شبكة عراق الخير
صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 53

الموضوع: رمضانيات عام 2014

Share/Bookmark

العرض المتطور

المشاركة السابقة المشاركة السابقة   المشاركة التالية المشاركة التالية
  1. #1

    افتراضي رمضانيات عام 2014

    قبل ان أبدأ في درج القصص الرمضانية التي اخترتها لكم اود ان اعتذر عن تأخري الذي كان بسبب خارج عن ارادتي مما اضطرني الى هذا التاخير ... (( رمضان كريم عليكم وعلى شعبنا المناضل الذي يمر بمحنة كتبها الله عليه متمنيا ان تزول باقرب فرصة وبأحسن الاحوال )) متمنيا لكم صوما مباركا وتقبل الله سبحانه وتعالى اعمالكم ورحمكم وغفر لكم وكتب لكم العتق من النار مع تحياتي .........



    الاباء يأكلون الحصرم والابناء يضرسون

    البعض ينتظر شهر رمضان لأنه شهر التطهّر من الذنوب والتقرّب إلى الله تعالى بالعبادات وصالح الأعمال، بينما البعض الآخر يجده فرصة…للتجارة وكسب الأموال، والدليل أن العديد من النساء يستغللن هذا الشهر الكريم للتسول، فنراهن يذهبن إلى المؤسسات الخيرية المختلفة ويجُبن المناطق التي لا يعرفهن فيها أحد يدخلن محلاتها وشركاتها لاستدرار عطف أصحابها.. وعادة ما تكون الغلة وفيرة…
    و”أم عادل” واحدة من هؤلاء النسوة؛ فهي رغم وضعها المادي المتواضع الذي يكفل لها حياة كريمة، فهي ليست راضية لذلك سلكت طريق الاستعطاف والتسوّل الذي يضمن لها كسب المزيد من الأموال دون علم أولادها..
    وحتى عندما علمت ابنتها الكبرى بما تقوم به أمها لم تنفع نصائحها ولا محاولاتها ولا حتى دموعها الحارة لثنيها عن ممارسة هذه العادة القبيحة التي يرفضها الشرع الحنيف، واستمر الوضع على هذا الحال إلى أن وقع الأمر الذي لم يكن ليخطر على بال الأم، ففي إحدى جولاتها دخلت واحدة من الشركات المعروفة، وخلال حديثها مع أحد المسؤولين الذي رقّ قلبه لحالها وأعطاها ما أرضاها لاحظت أنّ هناك شخصاً يراقبها بعينين واسعتين تُطل منهما الدهشة، ولسانه قد انعقد من الصدمة، وعندما نظرت إليه جيداً عرفته فوراً… إنه خطيب ابنتها – الذي ينتمي إلى عائلة معروفة ومحترمة…
    لم تعرف ” أم عادل ” كيف وصلت إلى البيت وهي في حالة من الانهيار الشديد، وعندما أخبرت ابنتها بما حدث معها تمنّت أن تموت قبل أن ترى عينيها اللتين اغرورقتا بالدموع…
    وبعد هذه الحادثة تغيّر الصهر العزيز المعروف عنه حبّه الشديد لخطيبته، فبعد الاحترام الذي كان يكنّه لأمها بدأ يعاملها وأفراد أسرتها باستخفاف واحتقار إلى درجة أنه تراجع عن العديد من الوعود التي أعطاها لابنتها التي لم يكن لها ذنب ” إلا ما فعلته أمها “، وصدق المثل القائل: ” الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”.



    سائق السيارة
    مجّ سائق سيارة الأجرة سيجارته بقوة ونفث دخانها باتجاه المرأة الواقفة على ناصية الشارع المقابل ثم هتف بها قائلاً: إلى أين؟
    - أجابت المرأة بإستيحاء: شارع حمد لو سمحت؟.
    لم يكلّف نفسه عناء الإجابة واكتفى بالإشارة لها بيده بالصعود، لم يحرّك ساكناً من مقعده بينما المرأة تضع أكياس المشتريات الكثيرة في صندوق السيارة، وما إن أصبحت داخلها حتى ابتدرت السائق بتحية ممزوجة بسعال خفيف بينما يدها تحاول إبعاد الدخان المنبعث من السيجارة… نظرات استنكار لم تستطع إخفائها ولكنّ لسانها عجز عن إبداء النصيحة، فاكتفت بأضعف الإيمان: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم… المجاهرة بالمعصية وفي شهر رمضان الكريم!!… استغفر الله العظيم وأتوب إليه.
    دقائق قليلة واقتربت السيارة من المكان الذي تقصده المرأة؛ فصاح السائق: ها قد وصلنا.
    سألت المرأة السائق بصوت حييّ: هل تستطيع مساعدتي في نقل الأغراض إلى داخل المكان لو تكرّمت؟
    لم يجب ولكن علامات الامتعاض كانت بادية بوضوح على وجهه، نزل من السيارة صافقاُ بابها بقوة ثم وضع السيجارة بين شفتيه اللتين سارعتا للقبض عليها بشدّة، وبدأ بنقل الأغراض إلى داخل المكان الذي أشارت إليه… أطلق السائق لبصره العنان سامحاً له باختلاس النظر بحرية… عيناه أخذتا تُلاحقا الفتيات الصغيرات اللاتي يركضن في أرجاء المكان كالفراشات كما طارد سمعه أصوات جمهرة من الأخوات المحجّبات والمنقبات اللاتي يضعن لمساتهن الأخيرة على الزينة وتجهيز طعام الإفطار في المطبخ.
    أشكرك جزيل الشكر أخي
    التفت إليها وشعور بالخجل يوغزه بعد أن ضبطته يتلصلص.. حشريته دفعته للسؤال: من هؤلاء؟
    أجابت المرأة ونشوة من الفرح والاعتزاز تغمرها: هؤلاء مجموعة من الأيتام يكفلهم صندوق التكافل الإسلامي، والأغراض التي ساعدتني في نقلها هي من أجل الإفطار الذي نعدّه لهن.
    دهشة خفيفة أطلت من عينيه؛ فاستفسر قائلاً: وهل هنّ صائمات؟
    أكّدت المرأة: طبعاً الكثيرات منهن صائمات.
    ولكنهن صغيرات السن ومعظمهن لم يصلن بعد إلى سن التكليف؟!
    رفعت المرأة حاجبيها استغراباً واكتفت بتكرار المقطع الأخير من كلامه بهدوء: لم يصلن بعد إلى سن التكليف؟!
    فهم المغزى من التكرار؛ فهو وصل إلى سن التكليف منذ أمد طويل جداً ومع ذلك لم يصم في حياته إلا أياماً معدودات رغم أنّه ليس من أهل الأعذار.
    أفاق من شروده على صوت المرأة وهي تقول له: جزاك الله خيراً أخي
    حدّق بالمال الذي تمسكه بيدها لبرهة، ثم قال لها: لا أريد منكِ شيئاً… فقط دعوة صالحة….
    قاومت المرأة الأيدي الصغيرة التي أخذت تجرها إلى الداخل وبقيت واقفة ترْقب حركات الرجل وسكناته… شاهدته يرمي السيجارة أرضاً… ثمّ داسها بقوة… بعدها رفع بصره إلى السماء وتمتم بكلمات قليلة لم تصل إلى مسامعها ثم ركب سيارته وانطلق بعيداً…
    استسلمت المرأة أخيراً لنداءات الناشئات الصغيرات فدخلت بعد أن أغلقت الباب خلفها ولسانها لا ينفكّ يردد: اللهم ردّه إليك ردّاً جميلاً.


