نزار عبد الغفار السامرائي كثيرا ما تجذبنا احداث التاريخ المختلفة الى الغوص في الخيال محاولين ايجاد توفق بين ما تذكره كتب ومكتشفات الاثاريين والمؤرخين وبين ما تختزنه ذاكرتنا الجمعية من افكار وحكايات وتصورات بنتها المجتمعات عبر مسيرة تشكلها وفق الموروثات الدينية التي تمزج ما بين التصورات القديمة والاديان التالية لها لتعيد انتاجها وفق تصورات تتلاءم مع ما نؤمن به ، وبها نحاول تبرير ايماننا بما نؤمن به ،ومثلما يرى الياد فـأن ثمة موضوعات اسطورية مازالت باقية حتى ايامنا وهي تفعل فعلها في المجتمعات الحديثة ولايمكن لتعرف عليها بسهولة ويسر، بسبب خضوعها لعمليات علمنة نزعت عنها كل صفات القداسة. كما يذكر في موضع اخر ” نحن نعلم ان تقليد مثال يتجاوز حدود البشر ،واستعادة مسلسل ينطوي على قدوة ونموذج،واجراء قطيعة مع الزمان الدنيوي الخالي من القداسة – بواسطة فتحة توصل الى الزمان الكبير- انما تؤلف علامات اساسية للسلوك الاسطوري.اي سلوك انسان الازمنة الغابرة،الذي وجد في الاسطورة مصدر وجوده”. من هنا ندخل لرواية عباس العلي الذي ينسج منذ الصفحة الاولى اسطورة الرجل الذي اكله النمل محاولا المزج ما بين الخرافة والميثولوجيا الدينية والعلم في وعاء واحد ليقدم لنا رواية تستحث الخيال على المقارنة بين الموروث الشعبي والديني والتاريخ كما تثبته الوقائع والاثار التي خلفها لنا الاوائل علامات يمكن ان نستدل بها على ما حدث في بقعة ما من الارض في زمن ما. يستخدم العلي العلامات في روايته (الرجل لذي اكله النمل) للوصول الى غاية وضعها لنفسه تتمثل بان المدينة المفقودة التي بناها الجن للملك /سليمان موجودة في ارض العراق وتحديدا عند تخوم النجف في طريق الحج الى مكة . هذا ما اكتشفه احد سلاطين العثمانيين وعهد به الى عائلة الدويدي ليحافظوا كسدنة للمكان ،بما يشبه حكاية حراس الهيكل. فعائلة الدويدي او النويدر يتوارثون حماية المكان دون ان يعرف احد ذلك ، كل ما يعرفه الناس انهم توارثوا الارض التي يقع فيها (اليشان) منذ ان منحها السلطان العثماني الى جدهم وهو في طريقه الى الحج ، وحتى يحافظوا على المكان من عبث العابثين ينسجوا حكايات عن الجن الذي يحرس المكان والذي مستعد لقتل اي شخص يحاول العبث به ، حتى جد النويدر أنتهى به المطاف الى ان يأكله النمل ذات يوم . فينسج الناس كل منهم وفق رؤيته ومصالحه حكاية ما يبرر بها ما حدث ،او بالاحرى ما وصل اليهم من حدث. اما استاذ التاريخ الذي تسرد احداث الرواية على لسانه فهو لا يؤمن “بالخرافات الشعبية التي تكون دوما من نسيج ذاكرة غارقة في الاوهام تسقط معاناتها مع الزمن او احلامها الفاشلة والمتعذرة على واقع تصنعه لتبرر كم هي عاجزة ان تحدث شيء ما يراه الاخرون انجاز”ص11. لذلك يحزم امره للبحث في اصل الحكاية حتى لو كان من اجل التسلية لعله يقضي بعض ايام اجازته السنوية في عالم الخيال والاساطير ،او لربما يجد شيء يسلي به نفسه .ص12 ولكن ذلك العالم الغريب المتفرد ببساطته وتعامله السلس مع الاشياء حيث يجد لكل شيء تبريرا ما يذهب بأستاذ التاريخ /الراوي الى عمق الاسطورة ويتنقل به بين ما يرسخ في الاذهان من ميثولوجيا شعبية دينية ليضع التاريخ كله في هذه البقعة الصغيرة من الارض ، معززا ذلك بما توارثه من معلومات وبكتب خطها اليهود في زمن ما تشير الى ان ” بلاد الفرات بالنسبة للإبراهيميين ومعظم الموحدين هي الوادي المقدس ارض طوى فلا غربة ان يلجئوا له كل ما احاطت بهم الاقدار، هكذا هو وادي الفرات على مرّ التاريخ موطن الاولياء والانبياء”.ص143 لذلك يجزم المؤلف على لسان استاذة التاريخ العبري د.غيداء ، بان سليمان النبي سكن العراق وارسى حكمه على وادي الفرات وقد بنى مملكة قد غيبها الزمن عن الانظار !! وبهذا الشكل فأن العلي يحصر تاريخ الاديان السماوية داخل بقعة فيها ولد ابراهيم واليها عاد انبياء بني اسرائيل وبنى فيها سليمان مملكته بمساعدة الجن وولد على ارضها المسيح …ليعيد تشكيل الاسطورة الدينية من جديد محاولا تأويل ما جاء بالكتب المقدسة بتفسير يمزج بين العلم والتاريخ والاسطورة ليقدم لنا في النهاية حكاية ممتعة بكلمات بسيطة تتنقل بالقارئ ما بين عادات وتقاليد يمتاز بها مجتمع الريف العراقي ببساطته وتلقائيته وتقبله للأشياء كما هي ،وما بين الميثولوجيا التي تتواردها الحكايات والكتب الدينية التي تحاول تفسير ما ورد في القران او قدسية مكان ما وفق تأويل الاحداث والعلامات بالشكل الذي لا يضع شك في ان كل ما يقال حقيقة. وهو ما تمتاز به الرواية حقا ،حيث كان الكاتب يتنقل بالأحداث ويناقش بالمنطق الاستدلالي ما لديه من شواهد ليصل الى ما يعتقد به. ويسرد عباس العلي احداث رواية (الرجل الذي اكله النمل) في الزمن الحاضر محاولا الاستدلال على ما حدث قبل الاف السنين من خلال شواهد اوجدها للعثور على احدى المدائن السبعة المفقودة ، المدينة التي بناها الجن لسليمان واطلق عليه راوي الحكاية (مملكة شاكو) وشاكو هذا رحالة انكليزي كان من اكتشف المكان ولكن لم يمهله الزمن ليعيش ،فمات في المكان الذي اكتشفه ودفنه محمد النوير عنده ليبقى دلالة على مدخل المدينة المفقودة ، مثل الكتابين الذين تركهما ارثا عند ال النويدر احدهما كتبه هو باللغة الانكليزية والاخر مكتوب بالعبرية لا يعرف احد مؤلفه وربما هو من بقايا اليهود بعد السبي .. الرواية :الرجل الذي اكله النمل تاليف : الدكتور عباس العلي اصدار : دار ضفاف – 2014        

أكثر...