىء آخر، فبدونه لن يتم أى شىء مهما كانت الظروف مهيأة، حتى لو ساعدك خلق الله كلهم.

وعندما لا نفعل ذلك، ونعتقد أننا "عاجنين الدنيا وخابزينها كويس"، وأننا لم نعد بحاجة إلى معونته، نفيق على أن كل شىء يقف فجأة، ولم يعد شيئا مما اعتدنا عليه وعرفناه يجدى أى نفع، أتدرى لماذا يحدث ذلك؟.. تربية، نعم، الرب يربى عباده، وهذا هو أحد دروس التربية التى لا يمكن للإنسان أن يتعلمه إلا بمثل هذه التجربة القاسية.

قال الله تعالى فى الآية 188 من سورة الأعراف: ( قل لا أملك لنفسى نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء...)، من قائل هذا الكلام؟، إنه نبى مؤيد، ورسول مرسل، هل تعتقد أنه كان يفتقد إلى الحكمة أو إلى الاجتهاد أو الكفاءة أو أى من هذه المؤهلات؟.. لا يمكن، ولكنه ومع ذلك يؤكد أنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا بشطارته ولا باستحقاقه، إلا أن يدبر له الله ويشاء.

وفى الآية 28 من سورة النساء، يقول تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).. هل هناك إقرار أوضح من ذلك بأننا ضعفاء ولا حول لنا ولا قوة؟.. بل إن حتى جملة (لا حول ولا قوة إلا بالله) التى نكررها مرات بعد مرات دون أن نتعب أنفسنا فى التفكر فيها، يخبرنا فيها الله أنه لا قدرة ولا إمكانية ولا طاقة لنا لأى شىء إلا به، سواء كان هذا الشىء عمل، أو علم، أو علاقتنا بأهلنا، أو تربية أولادنا، أو أى شىء كبر أو صغر.

سيدى، أنا لا أقصد أن أعظك، ولكنى أنقل إليك تجربتى أنا، وما خرجت به منها، فقد تكون لست بحاجة إلى ذكاء أكثر، أو خبرة أكبر، أو إلى اجتهاد أعظم، أغلب الظن أنك تحتاج فقط إلى أن تتعلم الدرس، وأن ترجع الفضل لأهله، وأن تدرك أخيرا أنك حتى إن كنت قطعة من الماس كما قالوا لك، فإن هذا ليس إلا هبة ومنحة من الله، وها هو قد برهن لك أنه قادر على سلبك إياها فى أى وقت.

أظن أنك عندما تفكر بهذه الطريقة، لن يكون هناك مجال للتفكير فى حسد أو سحر أو ما شابه، لأنه حتى إن كان هذا حقيقيا، فلا يرفع الضر إلا الله، وأنت فى كل الأحوال بحاجة إلى الرجوع واللجوء إليه، وبقوة.

•للتواصل مع د. هبة وافتح قلبك..
h.yasien@youm7.com




أكثر...