    التعديل الأخير تم بواسطة عامر العمار ; 07-10-2014 الساعة 10:20 PM

  2. #2

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    وانبلج الليل




    ((الساعة الآن الرابعة صباحاً، وعما قريب سيؤذّن الفجر… إلى متى ستبقى على هذه الحال يا أخي؟ إلى متى؟))
    لم يُجبْها بل اتجه صوب غرفته وهو يترنح تحت تأثير المسْكِرات والمخدرات التي أفرط في تناولها الليلة… تعبت أصابعه من البحث عن زر النور، فتوقف عن المحاولة وخاطب نفسه قائلاً: ((وما الجدوى؟ لقد أَلِفت العيش في الظلام… ))
    ارتمى على سريره دون أن يكلّف نفسه عناء خلع ثيابه، وشقّ عناء السماء نداء ((الله اكبر الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم))، وضع يديه على أذنيه حتى لا يخترقها صوت الأذان… وعندما توقف المؤذّن ألقى برأسه على الوسادة وجسده يتصبّب عرقاً… أخذ يبكي ويضحك حتى أجهده التعب فنام؛ أما شقيقته فما زالت عينها ساهرة تفيض بالدمع.. وأكفّها مرفوعة تتضرع إلى الله تعالى: ((اللهم اهدِ أخي… اللهم اهدِ أخي… اللهم اهدِ أخي)).
    ألقى عليها تحية الصباح… وأخذ يسترق النظر إليها متسائلاً: ((تُرى هل ردّت التحية؟))… جلس على الكرسي وأخذ يراقبها وهي تجهز الطعام… سكون مطبق يخيِّم على المكان فحاول كسر حدّته: ((لماذا لم تردّي التحية؟ ما بكِ اليوم؟)).
    نظرت إليه نظرة ملؤها الاشمئزاز وأجابت: ((الساعة الآن الخامسة عصراً .. بعد قليل سيحين موعد الإفطار)).
    أطرق نظره أرضاً وأردف قائلاً: ((كنت أريد أن أقترض منكِ بعض المال؟)).
    كان سؤاله الشعرة التي قصمت ظهر البعير فاندفعت الكلمات خارجة من فمها: ((ومن أين آتيك بالمال؟ بدل أن تقترض مني ابحث لك عن عمل لأني تعبت…. فأنا أعمل من الصباح إلى المساء كي أعيلك وأعيل إخوتنا وأعيل نفسي، وعندما آتي إلى المنزل تنتظرني الأعمال المنزلية… وأنت… لا ترحمني.. ولا تخفّف عني بل تطالبني بالمزيد من المال لتنفقه على ملذاتك.. على السُّكر والعربدة! يا ويلك من الله .. يا ويلك من الله حتى هذه الأيام القليلة المتبقية من هذا الشهر الفضيل لم تراعِ حرمتها… ))
    أصابه خوف شديد وهو ينظر إلى أوداجها المنتفخة… هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها أعصابها بهذا الشكل الهِستيريّ… الملاعق والصحون والسكاكين وكل ما تطاله يدها من أدوات المطبخ أخذت تندفع صوبه كالمدفع الرشّاش فأصابه بعضها بجرح بسيط في الجبين ممّا اضطره إلى مغادرة المنزل.
    أخذ يذرع الطريق ذهاباً وإياباً دون هدف… صادف مرور صديقه طارق بسيارته، فتح له باب السيارة داعياً إياه إلى الصعود وابتسامة عريضة تلوح على شفتيه: ((سنراك الأسبوع المقبل أليس كذلك؟ وسنرى معك الـ500 دولار؟ فالمفاجأة الشقراء سعرها مرتفع… ))!!
    ((المفاجأة الشقراء؟!! آه آه تذكّرت)) واستغرق وليد وصديقه في ضحك ماجن… ((طبعاً طبعاً سأحاول تأمين المبلغ بأسرع طريقة ممكنة)) وهمس لنفسه: ((ولكن من أين سأحصل عليه… ؟؟)) هذا السؤال ظلّ يلح عليه لأيام إلى أن زيّن له الشيطان سرقة الأموال التي كانت تحتفظ بها شقيقته لشراء ثياب عيد الفطر لها ولإخوتها… شعر أن مشاعره تحجّرت عندما رآها تبكي بلوعة المال الذي فقدته ((أين ضميرك؟)) قال له طارق وهو يعدّ المبلغ الذي أعطاه إياه وليد: ((رحمه الله؛ فضميري مات يوم وفاة أخي)).
    وكما اتفقا توجّه آخر يوم من رمضان إلى بيت صديقه ليحتفلا بعيد الفطر على طريقتهما الخاصة وما أن وصل إلى الباب حتى أخذ يحدّث نفسه: ((ليلة حمراء مع كأس وشقراء غانية وجرعة مخدرات ستنسيني كل شيء))…. صوت ضحكتها الفاقعة ووجهها المليء بالأصباغ أصابه بالغثيان ومع ذلك جذبها إليه قائلاً: ((أريد النسيان.. أريد النسيان.. ))
    فهمست: ((سأجعلك تنسى اسمك))
    ((الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ))
    جفلت حينما هبّ من سريره مذعوراً وأخذ يصرخ كمن أصابه مسّ: ((أغلقي النافذة… أغلقيها)) فسارعت لتلبية طلبه وهي تمتم: ((حسناً، حسناً سأفعل ما تريد، ولكن هدّىء من روعك)) أغلقت النافذة بسرعة وعيناها ممتلئتان رعباً عندما رأته بتلك الحالة المزرية… ((قلت لكِ أغلقيها.. أغلقيها هل أصابك الصمم؟…))
    أجابت بصوت مبحوح:((لقد أغلقتها))
    كان صوت الآذان يدخل بالقوة إلى مسام جسده يهزّها بعنف…((كاذبة… كاذبة)) انقضّ عليها كالوحش الكاسر يشبعها صفعاً ولكماً حتى انهمرت الدِّماء من أنفها؛ فوقعت على الأرض مغشيّاً عليها… فتح باب المنزل وليس عليه سوى بنطاله… وأخذ يجري لا يعرف إلى أين.. لم تعد قدماه تقويان على حمله فخرّ على الأرض… شعر أن قلبه سيتوقف عن الخفقان عندما وجد نفسه قِبالة المسجد الذي فارقه من زمن… أخذت الدموع تتقاطر من عينيه وهو يراقب النور الذي يحيط بالمكان بينما هو قابع وحيداً في الظلمة … سمع تكبيرات العيد … رأى جموع المصلين – الذي كان يوماً منهم – وهم يلجون… لمح إمام المسجد الذي كان يطارده من مكان إلى آخر ليعيده إلى جادة الصواب… مدّ إليه يده وأخذ يناديه بصوت مبحوح: ((شيخي.. شيخ… شي..))، وغاب عن الوعي…
    عندما استيقظ وجد نفسه في غرفة صغيرة تحوي متاع قليل، فعاودته النوبة من جديد؛ فأخذ يصرخ بصوت هستيري وهو يحكّ جسده بأظفاره … يستجدي جرعة من المخدرات…وعندما لم يردّ عليه أحد أخذ يطرق باب الغرفة بشراسة… لم يشعر إلا ويدان قويتان تحكمان إمساكه ويد أخرى تعطيه جرعة دواء…بعدها شعر بالتراخي وفقد الوعي من جديد… ظلّ على هذه الحال أسابيع تنتابه نوبات قوية نتيجة إدمانه على المسكرات والمخدرات، فلا يشرب إلا الدواء ولا يأكل إلا النذر اليسير من الطعام ولا يسمع إلا تلاوة عذبة لآيات من القرآن الكريم لم يميّز قارئها من شدّة الإعياء.
    وبدأ يسترد عافيته رويداً رويداً، وفي تلك الغرفة صور من الماضي بدأت تطفو على سطح ذاكرته… تذكّر يوم طلاق والديه الذين لم يكلفا نفسيهما عناء تحمّل مصاريف أولادهما … تذكّر يوم ترك المدرسة رغم تفوقه لاضطراره للعمل ليعيل إخوته… تذكّر أخته التي تكبره ببضع سنوات التي تفرّغت لأعمال البيت ولرعاية إخوتهم الصغار، تذكر بارقة الأمل التي كانت تلوح في حياته (سعاد) التي سرعان ما انطفأت؛ عندما رفض أهلها أن ترتبط به لأوضاعه الصعبة ولكونه رب أسرة… أكثر ما آلمه حينما تذكّر أنّ الأرض تضيق عليه بما رحبت ولكنها كانت تتسع كلما لاذ بالمسجد… يبوح لإمامه بهمومه ومشاكله… فيخرج من عنده وهو أشدّ صلابة وقوة.
    تلمّس الجرح الذي تركه الصحن على جبينه وابتسم: “كم قاسيتِ وكم صبرتِ وكم نصحتِ وكم ضحيتِ”، وبسرعة لاحت صورة شقيقته إلى ناظريه وتذكّر الحوار الذي دار بينهما منذ سنوات: ((أنظر أخي… سأتفق معك على أمر… ولكن أتمنى أن توافق))
    ((ما هو؟))
    ((لقد عُرِض عليّ عمل جيد وبمرتب مناسب يمكنه أن يزيد من دخلنا… هكذا نستطيع أن ندخر قسماً من المال ندفعه قسط لإحدى الشقق… هكذا ربما يوافق أهل سعاد))
    ((اصرفي النظر عن الموضوع… ))
    ((ولماذا؟))
    ((من سيتولى العناية بالصغار؟!))
    ((سناء ستبلغ الثالثة عشرة قريباً، يمكنها أن تخفف عني الكثير من الأعمال المنزلية)).
    تذكر عندما وقعت الكارثة التي لم تكن بالحسبان حينما طُرِد من عمله فلم يستطيع إكمال التقسيط وحتى تزيد الطين بِلّة اضطر لبيع الشقة أما ثمنها فدفعه كاملاً علاجاُ لأخيه الصغير الذي أصيب بمرض عضال لم يُمهله سوى شهور قليلة.
    تذكر كيف اسودت الدنيا في عينيه… فزهد في كل شيء حتى المسجد قلّ ارتياده له.. وانقطع نهائياً عندما صاحب بعض رفقاء السوء الذين عرّفوه على الخمرة والمخدرات والزنا… شعر بإعياء شديد من هذه الذكريات فأغلق عينيه عليها وغاب في سُباتٍ عميق.
    استفاق على يدٍ حانية توقظه، ظلّ لبرهة يحدق في الوجه المبتسم، وأخيراً عرفه ((… شيخ عبد الرحمن؟)).
    - ((انهض ولدي وتناول الغداء فجسدك بحاجة له الآن)).
    - ((نعم شيخي… جزاكم الله تعالى عني خير الجزاء)).
    أخذ يتأمل الغرفة التي مكث فيها الشهور الثلاثة الماضية التي كانت تقع بإحدى زوايا المسجد…. غرفة شهدت رحلة علاجه من المخدرات والمسْكرات ….كان الطبيب الوحيد الذي أشرف على علاجه الجسدي والروحي هو الشيخ عبد الرحمن إمام المسجد … المواعظ التي كان يلقيها عليه يومياً جعلته يبكي كالأطفال بين يديه، واخترق صوت الشيخ عبد الرحمن قلبه حينما دعاه قائلاً: ((اليوم الجمعة… اغتسل ولدي لأنك ستشهد الصلاة معنا اليوم))
    * * * * * * * * * * * * *
    بعد (ثمانية عشر) عاماً دخل الشيخ إلى الغرفة وهو يحمل بيده طعام الفطور، وما أنّ همّ بالخروج حتى أمسك الشاب بتلابيب ثوبه قائلاً: ((… شيخي لا تتركني أرجوك))
    ((لن أتركك يا ولدي.. بل الله تعالى لن يتركنا أبداً))
    أغلق الشيخ الباب بهدوء… نقل نظره بين هدايا عيد الفطر الكثيرة التي وضعها في الزاوية وبين ولديْه ثم خاطبهما قائلاً: ((بعد صلاة الفجر بإذن الله ستحملان كل هذه الأغراض لأولاد أعمامكما وعماتكما… وسألحقك بكما بإذن الله تعالى))
    ترقرق الدمع في عينيه وهو يرقب جموع المصلين التي أخذت تتوافد إلى المسجد لصلاة الفجر وهمست شفتاه: ((الفضل لله أولاً ثم لك على ما أصبحتُ عليه الآن… رحمك الله رحمك الله وأسكنك فسيح جنّاته)) وعاد الشيخ (ثمانية عشر) عاماً إلى الوراء… إلى يوم الجمعة الذي شهد ولادته من جديد على يد شيخه عبد الرحمن فمن يومها لم يفوِّت صلاة جمعة ولا جماعة، ولم يكتفِ وليد بذلك بل لم يغادر مجلس علم إلا وواظب عليه ولا كتاباً دينياً إلا وتصفّحه، وبتشجيعٍ من شيخه دخل إحدى الكليات الشرعية وتفوّق فيها ولم يقتصر الأمر على طلب العلم بل تعاون مع شيخه على استقطاب مَن يستطيع من أصدقائه القدامى واحداً تلو الآخر إلى المسجد لتبدأ رحلة علاج جسدية وروحية. وعندما توفي الشيخ عبد الرحمن تابع وليد المسيرة.
    تقدّم الإمام وليد – أبو عبد الرحمن- الصفوف الأمامية وصوته يسبقه: ((سوّوا صفوفكم فإنّ تسوية الصف من تمام الصلاة… الله أكبر)).
    تهللت الأسارير عندما دخل الإمام أبو عبد الرحمن منزل العائلة القريب من المسجد حيث اجتمع أفرادها صغيرهم وكبيرهم استعداداً للذهاب إلى صلاة العيد… قبلة عميقة طبعها على جبين أخته بينما تكبيرات العيد تصدح في كل المساجد:
    الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله وبحمده بُكرة وأصيلا…


