آخر أيام رمضان
اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، ومثل ما نقول، وفوق ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالصيام، ولك الحمد بالقيام.
عز مقامك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت. في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك..
من تقرب إليك قربته، ومن أحبك أحببته، ومن توسل إليك قبلته، ومن عصاك أدبته، ومن حاربك كبته، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
والصلاة والسلام على من رفعت به منارة الإسلام، وحطمت به دولة الأصنام، وفرضت به الصلاة والصيام، والطواف بالبيت الحرام، خير من أفطر وصام، وخير من سجد وقام، رسول البشرية، ومعلم الإنسانية، ومزعزع كيان الوثنية، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فحديثنا عن الأيام الأخيرة في شهر رمضان.
إنكم تعيشون الأيام الأخيرة من هذا الشهر المبارك، شهر رضي الله سبحانه وتعالى عمن صامه وقامه، شهر فتح الله فيه أبواب الجنان، وأوصد فيه معامل الشيطان، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
شهر أنفاس الصائمين فيه خير عند الله من المسك، شهر يعتق الله في كل ليلة منه مائة ألف ممن استوجبوا دخول النار، شهر جعله الله عز وجل صلة بين المذنبين وبينه تبارك وتعالى.
والله عز وجل طلب من المكففين أن يستغفروه بعد كل عمل صالح، فقال للرسول عليه الصلاة والسلام في آخر عمره: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)) وقال سبحانه وتعالى للحجيج بعد أن قضوا مناسكهم وانتهوا من أعمال حجهم: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
فواجبك في هذه الأيام والليالي أن تعود إلى الملك العلام، وأن تختم هذه الساعات القريبة، الوجيزة، التي بقيت من هذا الشهر الفضيل، ومن هذا الموسم الجليل، بالاستغفار والتوبة، لعل الله أن يقبلك فيمن قبل، وأن يعفو عنك فيمن عفا عنه، وأن يردك سبحانه وتعالى إليه، فإن الأنبياء، عليهم السلام، سلفاً وخلفاً، استغفروا الله عز وجل على حسناتهم وبرهم، وعلى صلاحهم.
قال نوح عليه السلام لقومه: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)).
وقال آدم وزوجه لما أذنبا: ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)).
وقال هود عليه السلام لقومه: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ)).
وقال سليمان عليه السلام وقد رأى ملكة وجيشه: ((قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)).
وقال إبراهيم عليه السلام في آخر عمره: ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين)).
والله عز وجل وعد المستغفرين ألا يأخذهم بنقمه في الدنيا إذا استغفروه فقال: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)).
ونادى الله الناس جميعاً فقال: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
وقال مادحاً سبحانه وتعالى من استغفر يوم يذنب، ومن تاب يوم يسيء، ومن راجع حسابه مع الحي القيوم فقال: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)).
ومن صفات الله عز وجل الحسنى، أنه تواب رحيم: ((وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)).
وقال لبني إسرائيل: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
وقال سبحانه وتعالى مخبراً أن اجتنب الكبائر غفر الله له الصغائر فقال: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا)) وقال جل ذكره: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا)) (1) .
وقال سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)).
فسبحان من بسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وسبحان من بسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.
والله يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم تذنبون في الليل والنهار وأنا أكفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) (1) .
متى يتوب من لا يتوب في رمضان؟
ومتى يعود إلى الرحمن من لا يعود في رمضان؟
ومتى يراجع حسابه مع الواحد الديان من لا يراجع حسابه في رمضان؟
ينسلخ الشهر ولا يمحى الذنب، ينسلخ الشهر، ولا تسارع في فكاك رقبتك من النار، ومن العار ومن الدمار..
أليس من الحسرة والندامة، أن يعفو الله عن مئات الألوف ثم لا يعفو عن البعيد؟
أليس من العار، والخزي، والخسار، أن ينسلخ الشهر ثم لا تكون من الذين رضي الله عنهم، ونعوذ بالله من ذلك.
فسارع أيها المسلم في فكاك رقبتك في هذه الليالي، واغتنم كثرة الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكثرة التوبة والاستغفار، وبادر بالحسنات. فمن يدري، لعلك أذنبت ذنباً كبيراً لا يغفر إلا في هذه الليالي، ولعلك أسأت إساءة كبرى لا يمحوها إلا التوبة في هذه الأيام.
فبادر في فكاك رقبتك، وارفع يديك إلى الله عز وجل، فإنك لا تدري لعل رمضان لا يعود إليك مرة أخرى.
فوداعاً يا شهر الصيام والصلاة، ووداعاً أيتها الأيام العاطرة التي عشناها في ذكر وتلاوة، لا ندري أتقبل منا فنخرج يوم العيد في فرح وسرور وحبور ونور؟
أم ردت أعمالنا علينا (والعياذ بالله) فنخرج في ويل وثبور وفي حسرة وندامة؟
فإن السعيد من أسعده الله، وكتبه في صحائف الخلود، والسعادة، والشقي من أخزاه الله، وغضب عليه سبحانه وتعالى.
إذا علم ذلك، فأوصي نفسي وإياكم، بالتوبة النصوح، وكثرة الاستغفار في هذه الليالي، ورفع يد الضراعة إلى الحي القيوم.. لعل الله أن يغفر.
فوالله، ليس لنا من الأعمال العظيمة الشريفة ما نتقدم به إلى الله، لأن كل أعمالنا خطيئة وذنب، وكلنا فقر ومسكنة، وعجز وتقصير، نخشى من أعمالنا أن يشوبها الرياء والسمعة، فيبطلها الله أولاً وآخراً.
يظن العبد يوم يصلي ساعة، أو يقرأ ساعة، أو يذكر الله ساعة، أنه فعل شيئاً عظيماً؟
. فأين ساعات النعيم؟
وأين ساعات الأكل والشرب؟
وأين ساعات اللهو واللعب؟
وأين ساعات الترح، والمرح، والذهاب، والمجيء..؟
فيا أيها المسلمون، يا من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.. الله الله في هذه الليالي التي لا تدري ماذا يكتب لك فيها، من يدري لعلك أن تكون شقياً فيمحو الله ذنوبك ويكتبك سعيداً.. أو تكون بعيداً فيقربك الله ويجعلك سعيداً.
أو لعلك أن تكون مغضوباً عليه -نعوذ بالله من ذلك- فيتولاك الله فيمن تولى.
وإنما الأعمال بالخواتم لا تحتقر شيئاً من المآثم

ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا

وليتك بالخوف والرجاء ولا تيأس وللنفس فجاهد عجلا

وإن فعلت سيئاً فاستغفر وتب إلى الله بداراً يغفر

وبادر بالتوبة النصوح قبل احتضار وانتزاع الروح

والله لو علمت ما وراكا لما ضحكت ولأكثرت البكا

قد حفت الجنة بالمكاره والنار بالذي النفوس تشتهي

مع كون كل منهما لدينا أدنى من الشراك في نعلينا

فسبحان من بسط ميزان العدل للعادلين، وسبحان من نشر القبول للمقبولين، وسبحان من فتح باب التوبة للتائبين، فمن مقبل ومدبر، ومن سعيد وشقي، ومن تائب وخائب.
فنسأل الذي بيده مفاتيح القلوب، أن يفتح على قلوبنا وقلوبكم، وأن يعتق رقابنا ورقابكم من النار، وأن ينقذنا من عذاب جهنم، وأن يجعلنا ممن قبل صيامه وقيامه وذكره وتلاوته.
ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون



نقلته لكم