د / جابر قميحة

إذا ما عُدنا إلى المجتمع الجاهلي وجدناه - وهو المزحوم بكثرة من الرذائل لم يخلُ من قِيم إنسانية جليلة:

كان فيه الشجاعة الفائقة، والبطولات الرائعة في القتال، حتى إن الموت حتفَ الأنف كان عارًا ما بعده عار.

وكان هناك الكرم الفائق؛ فالعربي يجُود بماله، بكل ماله في سبيلِ إكرام الضيف، وقد حكى الحُطَيئة - في قدرة فنية لافتة - قصة كرم رائعة في قصيدته الميمية المشهورة التي مطلعها:

وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ** ببيداءَ لم يعرِفْ بها ساكنٌ رَسْمَا

وتحكي قصة بدوي فقير انقطع في خيمته بأبنائه في الصحراء، طرَقه ضيف ذاتَ ليل بهيم، فاستبد به الأسى والحزن؛ لأنه لا يملِك ما يُكرِم به ضيفه، فأشار عليه ابنه أن يذبحَه ويقدِّم لضيفه من لحمه طُعمًا، وهمَّ الأبُ بذبح ابنه، ولكن ظهر من بعيد قطيع من حمر الوحش، انطلق الأب البدوي إليه وصاد منه

فخرَّت نحوصٌ ذات جحش سمينة

قد اكتنَزَتْ لحمًا، وقد طبقت شحمَا

وأكلوا وشربوا:

وباتوا كرامًا قد قضَوا حقَّ ضيفهم

وما غرموا غُرمًا، وقد غنموا غُنمَا

وبات أبوهم مِن بشاشتِه أبًا

لضيفهم والأمُّ من بِشرها أمَّا (1)

والقصة - وإن غلب عليها الخيال، وظهر فيها بصمات قصة الذبيح إسماعيل - تصوِّر مدى حرص العربي على إكرام الضيف، وخشيته المعرة إذا ما ردَّ ضيفه بلا إطعام.

وإذا كان البَغي والظلم من أبرزِ صفات مجتمع الجاهلية، فإنه لم يخلُ من النَّجدة والمروءة والأرْيَحية؛ يدلُّ على ذلك قصة حلف الفضول، وتتلخص القصة - كما روتها كتب السيرة - في أن قبائلَ من قريش هي بنو هاشم وبنو المطلب وأسد بن عبدالعزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، تداعَتْ إلى حِلف، فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان؛ لشرَفِه وسنِّه، فصنع لهم طعامًا، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكةَ مظلومًا من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على مَن ظلمه حتى تُرَد عليه مظلمتُه، فسمَّت ذلك حلف الفضول.

وسبب عقد الحلف أن العاصَ بن وائل اشترى بضاعة من "زبيدي"، وماطله في ثمنها، وامتنع عن الدفع، فاستعدى عليه بعضَ الناس فلم ينصروه؛ لشرف العاص، ومكانه فيهم، فوقف الرجلُ على جبل أبي قُبَيس مطلع الشمس، وقريش في أنديتهم حول الكعبة، وأنشد شعرًا يعرِضُ فيه أمرَه ومظلمته، ويدعو الناس لنصره، فهب الزبير بن عبدالمطلب وقال: ما لهذا مترك؟ ثم كان الحِلف في دار عبدالله بن جدعان، وسمَّت قريش ذلك الحِلف حلف الفضول؛ لأنهم قالوا: لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر.

وقد شهِد النبي محمد عليه السلام الحِلف في شبابه، وعن طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد شهدتُ في دار عبدالله بن جدعان حِلفًا ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبتُ)) (2) .

نعم لم يعدم المجتمع الجاهلي هذا "الصوت الآخر" الذي قد ينتصر علانية على رؤوس الأشهاد، وقد لا يُكتَب له النصر، وقد يستتر أصحابه، ولكنهم - على أية حال - يؤدون دورًا في صالح الفضيلة والمروءة والأريحية بقدر ما يستطيعون.