  3. #3
    الصورة الرمزية الارشيف
    تاريخ التسجيل
    Jun 2010
    المشاركات
    8,426
    مقالات المدونة
    219
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014




  4. #4

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    أول ايام رمضان


    تصنّع حسام الابتسام عندما التفت إليه بائع الحلويات ليُسامره: “رمضان شهر الخير والبركة… ليت كل الشهور مثل رمضان”

    علّق حسام قائلاً مشيراً بيده إلى قنينة ماء كان يجرع منها البائع: ” ما دمت تعرف فضل هذا الشهر الكريم … لماذا لم تصم؟”

    تلعثم البائع وقال بإحراج: “عملي شاق ومتعب لا سيما في هذا اليوم الشديد حرّه… ليس عليّ حرج”

    وبدأ حوار هادىء بينهما قطعته إحدى النساء عندما تدخلت قائلة والضحكة تعلو وجهها: “أما أنا فمعذورة” والتقطت بيدها قطعة من الحلوى وتذوقتها.

    ضرب حسام كفاً بكف عندما دوت ضحكات الزبائن مجلجلة في الدكان، لم يتمالك نفسه فصاح بالمرأة قائلاً: ” إن كنتِ صاحبة عذر فاستتري على الأقل”

    حمل علبة الحلويات بعد أن دفع ثمنها وقلبه يحترق حزناً على حال المسلمين في هذا الشهر الكريم: ” لم يعد لهذا الشهر حرمة وتعظيم في نفوس الناس؛ فها نحن في اليوم الأوّل فقط من رمضان والناس تُجاهر بالفطر… ترى كيف سيكون الحال بعد أيام؟!… حقاً أصبحنا في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على جمرة”

    توقف حسام عند بائع العصير ليشتري جلاباً وسوساً؛ فعقدت الدهشة لسانه عندما رأى امرأة محجبة تشتري لها ولطفلها كوبين من العصير.

    وكالمجنون أخذ يحدّث نفسه: “لا لا يعقل إلى هذا الحد وصلت الوقاحة.. محجبة! وتشرب في الطرقات! وفي شهر رمضان بالذات؟! ليس هذا من خوارم المرؤة فقط بل من خوارم الدين”

    غذّ حسام السير باتجاه المرأة يريد أن يُعالجها بنصيحة شافية.. ولكنه عدل عن ذلك عندما رآها رمت الكوب أرضاً، وأخذت تجهش بالبكاء محاولة إخفاء وجهها عن أنظار المارة.. عبارة خرجت من بين أصابعها بصعوبة جعلته يتنفس الصعداء:“ما هذه الفضيحة.. لقد نسيت … لقد نسيت أنّ اليوم هو أول يوم من شهر رمضان”.



  5. #5

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    رشاقة قلم


    هناك العديد من القصص عن أصل الفانوس.
    أحد هذه القصص أن الخليفة الفاطمي كان يخرج إلى الشوارع ليلة الرؤية ليستطلع هلال شهر رمضان، وكان الأطفال يخرجون معه ليضيؤوا له الطريق.. كان كل طفل يحمل فانوسه ويقوم الأطفال معاً بغناء بعض الأغاني الجميلة تعبيراً عن سعادتهم باستقبال شهر رمضان.
    هناك قصة أخرى عن أحد الخلفاء الفاطميين أنه أراد أن يضئ شوارع القاهرة طوال ليالي شهر رمضان، فأمر كل شيوخ المساجد بتعليق فوانيس يتم إضاءتها عن طريق شموع توضع بداخلها.
    وتروى قصة ثالثة أنه خلال العصر الفاطمي، لم يكن يُسمح للنساء بترك بيوتهن إلا في شهر رمضان وكان يسبقهن غلام يحمل فانوساً لتنبيه الرجال بوجود سيدة في الطريق لكي يبتعدوا. بهذا الشكل كانت النساء تستمتعن بالخروج وفى نفس الوقت لا يراهن الرجال. وبعد أن أصبح للسيدات حرية الخروج في أي وق، ظل الناس متمسكين بتقليد الفانوس حيث يحمل الأطفال

  6. #6

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    مَكَّةَ.. فتوحات وفتحٌ لكل زمان

