(( هـــل ينـبغي إحراق إلف لـيـلـة ولـيـلـة؟ ))





حاتم الصكَر



هـــل ينـبغي إحراق إلف لـيـلـة ولـيـلـة؟ oq92wb1o58k8.jpg







(( الاستاذ حاتم محمد ... كان مدرس اللغة العربية في ثانوية 30 تموز في سبعينيات القرن الماضي
وكنت أحد تلامذته ))







مرة أخرى تتعرض طبعة من إلف ليلة وليلة- كتاب السرد العربي الخالد والكنز الحكائي الإنساني الأول- لمحاولة المنع والمصادرة وبحكم قضائي لتصوير أمر الحجر على ذل الإرث ألعجائبي النفيس وكأنه صادر عن المجتمع لا عن قراءة إفراد واستنتاجاتهم التي حدت بهم لوصف الليالي بأنها تشيع الفجور والفاحشة وتخدش الحياء العام، وتباكوا أيضا على أموال الشعب التي يعاد بها طبع الليالي.
وإذا كان لشهرزاد الساردة العربية الأكثر بلاغة بين الساردات تتألم فليس لأنها ملاحقة بسيف شهريار إذا ما صمتت هذه المرة، ولا خوفها عند تأجيل حكاياتها في نهايات الليالي عندما يدركها الصباح فتسكت عن الكلام المباح، بل هي تتألم لان ثمة من يريد تكميمها من جديد اي لتموت ببساطة عبر احتراق أوراق الليالي التي تحمل حكاياتها ومسرح خيالها العجيب الذي ينمو بحرية ويقيم عوالم السرد بلا حدود، فيتم تعويض المعدمين عن حرمان بما تكافئهم به الحكايات من بدائل: إذا كنت فقيراً فثمة كنز في البستان أو الطريق سيعوضك فقرك، وإذا كنت عاجزاً عن السفر واختراق الأفاق فثمة أجنحة تطير بها وبساط وألان عجيبة وسفن ومخلوقات تساعدك على مغادرة مكانك والطواف في مدن حقيقية أو متخيلة..
وهكذا يقترن ابن الفقير ببنت التاجر أو العكس، وينجو المحكومون في اللحظات الأخيرة كما يتخلصون من مصائرهم المحققة ويعود الممسوخون إلى هيئاتهم ويستردون طباعهم.
يبدو إن هذا الخيال الحر صار متهماً وبأثر رجعي فتعلو الأصوات المطالبة بإحراق إلف ليلة وليلة ومنع طبعتها الجديدة كما جرى في منتصف الثمانينيات، واحتشد وقتها المثقفون العرب في أوطانهم المختلفة لشجب القرار الذي رده القضاء أصلا ولم يتم تنفيذه، لكن مجرد اتهام اللالي بالمروق وازدراء الأديان هو دعوة للتخلي عن قطع عزيزة من مخيالنا السردي الشعبي وقصنا المرمز و مدياته الرحبة التي أبهرت قراء مختلفي القوميات والأديان والألسنة، وحازت في نفوسهم على مكانة لم تتزعزع رغم هذه الهبات الظالمة لإحراقها، وهذا التنازل عن ميراثنا المشرق والمشع يذكرني بالدعوات التي صدرت خلال حرب الخليج الأولى لمنع ومصادرة كتاب الأغاني وكليلة ودمنة بل لتغيير اسم شارع أبي نؤاس فلم يكتب لها التحقق، وذلك من عجائب أمور عقلنا العربي المناوئ لإبداعات إسلافه الذين لم يروا في تلك المدونات ما يخدش الحياء أو يهين المقدسات متفوقين على فكر بعض معاصرينا ممن (فوجئوا)- كما يقول بلاغهم ضد إلف ليلة وليلة- بما فيها من إشارات تخدش الحياء العام، مدللين على جهلهم بكتاب طبع عشرات الطبعات ومنذ قرابة قرنين، ومفاجأتهم لا تقل في وقعها عن مفاجأتنا بجهلهم إن إلف ليلة وليلة غير معروفة المؤلف بل هي نتاج العقل الجمعي وإضافات القراء: لذا كانت مطالبتهم القضائية بمعاقبة المؤلف تدعو للرثاء حقاً.
تقول مقدمة إلف ليلة وليلة أو إطارها السردي قبل بدء الحكايات إن شهرزاد قرأت إلف كتاب فتطوعت لتكون الضحية التالية لشهوة الموت لدى شهريار، كأنما لتواجه بكل كتاب ليلة موت مدبر لها: وتنجو لتعود إلى الحكي ثانية ولكن كم من الكتب كان عليها ان تقرأ لتواجه الموت الجديد الذي يريده لها القراء المتعصبون ضد كل بهجة يتيحها الخيال.. قراء المطابقة بين الملفوظ المتخيل والواقع الخارجي الذين يحرمون ويجرمون كما يشتهون؟
ولعل منجز طبعة كلكتا الثانية التي أعادت نشرها سلسلة الذخائر بمصر عام 1997 كان يتوقع ما سيجري لها في القراءات المتعسفة، فدعا في ختام أجزائها إلى النظر إليها (بناظر الإنصاف لا التمعن فيها بعين الاعتساف) فلماذا إذا تجري محاولات حرقها كل مرة، ويعاد تكميم شهرزاد لتكف عن الحكي؟ ألان حكيها المستعاد ينطبق على أحوالنا اليوم فيبرأ منه من يدعون أنهم القيمون على سنن المجتمع ونواميسه..