    هذا الفتح الرباني الرمضاني الذي حدث في 22 رمضان 8 هـ الموافق شهر يناير عام 630م، أشبه بنبع فيَّاض، نرتشف منه زلالاً، ودروسًا وعبرًا، متجددةً بتجدد الليل والنهار، مستمرة دائرة في دورة الفَلك؛ شأنها شأن السيرة النبوية كلها، كلما طوى الزمان صفحة من أيامه انبرت السيرة في حُلَّة جديدة، وفي ثوب قشيب، وانبرى لها باحثون وعلماء يستخرجون ما ضمته السيرة في أحشائها من جواهر ولألاء، ولكل زمان حظه منها.
    وبمناسبة هذا الشهر الفضيل إليك- أخي القارئ- هذه الدروس المستفادة من هذا الفتح الفضيل، وعسى أن تكرهوا شيئًا!.
    والسبب التاريخي لفتح مكة أن هدنة الحديبية فتحت الباب لكل قبيلة أن تدخل في عقد من شاءت من أطراف الهدنة، فارتضت خزاعة أن تدخل في عقد المسلمين؛ نظرًا للعلاقات القديمة بين خزاعة وبني هاشم، وارتضت بنو بكر أن تدخل في حلف قريش، وحدث على أثر ذلك أن اعتدت بنو بكر على خزاعة، فقُتل من خزاعة عشرون رجلاً على الأقل، ومما زاد الطينة بلة أن قريشًا أمدَّت بني بكر برجال وسلاح في هذه المذبحة الشنعاء، ونقضت بذلك معاهدة الحديبية نقضةً صلعاء، وشارك في ذلك الصناديد والوجهاء، وأرسلت خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبره الفعلة، وتسأله النصرة، وهو إمام الحق والعدل والمنعة، ما خاب من لائذ به، وهو لم يَخذل من سأل جواره، فسار إمام المجاهدين إلى المشركين، فكان هذا الفتح المبين، ليكون الدرس: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: من الآية 19).
    الانهزام النفسي للقيادة الوثنية.. أول الفتح
    وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لعشرٍ مضين من رمضان، وكان عددهم حين خروجهم من المدينة عشرة آلاف، ثم انضم إليهم في الطريق عدد من قبائل العرب، ودبَّ الرعب في نفس أبي سفيان قائد المشركين، فخرج مع العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قاصدًا رسول الله ليحصل منه على أمان، وفي (مر الظهران) عثر حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان مع العباس، فأراد عمر بن الخطاب أن يقتل أبا سفيان، فأجار العباس أبا سفيان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم أبو سفيان، وشاهد كتائب الجيش الإسلامي، كتيبةً تلو الأخرى، ففزع فزعًا شديدًا، وخرج من عند النبي إلى مكة؛ يدعوهم إلى الاستسلام، وأخذ ينفث فيهم أنهم لا طاقة لهم بقوة المسلمين، فقد جَمع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعًا عظيمًا، وجيشًا كبيرًا فهَزمَ أبو سفيان قومه، وانهزموا نفسيًّا، قبل أن يدخل المسلمون مكة، وهذا فتح من فتوحات مكة.
    العودة إلى مَعَاد
    وواصل الجيش الإسلامي زحفه، يجوب الفيافي والقفار من المدينة إلى مكة، تعلو الجيش هيبة وعزة، يبث الرعب في قلوب الأجلاف، وينشر النور والحضارة يمنةً ويسرةً.
    ودخل رسول الله، وصدَق الله وعده: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (القصص: 85).
    ودخلها الذي خرج منها طريدًا أسيفًا، ها هو اليوم يدخلها فاتحًا عزيزًا، ها هو اليوم يدخلها وهو راكب راحلته، عليه الخشوع والتواضع، قد تلفع واعتم برداء متواضع، وأحنى ظهره على راحلته تواضعًا لربه، وطأطأ رأسه فكانت لحيته الكريمة تمس راحلته أحيانًا تواضعَا لربه، ولم ينطق لسانه بكلمة فخر أو كبر بل كان ترداده القرآن، وأنشودة الفتح هي سورة الفتح.. كل ذلك تواضعًَا لله، ولم يدخلها دخول الجبارين، ولم يفعل فيها فعل الملوك المغرورين، ولو شاء لجعلها خرابًا يبابًا!.
    وهذا التواضع والخشوع هو متعة الفاتحين الربانيين، ولذة المجاهدين الصادقين.
    إعلان الأمان
    حتى إذا وصل الجيش الإسلامي مكة فأعلن منادي الرسول صلى الله عليه وسلم: "من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
    وانتشر الأمان في أصقاع مكة التي عاشت رزحًا من الزمان يُنكل فيها بالمؤمنين، وتُجلد فيها ظهور الموحدين، ولا يسكن فيها رُوع المستضعفين، جاء اليوم الذي أمِنَ فيها المسلمون، وذهب الرَّوع، وتبدد الخوف، وانقشع الظلم، فكان المسلم فيه هو السيد الموقَّر، والظالمون هم "المحظورين".
    فلما دب الأمان في أرض مكة دب على أثره الإسلامُ في نفوس الناس دبيب الصهباء في عروق العشاق، وطفق الناس يدخلون في دين الله أفواجًا.
    وهذا فتح من فتح الأمان لا يشمل أئمة الطغيان
    ولما أصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم العفو العام استثنى- كأي شرعة ونظام- مجرمي الحرب، ومن ارتكبوا جرائم في حق المسلمين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء المجرمين وأكد ذلك ولو تعلقوا بأستار الكعبة؛ لظلمهم التليد، وبغيهم الشديد.
    وحتى لا يطمع بعض الوجهاء ممن لهم سجل حافل في الظلم والفساد في حَيْفٍ لشرفهم وريشهم ومالهم، فلا يزالون بالقيادة الإسلامية حتى تصبح رءومةً لهم، عميلةً عندهم، ولكن كلا وحاشا، فما رَئمَتْ قيادتُنا الإسلامية لظالم وما ذلت لفاسد، والله أكبر ولله الحمد.
    وكان من هؤلاء المجرمين هبار بن الأسود، ذلك اللئيم الذي عرض لزينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهي مهاجرة فأسقطها من فوق راحلتها، وكانت حُبلى، فأُجهضت، وسال دم سقطها.
    فالأمان العام رحمة من رحمات سيد المرسلين، وقتل أمثال المجرمين ممن استثناهم من العفو رحمة للعالمين، وهذا فتح من فتح؛ أن يسقط الطغيان، ويأمن اللهفان.
    إسقاط الأصنام
    ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام، والناس شهود ينظرونه وكأنه على رءوسهم الطير، ذلك المسجد الذي كان تحت سلطان الوثنيين، ولقد منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم من عبادة ربه وممارسة دعوته فيه، ذلك المسجد الذي داس فيه عقبة بن أبي معيط على رأس رسول الله وهو ساجد، وحاول خنقه فيه وهو قائم، وجاء عقبة بأمعاء حيوان ميت فطرحه على ظهر رسول الله ورأسه وكتفه، فما زالوا يضحكون حتى تمايلوا في سكرتهم.
    الآن يدخل المسجد ظاهرًا وهم خائفون واجمون، قد ورمت أنوفهم أو خضعت قلوبهم، يطلبون العفو الصريح، أو الخُلق السَّجيح؛ يخشون أن تُبسلَ نُفُوسُهم بما صنعوا بالمسلمين أيام الاضطهاد.
    وهنا سقطت الأصنام السياسية؛ عقدية وفكرية وثقافية، فأسقط رسول الله نعرات الجاهلية وأصنام الجاهلية، أسقط الوثن الصنم، وأسقط المُعتقد الصنم، سقطت كل الأصنام على مناخرها، ولصقَ بالرَّغام معاطسها، وطهَّرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المقدسات الإسلامية، طهَّرها تطهيرًا، وهذا فتح من فتح، فنسأل الله أن يوفقنا لتطهير المسجد الأقصى، من ركس اليهود.. آمين.
    وكانت البيعة فتحًا
    واجتمع الناس حول الصفا ليبايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة، فبايع الرجال ثم بايع النساء، فبايَعهن على ألا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه، ولا يعصين رسول الله صلى الله عليه وسلم في معروف، وكانت البيعة فتحًا.
    الأذان فوق الكعبة.. نَبْأة الحق
    وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يعتليَ الكعبة، ويناديَ على الأمة بنداء الصلاة التالد الخالد، فدوى الأذان في سماء مكة، فقرع القلوب، وطربت به النفوس المكلومة كأنه رنة حداء، وكان بمثابة البث الإعلامي الإسلامي الممتد في كل الأنحاء، يدخل على الناس في بيوتها، والطيور في وُكُناتها، والوحوش في أوجراتها، والإبل في معاطنها، والشاء في مراتعها، وانسجم مع صوت الأذان كُل صوت، حتى خرير النهر، وحفيف الشجر، وزفيف الريح، وتغريد الطير، وثغاء الشاة، ونقيق الضفدِع.. الكل يشهد أن "محمدًا رسول الله".
    وهذا فتح من فتح، فقد أصبح للإسلام أبواق وحناجر، وإعلام ومنابر.
    اسمعي يا مكة!
    ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو عشرين يومًا، يُعَلِّمُ الناس الخير، وينشر رسله تهدم أصنامًا عبدها الناس قرونًا.
    ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا لأهل مكة يعلمهم الإسلام، وكلهم آذان مصغية، لا تحس منهم من أحد، لا تسمع ركزًا، ولا تسمع إلا همسًا، وهذا فتح من فتح، وهو الذي لما وقف إليهم من قَبلُ على جبل الصفا كذبوه وزبروه وشتموه، وقالوا: تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟!.
    إنه يقف إليهم الآن بعدما فتح الله له بكة، يحدثهم بنور الله الذي جاء به، يهدهد رواسي الجاهلية، ويقتلع أفاعي الوثنية، فيقول في خطبة له يوم الفتح: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا؛ فَالنَّاسُ رَجُلانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ قَالَ اللهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13) (الترمذي: 3193).
    ويعلَّمهم تعظيم الأراضي الإسلامية، وحرمة البقاع المقدسة، وحرمة فتحها إلى قيام الساعة بعد اليوم، فإنما أحلها الله له ساعة، فقال في خطبة أخرى في هذا اليوم العظيم: "إِنْ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، لا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ وَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ" (البخاري: 3957).
    وعن الدماء ومآثر الجاهلية، يقول: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَلا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَأ قَتِيلَ السَّوْطِ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الإِبِلِ؛ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا، أَلا إِنَّ كُلَّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، إِلا مَا كَانَ مِنْ سِدَانَةِ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، أََلا إِنِّي قَدْ أَمْضَيْتُهُمَا لأَهْلِهِمَا كَمَا كَانَا" (ابن ماجه: 2618، وقال الألباني: حسن).
    لكل زمان فتوحاته
    إن الله يبعث لهذه الأمة في كل زمان وفي كل مكان، من يفتح لها الفتوح، ويطبب لها الجروح، كما يبعث لها من يجدد لها دينها، ويُحيي لها شرعتها، وكلهم المعني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا" (أبو داود عن أبي هريرة: 3740، وحسنه الألباني).
    وأحق الناس بشرف التجديد هم من أقامهم الله لإحياء الجهاد في النفوس، ومحو الذل والعار، وتحرير الأرض والديار، وإحياء مجد الأمة، وبناء النفوس وإعلاء الهمة.
    وعسى الله أن يأتيَ بالفتح في هذه الحقبة، ويقيد لذلك من يبيد خضراء الظلمة، ويسود على أيدي المجددين الفاتحين الأمان مكان الغربة، والنور مكان الظُلمة.
    هذه الدعوة في كنف الله من أول يوم؛ فالفتح متجدد، والفتوحات قادمة، وقد كتب الله على نفسه ليغلبن ورسله، ويُظهرَ الدين الإسلامي على النِّحل كلها، ويستخلف في الأرض عباده المؤمنين، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين، عندها سيبلغ مُلك هذه الأمة وسلطان هذه الدعوة ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله على هذه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين.
    أيها الأسد.. لتلحقْ بقاطرة الفاتحين، وبحزب المجددين المجاهدين؛ فقد جاوزَ الماءُ الزُبى، فلا وقت للنوم، وبلغ الحزامُ الطُّبْييْن.. فالغوثَ، الغوث!، وبلغ السكين العظمَ.. فأقبل ولا تخف، الأُمة تغرق!، وانقطع السَّلى في البطن، فلا نامت أعين الجبناء.
    وقد تجاوز الأمر بنا قدره، فالعملَ العمل، والصبرَ الصبر، والثباتَ الثبات، فالجهادَ الجهاد؛ فهو المجد والسؤدد، والنصر الأمجد.
    وما- قط- بارت تجارة المجاهدين!

  7. #7
    الصورة الرمزية ثريا
    تاريخ التسجيل
    Jun 2010
    المشاركات
    5,839
    مقالات المدونة
    13
    معدل تقييم المستوى
    10

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014




  8. #8

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    " فارقتك لأنَّك لم تفارقهم "

    الصّاحب ساحب ، وتقول العامة " لا تصحب الردي فيرديك " ، إن أثر الرفيق على رفيقه والجليس على جليسه أثر ذائع بين سريع ، تماما كرائحة علقت بثيابك ، فلا يمكنك دفعها ولا إخفاؤها.
    وكم عرفنا من أناس نسبت إليهم أمور ما فعلوها ، واتهموا بأشياء ما ارتكبوها ، كل ذلك بسبب مجالستهم لمن عرف عنهم السوء .
    وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ يقول "مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ, وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ, وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً, وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ, وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً" .
    * ولعل مما يستشهد به في هذا الموضوع قصة حدثني بها والدي ، حدثت قبل نصف قرن بل يزيد في إحدى مناطق اليمن .وهي إن ّ رجلا وابنه وشخصا آخر تآمرواعلى أن يقطعوا الطريق على مندوب زكوات الدولة ، وكان يحمل أموالا مختلفة يجمعها من أصحابها ليوصلها إلى بيت المال .
    فتحين الثلاثة الفرصة المناسبة في مكان خال من الناس ، حيث تمكنوا ذلك الرجل ، فنهبوا ما كان معه من مال وعندها خافوا إن تركوه أن يفضح أمرهم ، فهموا بقتله.
    عند ذلك توسل إليهم الرجل أن يتركوه ويأخذا ما لديه من مال على ألا يذكر معرفته لهم ، فأبوا. وهنا حاول أحد الثلاثة ـ وهو الابن ـ أن يثنيَهما عن فكرة القتل ، حيث إنهم لم يتفقوا عليه ، وأخذ يذكرهم بفداحة هذه الجريمة وسوء العقاب الذي ينتظرهم إن هم فعلوا ذلك وكشف أمرهم .
    فما كان من أبيه إلا أن انتهره وهم بالفتك به ، ووسمه بالجبن ، ثم قام الاثنان بقتل الندوب المسكين .
    مرت الأيام دون أن يكشف أمر القتلة ، وظنوا أنهم نجوا بفعلتهم ، لكن أقدار الله كانت لهم بالمرصاد.
    لقد بدأت خيوط القضية تشير بأصابع الاتهام إليهم ، وسرعان ما فر أحدهم من وجه العدالة ، لكنه لم يفلح بذلك ، فجيء به وبالآخرين وهم يرسفون في القيود .
    مثل الثلاثة أمام المحكمة مقرين معترفين ، وحكم عليهم جميعا بالقصاص ضربا بالسيف حتى الموت .
    وجاءت ساعة التنفيذ ، تقدم الأول إلى ساحة الإعدام ، لكنه وقبل تنفيذ الحكم صاح بأعلى صوته قائلا :ـ
    ـ أيها الناس أما أنا وفلان فإننا نحن من قتل صاحب بيت المال ، وهذا هو جزاؤنا العادل حيث لم نشفق عليه ولا على أولاده الصغار الذين يتِّموا بسببنا .
    وأمَّا فلان ـ يقصد ثالثهم ابن القاتل الثاني ـ فأشهد لله أنه ما قتل ولا شارك في القتل وأنا أبرأ إلى الله من دمه .
    وهنا ضربت عنقه ، فخر صريعا في دمائه .
    ثم تقدم الأب ، تقدم وهو يرتجف خوفا ـ وهو الذي كاد من قبل أن يقتل ولده حين نهاه وحذره ـ تقدم ولم يثبت ، فضرب بالسيف ضربتان لم تبلغا منه مقتلا ، وهنا لكزه السياف بذبان سيفه ، و لوجع الطعنة امتدت عنقه ، فاختطفها السياف مثل البرق ، ليسقط معفر بالتراب .
    وحان الدور على الابن ، والذي حاول بدوره أن يفهم الجميع حقيقة ما حصل وحدث ، ولكن ولات حين مناص ، لم يكن كلامه إلا كلام رجل رأى السيف فأراد أن يتحيل لنفسه .
    تقدم ثم أرخى عنقه قليلا ً فتدحرج رأسه أمامه فارا من جسده ، وكأنه يقول لصاحبه :ـ
    " فارقتك لأنَّك لم تفارقهم " .

  9. #9

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    غزوة بدر أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
    سبب الغزوة:
    كانت عير لقريش أفلتت من النبي صلى الله عليه وسلم في ذهابها من مكة إلى الشام، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد اللَّه وسعيد بن زيد إلى الشمال ليقوما باكتشاف خبرها، فوصلا إلى الحوراء، ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير، فأسرعا إلى المدينة، وأخبرا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالخبر. كانت العير محمَّلة بثرواتٍ طائلة من أهل مكة، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً. إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو أنهم فقدوا هذه الثروة الطائلة، لذلك أعلن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسلمين قائلاً هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل اللَّه ينفلكموها. ولم يعزم على أحد بالخروج، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة، لأنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أنه سيصطدم بجيش مكة - بدل العير - هذا الاصطدام العنيف في بدر، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة، وهم يحسبون أن مضي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الوجه لن يعدو ما ألفوه في السرايا الماضية، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة.
    مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات:
    واستعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً 313، أو 314، 317 رجلاً 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين و 61 من الأوس و 170 من الخزرج. ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة، فلم يكن معهم إلا فرسان، فرس للزبير بن العوام، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي، وكان معهم سبعون بعيراً ليتعاقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلي ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون بعيراً واحداً.واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء رد أبا لبابة ابن عبد المنذر، واستعمله على المدينة. ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري، وكان هذا اللواء أبيض.
    وقسم جيشه إلى كتيبتين:
    1. كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها لعلي بن أبي طالب. 2. كتيبة الأنصار، وأعطى علمها لسعد بن معاذ. وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو - وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا - وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصع، وظلت القيادة العامة في يده صلى الله عليه وسلم كقائد أعلى للجيش.
    الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر:
    سار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الجيش غير المتأهب، فخرج من نقب المدينة، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها ترك طريق مكة بيسار، وانحرف ذات اليمين على النازية يريد بدراً فسلك في ناحية منها حتى جذع وادياً يقال له رحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم مر على المضيق ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء، وهناك بعث بسيْسَ بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير.
    النذير في مكة:
    وأما خبر العير فإن أبا سفيان - وهو المسؤول عنها - كان على غاية من الحيطة والحذر فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار، وكان يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان.ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة مستصرخاً لقريش بالنفير إلى غيرهم، ليمنعوه من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة، فصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره، وقد جدع أنفه، وحول رحله، وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش، اللطيمة، اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
    أهل مكة يتجهزون للغزو:
    فتحفز الناس سراعاً وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلاّ واللَّه ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين إما خارج، وإما باعث مكانه رجلاً، وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج منهم أحد.
    قوام الجيش المكي:
    وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مائة فرس وستمائة درع، وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل.
    مشكلة قبائل بني بكر:
    ولما أجمع هذا الجيش على المسير ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف فيكونوا بين نارين فكاد ذلك يثنيهم، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي سيد بني كنانة - فقال لهم أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه.
    جيش مكة يتحرك: وحينئذ خرجوا من ديارهم، كما قال اللَّه: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] وأقبلوا كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحدهم وحديدهم يحادون اللَّه ويحادون رسوله {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم: 25] وعلى حمية وغضب وحنق على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه لاجتراء هؤلاء على قوافلهم. تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في تجاه بدر، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان، ثم قديد، ثم الجحفة، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها إنكم إنما خرجتم لتحرروا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها اللَّه فارجعوا.
    العير تفلت:
    وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي، ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً، وضاعف حركاته الاستكشافية، ولما اقترب من بدر تقدم عيره حتى لقي مجدي بن عمرو وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحداً أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه واللَّه علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعاً، وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً، تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة.
    هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الانشقاق فيه:
    ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلاً واللَّه لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً. ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه، فرجع هو وبنو زهرة - وكان حليفاً لهم ورئيساً عليهم في هذا النفير - فلم يشهد بدراً زهري واحد، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس بن شريق، فلم يزل فيهم مطاعاً ومعظماً. وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل، وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع. فسار جيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة - وهو يقصد بدراً - فواصل سيره حتى نزل قريباً من بدر، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر.
    حراجة موقف الجيش الإسلامي:
    أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - وهو لا يزال في الطريق بوادي ذقران - خبر العير والنفير، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة، والجراءة والجسارة، فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسكرية، امتداداً لسلطانها السياسي، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً لها، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة. وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة، حتى ينقل المعركة إلى أسوراها، ويغزو المسلمين في عقر دارهم كلا فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم.
    المجلس الاستشاري:
    ونظراً إلى هذا التطور الخطير المفاجىء عقد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى، أشار فيه إلى الوضع الراهن، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه، وقادته. وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس، وخافوا اللقاء الدامي، وهم الذين قال اللَّه فيهم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال: 5-6] وأما قادة الجيش فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللَّه امض لما أراك اللَّه فنحن معك، واللَّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به. وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة أشيروا علي أيها الناس وإنما يريد الأنصار، وفطن ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ، فقال ... واللَّه لكأنك تريدنا يا رسول اللَّه؟ قال: أجل. قال: فقد آمنا بك، فصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول اللَّه لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إن لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، ولعل اللَّه يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة اللَّه. وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فأظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فواللَّه لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، وواللَّه لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا وأبشروا فإن اللَّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، واللَّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
    الجيش الإسلامي يواصل سيره:
    ثم ارتحل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ذفران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية، وترك الحنان بيمين - وهو كثيب عظيم كالجبل - ثم نزل قريباً من بدر. الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بعملية الاستكشاف: وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه، وبينما هما يتجولان حول معسكر مكة إذا هما بشيخ من العرب، فسأله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد وأصحابه - سأل عن الجيشين زيادة في التكتم - ولكن الشيخ قال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتنا أخبرناك، قال: أو ذاك بذلك؟ قال: نعم. قال الشيخ فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش المدينة - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا - للمكان الذي به جيش مكة. ولما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نحن من ماء، ثم انصرف عنه، وبقي الشيخ يتفوه، ما من ماء؟ أمن ماء العراق؟
    الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي:
    وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين؛ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة، فألقوا عليهما القبض وجاؤوا بهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصلاة، فاستخبرهما القوم، فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان - لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة - فضربوهما موجعاً حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما. ولما فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة قال لهم كالعاتب إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا واللَّه، إنهما لقريش. ثم خاطب الغلامين قائلاً أخبراني عن قريش، قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى، فقال لهما كم القوم؟ قالا كثير. قال: ما عدتهم؟ قالا لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا يوماً تسعا ويوماً عشرا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال لهما فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو البحتري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف في رجال سمياهم. فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
    نزول المطر:
    وأنزل اللَّه عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم به، وأذهب عنهم رجس الشيطان، ووطأ به الأرض، وصلب به الرمل، وثبت الأقدام، ومهد به المنزل، وربط به على قلوبهم.
    الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية:
    وتحرك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال: يا رسول اللَّه، أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكم اللَّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول اللَّه، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم - قريش - فننزله ونغوّر - أين نخرب - ما وراءه من القلب - ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقد أشرت بالرأي. فنهض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من القلب.
    مقر القيادة: وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبني المسلمون مقراً لقيادته استعداداً للطوارىء وتقديراً للهزيمة قبل النصر، حيث قال: يا نبي اللَّه ألا نبني لك عريشاً تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا اللَّه وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي اللَّه ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك اللَّه بهم يناصحونك ويجاهدون معك. فأثنى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال، ويشرف على ساحة المعركة. كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حول مقر قيادته.
    تعبئة الجيش وقضاء الليل:
    ثم عبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جيشه ومشى في موضع المعركة، وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء اللَّه ثم بات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع شجرة هنالك. وبات المسلمون ليلهم هادىء الأنفاس منير الآفاق، غمرت الثقة قلوبهم، وأخذوا من الراحة قسطهم، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11]. كانت هذه الليلة ليلة الجمعة، السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر.
    الجيش المكي في عرضة القتال ووقوع الانشقاق فيه: أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر. وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: دعوهم، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني من يوم بدر، فلما اطمأنت قريش بعثت عمير بن وهب الجمحي للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئاً، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئاً ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم واللَّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك. فروا رأيكم. وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل - المصمم على المعركة - تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتيبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش، وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي - المقتول في سرية نخلة - فقال عتبة قد فعلت أنت ضامن علي بذلك. إنما هو حليفي فعلى عقله ديته وما أصيب من ماله. ثم قال عتبة لحكيم بن حزام فأت ابن الحنظلية - أبا جهل، والحنظلية أمه - فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال: يا معشر قريش إنكم واللَّه ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، واللَّه لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون. وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل - وهو يهيء درعاً له - قال: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، فقال أبو جهل انتفخ واللَّه سحره حين رأى محمداً وأصحابه كلا واللَّه لا نرجع حتى يحكم اللَّه بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه - هو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديماً وهاجر - فتخوفكم عليه. ولما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ واللَّه سحره قال عتبة سيعلم من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي - أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد اللَّه بن جحش -فقال: هذا حليفك (أي عتبة) يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فأنشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر فكشف عن استه، وصرخ واعمراه، واعمراه، فحمى القوم وحقب أمرهم واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسدعلى الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش على الحكمة وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.
    الجيشان يتراآن: ولما طلع المشركون وتراآى الجمعان قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا. وعدل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف. فطعن في بطنه بالقدح وقال: استو يا سواد، فقال سواد يا رسول اللَّه أوجعتني فأقدني، فكشف عن بطنه، وقال: استقد، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال: ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول اللَّه قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخير. ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال: إذا أكثبوكم - يعني كثروكم - فارموهم واستبقوا نبلكم. ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش. أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم اقطعنا للرحم وآتنا بما لا نعرفه فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل اللَّه {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19].
    ساعة الصفر وأول وقود المعركة:
    وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي - وكان رجلاً شرساً سيء الخلق - خرج قائلاً أعاهد اللَّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه. فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن تبر يمينه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
    المبارزة: وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار، عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - وعبد اللَّه بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار. قالوا: أكفاء كرام. ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا، ثم نادى مناديهم يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فأخبروهم فقالوا: أنتم أكفاءٌ كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان، فأثخن كل واحد منهما صاحبه، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة، قد قطعت رجله، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة. وكان علي يقسم باللَّه أن هذه الآيات نزلت فيهم {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19].
    الهجوم العام:


    وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة، فاستشاطوا غضباً، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد. وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم واستغاثوه وأخلصوا له وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية، وهم مرابطون في مواقعهم، واقفون موقف الدفاع، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة، وهم يقولون أحد أحد.
    الرسول صلى الله عليه وسلم يناشد ربه:
    وأما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، حتى إذا حمي الوطيس، واستدارت رحى الحرب بشدة واحتدم القتال وبلغت المعركة قمتها قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً. وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فرده عليه الصديق وقال: حسبك يا رسول اللَّه، ألححت على ربك. وأوحى اللَّه إلى ملائكته {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] وأوحى إلى رسوله {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] أي أنهم ردف لكم، أو يردف بعضهم بعضاً أرسالاً، لا يأتون دفعة واحدة.
    الملائكة:
    وأغفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إغفاءة واحدة، ثم رفع رأسه فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع (أي الغبار) وفي رواية محمد بن إسحاق قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر اللَّه، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع. ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ثم أخذ حفنة من الحصباء، فاستقبل بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه، ورمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، في ذلك أنزل اللَّه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
    الهجوم المضاد:
    وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: شدوا، وحرضهم على القتال، قائلاً والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله اللَّه الجنة، وقال وهو يحضهم على القتال قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، (وحينئذ) قال عمير بن الحمام بخ. بخ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قولك بخ. بخ؟ قال: لا، واللَّه يا رسول اللَّه إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل. وكذلك سأله عوف بن الحارث - ابن عفراء فقال: يا رسول اللَّه ما يضحك الرب من عبده قال: غمسه يده في العدو حاسراً. فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل. وحين أصدر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت، وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم - وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه - قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف ويقطعون الأعناق، وزادهم نشاطاً وحدة أن رأوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع ويقول في جزم وصراحة {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} فقاتل المسلمون أشد القتال، ونصرتهم الملائكة، ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها، وقال ابن عباس بينما رجل من المسلمين يشتد في إثررجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك أمامه، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة. وقال أبو داود المازني إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قد قتله غيري، وجاء رجل من الأنصار بالعباس بن عبد المطلب أسيراً فقال العباس إن هذا واللَّه ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق، وما أراه في القوم، فقال الأنصاري أنا أسرته يا رسول اللَّه، فقال: اسكت فقد أيدك اللَّه بملك كريم.
    إبليس ينسحب عن ميدان القتال:
    ولما رأى إبليس - وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي كما ذكرنا، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت - فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه، وتشبث به الحارث بن هشام - وهو يظنه سراقة - فوكز في صدر الحارث فألقاه، ثم خرج هارباً، وقال له المشركون إلى أين يا سراقة؟ ألم تكن قلت إنك جار لنا، لا تفارقنا؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف اللَّه واللَّه شديد العقاب، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر.
    الهزيمة الساحقة:
    وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون حتى تمت عليهم الهزيمة.
    صمود أبي جهل:
    أما الطاغية الأكبر أبو جهل، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل، فجعل يشجع جيشه، ويقول لهم في شراسة ومكابرة لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد، فإنهم قد عجلوا، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذاً حتى نعرفهم بسوء صنيعهم. ولكن سرعان ما تبدى له حقيقة هذه الغطرسة، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين. نعم بقي حوله عصابة من المشركين ضربت حولهسياجاً من السيوف وغابات من الرماح، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج وأقلعت هذه الغابات، وحينئذ ظهر هذا الطاغية، ورآه المسلمون يجول على فرسه، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين.
    مصرع أبي جهل:
    قال عبد الرحمن بن عوف إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنعبه؟ قال: أخبرت أنه يسب رل اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قال: والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك. قال: وغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما أنا قتلته، هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا لا فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء. وقال ابن إسحاق قال معاذ بن عمرو بن الجموح سمعت القوم، وأبو جهل في مثل الحرجة - والحرجة الشجر الملتف، أو شجرة من الأشجار لا يوصل إليها، شبه رماح المشركين وسيوفهم التي كانت حول أبي جهل لحفظه بهذه الشجرة - وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه، قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه، فضربته ضربة أطنت قدمه - أطارتها - بنصف ساقه، فواللَّه ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها ثم مر بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل. ولما انتهت المعركة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ينظر ما صنع أبو جهل؟ فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: هل أخزاك اللَّه يا عدو اللَّه؟ قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتلتموه؟ أو هل فوق رجل قتلتموه؟ وقال: فلو غير أكار قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال: للَّه ورسوله، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رجله على عنقه - لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رويعي الغنم، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه، هذا رأس عدو اللَّه أبي جهل، فقال: اللَّه الذي لا إله إلا هو؟ فرددها ثلاثاً، ثم قال: اللَّه أكبر، الحمد للَّه الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه، فانطلقنا فأريته إياه، فقال: هذا فرعون هذه الأمة.
    من روائع الإيمان في هذه المعركة:
    لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث - ابن عفراء - وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادىء ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره، فشفى منه غيظه. 1. روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البحتري ابن هشام فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهاً، فقال أبو حذيفة بن عتبة انقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، واللَّه لئن لقيته لألحمنه أو لألجمنه - بالسيف، فبلغت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال عمر يا رسول اللَّه، دعني فلأضرب عنقه بالسيف، فواللَّه لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً. 2. وكان النهي عن قتل أبي البحتري، لأَنه كان أكف القوم عن رسول اللَّه صلى اللَّه وهو بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغ عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب. ولكن أبا البحتري قتل علي رغم هذا كله، وذلك أن المجذر بن زياد البلوي لقيه في المعركة، ومعه زميل له، يقاتلان سوياً، فقال المجذر يا أبا البحتري إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك، فقال: وزميلي؟ فقال المجذر لا واللَّه ما نحن بتاركي زميلك، فقال: واللَّه إذن لأموتن أنا وهو جميعاً، ثم اقتتلا، فاضطر المجذر إلى قتله. 3. كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن، وهو واقف مع ابنه علي بن أمية، آخذاً بيده، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها، وهو يحملها، فلما رآه قال: هل لك في؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ - يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن - فطرح عبد الرحمن الأدراع، وأخذهما يمشي بهما، قال عبد الرحمن قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره؟ قلت ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل. قال عبد الرحمن فواللَّه إني لأقودهما إذ رآه بلال معي، وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة، فقال بلال رأس الكفر أمية بن الخلف، لا نجوت إن نجا قلت أي بلال، أَسيري قال: لا نجوت إن نجا. قلت أتسمع يا ابن السوداء. قال: نجوت إن نجا، ثم صرخ بأعلى صوته. يا أنصار اللَّه، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، قال: فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة، وأنا أذب عنه، قال: فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت انج بنفسك، ولا نجاء بك، فواللَّه ما أغني عنك شيئاً. قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول يرحم اللَّه بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري. وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية ابرك، فبرك، فألقى نفسه عليه، فضربوه بالسيف من تحته حتى قتلوه، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف. 4. وقتل عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة. 1. ونادى أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه ابنه عبد الرحمن - وهو يومئذ مع المشركين - فقال: أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن: فلم يبق غير شكة ويعبوب وصارم يقتل ضلال الشيب 6. ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحاً سيفه، رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له واللَّه لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟ قال: أجل واللَّه يا رسول اللَّه. كانت أول وقعة أوقعها اللَّه بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال. 7. وانقطع يومئذ سيف عكاشة بن محصن الأسدي، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفاً في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح اللَّه تعالى للمسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده. 8. وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين، مر به وأحد الأنصار يشد يده، فقال مصعب للأنصاري: شد يديك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب أهذه وصايتك بي؟ فقال مصعب إنه - أي الأنصاري - أخي دونك. 9. ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القليب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال: يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ فقال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه. ما شككت في أبي ولا مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك. فدعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيراً.
    قتلى الفريقين:
    انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة إلى المشركين، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة، قتل منهم سبعون وأسر سبعون. وعامتهم القادة والزعماء والصناديد. ولما انقضت الحرب أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى فقال: بئس العشيرة كنتم لنبيكم. كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر. وعن أبي طلحة أن نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث. وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى، وأتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركى، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم اللَّه ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقال عمر يا رسول اللَّه ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، وفي رواية ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون.
    مكة تتلقى نبأ الهزيمة:
    فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً. قال ابن إسحاق وكان أول من قدم بمصاب قريش الحيسمان بن عبد اللَّه الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف في رجال من الزعماء سماهم، فلماأخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر واللَّه إن يعقل هذا. فاسألوه عني قالوا: ما فعل صفوان بن أمية قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد واللَّه رأيت أباه وأخاه حين قتلا. وقال أبو رافع - مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - كنت غلاماً للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته اللَّه وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزاً، وكنت رجلاً ضعيفاً أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فواللَّه إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب هلم إلي، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاؤوا، ويأسروننا كيف شاؤوا. وايم اللَّه مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، واللَّه ما تليق شيئاً، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت تلك واللَّه الملائكة. قال: فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلاً ضعيفاً، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فعلت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً، فواللَّه ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه اللَّه بالعدسة فقتلته وهي قرحة تتشاءم بها العرب، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له، ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه. هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثراً سيئاً جداً حتى منعوا النياحة على القتلى، لئلا يشمت بهم المسلمون. ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلاً صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال: انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة - ابنه - فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال: أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكى وبكيت على عقيل وبكى حارثاً أسد الأسود وبكيهم، ولا تسمى جميعاً وما لأبي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا المدينة تتلقى أنباء النصر: ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشيرين إلى أهل المدينة، ليعجل لهم البشرى، أرسل عبد اللَّه بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية، وأرسل زيد بن حارثة بشيراً إلى أهل السافلة. وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما رأى أحد المنافقين زيد بن حارثة راكباً القصواء - ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - قال: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاّ. فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلمين، فعمت البهجة والسرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيراً، وتقدم رؤوس المسلمين - الذين كانوا بالمدينة - إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - بهذا الفتح المبين. قال أسامة بن زيد أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان.
    الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة:
    أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأن يرد الجميع ما بأيديهم، ففعلوا، ثم نزل الوحي بحل هذه المشكلة. عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدراً فالتقى الناس، فهزم اللَّه العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها، وليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم أحق بها منا، نحن نحينا منها العدو وهزمناه، وقال الذين أحدقوا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فأنزل اللَّه {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] فقسمها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين المسلمين. وبعد أن أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين وجعل عليه عبد اللَّه بن كعب فلما خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس. وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث - وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيداً للإسلام، وإيذاء لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - فضرب عنقه علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. ولما وصل إلى عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي كان ألقى سلا جزور على رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه، وكاد يقتله لولا أن يعترض أبو بكر رضي اللَّه عنه، فلما أمر بقتله قال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار. قتله عاصم بن ثابت الأنصاري، ويقال: علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه. وكان قتل هذين الطاغيتين واجباً من حيث وجهة الحرب، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمي الحرب بالاصطلاح الحديث.
    وفود التهنئة:
    ولما وصل إلى الروحاء لقيه رؤوس المسلمين - الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين - يهنئونه بالفتح. وحينئذ قال لهم سلمة ابن سلامة ما الذي تهنئوننا به؟ فواللَّه إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن، فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: يا ابن أخي أولئك الملأ. وقال أسيد بن حضير يا رسول اللَّه، الحمد للَّه الذي أظفرك، وأقر عينك واللَّه يا رسول اللَّه ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكن ظننت أنها عير، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صدقت. ثم دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة مظفراً منصوراً قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد اللَّه بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهراً. وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم، فقسمهم على أصحابه، وأوصى بهم خيراً. فكان الصحابة يأكلون التمر، ويقدمون لأسرائهم الخبز عملاً بوصية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
    قضية الأسرى:
    ولما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر يا رسول اللَّه هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم اللَّه، فيكونوا لنا عضداً. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت واللَّه ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم اللَّه أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، هما يبكيان، فقلت يا رسول اللَّه أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة. وأنزل اللَّه تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67-68]. والكتاب الذي سبق من اللَّه هو قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسرى ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، ثم إنهم قبلوا الفداء من أولئك المجرمين الذين لم يكونوا أسرى حرب فقط، بل كانوا من أكابر مجرمي الحرب الذين لا يتركهم قانون الحرب الحديث إلا ويحاكمهم، ولا يكون الحكم في الغالب إلا بالإعدام أو بالحبس حتى الموت. واستقر الأمر على رأي الصديق فأخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء. ومنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على عدة من الأسرى، فأطلقهم بغير فداء، منهم المطلب بن حنطب، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجمحي، وهو الذي قتله أسراً في أحد، وسيأتي. ومن على ختنه أبي العاص بشرط أن يخلي سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال، بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلته بها على أبي العاص، فلما رآها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيل زينب، فخلاها، فهاجرت، وبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها، فخرجا حتى رجعا بها. وقصة هجرتها طويلة مؤلمة. وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيباً مصقعاً، فقال عمر يا رسول اللَّه، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه، فلا يقوم خطيباً عليك في موطن أبداً، بيد أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رفض هذا الطلب، احترازاً عن المثلة وعن بطش اللَّه يوم القيامة. وخرج سعد بن النعمان معتمراً فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
    القرآن يتحدث حول موضوع المعركة:
    وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي - إن صح هذا التعبير - على هذه المعركة، يختلف كثيراً عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح. إن اللَّه تعالى لفت أنظار المسلمين - أولاً - إلى التقصيرات والتقاريظ الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدرت بعضها منهم، ليسعوا في تكميل نفوسهم وتزكيتها عن هذه التقاريظ. ثم أثنى بمن كان في هذا الفتح من تأييد اللَّه وعونه ونصره بالغيب للمسلمين. ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء بل ليتوكلوا على اللَّه ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام. ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول صلى الله عليه وسلم لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تسببت في الفتوح في المعارك. ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، وعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والتقيد به. ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم، وقنن لهم مبادىء وأسس هذه المسألة. ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية، ويقوم لهم التفوق في الأخلاق والقيم والمثل، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظرية، بل إنه يثقف أهله عملياً على الأسس والمبادىء التي يدعو إليها. ثم قرر بنوداً من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها، والذين يسكنون خارجها. وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان، وفرضت زكاة الفطر، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى؛ تخفيفاً لكثير من الأوزار التي يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضرباً في الأرض. ومن أحسن المواقع وأروع الصُّدف أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2هـ إثر الفتح المبين الذي حصلوا عليه في غزوة بدر، فما أروق هذا العيد السعيد الذي جاء به اللَّه بعد أن توج هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروع منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى اللَّه، وحنينا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم من النعم، وأيدهم به من النصر، وذكرهم بذلك قائلاً: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].
    التعديل الأخير تم بواسطة عامر العمار ; 07-10-2014 الساعة 10:06 PM

  10. #10

    افتراضي رد: رمضانيات عام 2014

    خصائص شهر رمضان المبارك

    1- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك .
    2- تستغفر الملائكة للصائمين حتى يفطروا .
    3- يزين الله في كل يوم جنته .
    4- تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق أبواب النار .
    5- تصفد فيه الشياطين .
    6- فيه ليلة القدر هي خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم الخير كــله .
    7- يغفر للصائمين في آخر ليلة من رمضان .
    8- لله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة من رمضان .

صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. رمضانيات - صفحة لعامر العمار
    بواسطة عامر العمار في المنتدى المنتدى الرمضاني
    مشاركات: 47
    آخر مشاركة: 06-24-2015, 05:42 PM
  2. رمضانيات عام 2015
    بواسطة عامر العمار في المنتدى المنتدى الرمضاني
    مشاركات: 74
    آخر مشاركة: 06-24-2015, 05:40 PM
  3. رمضانيات عام 2013 م (متجدد)
    بواسطة عامر العمار في المنتدى المنتدى الرمضاني
    مشاركات: 290
    آخر مشاركة: 08-04-2013, 10:30 AM
  4. رمضانيات - صفحة لعامر العمار
    بواسطة عامر العمار في المنتدى منتدى الشعر الفصيح
    مشاركات: 15
    آخر مشاركة: 08-05-2012, 04:41 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML

جميع آلمشآركآت آلمكتوبه تعبّر عن وجهة نظر صآحبهآ ,, ولا تعبّر بأي شكل من الاشكال عن وجهة نظر إدآرة آلمنتدى