وقد ظهر ذلك في تصرفات بعض القريشيين - على كفرهم - تجاه النبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين:

لقد قاومت قريش دعوةَ الرسول عليه السلام، وطاردوه، وضيّقوا عليه الخناق، وعذَّبوا أصحابه، وقتَلوا بعضهم، ولكن كان أشد ألوان القهر ما عُرِف باسم "صحيفة المقاطعة"؛ فقد كتب القريشيون صحيفة تعاقدوا فيها ألا يناكحوا بني هاشم وبني المطلب، ولا يبايعوهم ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم حتى يُسلِموا إليهم محمدًا عليه السلام، وكتبوا بذلك صحيفة وعلَّقوها في سقف الكعبة.

وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب مؤمُنهم وكافرهم - إلا أبا لهب وولده؛ فإنهم ظاهَروا قريشًا على بني هاشم - فصاروا في شِعب أبي طالب محصورين مضيقًا عليهم أشد التضييق نحوًا من ثلاث سنوات، وقد قطعوا عنهم الميرة والمادة، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجَهد.

وكانت أيام هذا "العزل الاجتماعي" أشدَّ الأيام على نفس الرسول والمسلمين، ولكن من خلال ظلام هذه المحنة، ومن خلال ركامات الضيق والجوع والأسى ظهرت صورٌ من الرجولة والمروءة والشهامة: بعضها مستتر، وبعضها ظاهرٌ للعيان لا يبالي بعنجهية أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما ممن تولَّوا كِبْرَ هذه الجريمة الفادحة.

كان هناك حكيم بن حزام تأتيه العير تحملُ الحِنطة من الشام، فيوجه بعضها - تحت ستار الظلام - إلى الشِّعْب، ويضرب أعجازَها، فتدخل الشعب، فيأخذ المحصورون ما عليها من الحنطة.

ومثله كان هشام بن عمرو: يوقر البعير طعامًا، حتى إذا أقبل به فمَ الشعب خلَع خطامه من رأسه، ثم ضرب على جنبه فيدخل الشِّعب عليهم، ثم يأتي به قد أوقره بزًّا أو بُرًّا فيفعل به مثل ذلك.

ولم يكتفِ الرجل بذلك، بل سعى إلى كرام القوم لنقض الصحيفة، واستجاب له زهير بن أبي أمية، ومُطعِم بن عدي، وأبو البَخْتري بن هشام، وزمعة بن الأسود بن عبدالمطلب، ونجح الرجل في مسعاه، وشقت الصحيفة، وانتهت بذلك أشقُّ محنة واجهت المسلمين (3) .

ولم يخل المجتمع الجاهلي كذلك من صِدق مع النفس، وصدق مع الآخرين، وتحرج من الكذب والمَيْن؛ فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان أخبره: "أن هرقلَ أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارًا في الشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مهادنًا فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بتَرجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبًا، فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كذَبني فكذِّبوه، فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذبًا لكذبتُ عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نَسَب، قال: فهل قال هذا القولَ منكم أحدٌ قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه مِن ملك؟ قلت: لا، قال: فأشرافُ الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤُهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقولَ ما قال؟ قلت: لا، قال: فهل يغدِرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مدةٍ لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم يمكِنِّي كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجال؛ ينال منا، وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا اللهَ وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصِّدق، والعفاف والصِّلة" (4) .

فأبو سفيان - على كفره - يستنكف أن يكذب، ويمنَعه الحياء من الكذب، فيصور ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وطبيعة دعوته دون أن يَمِين، على الرغم من أنه كان لا يزال على الكفرِ وعبادة الأصنام.

قبسات من الفضائل في ظلمات من الرذائل بعضها فوق بعض: فمجتمعُ الخوف والدم والرُّعب لم يخلُ من الشجاعة والشهامة، والنَّجدة، وآداب الفروسية، حتى عند كثير من صعاليك العرَب.

ومجتمع الجفاف والقحط لم يخلُ من الكرم والاعتزاز بالضيف.

ومجتمع الميسر والأزلام والخمر لم يخلُ من رجال حرَّموا على أنفسهم الخمر في الجاهلية؛ لأن الأحمق هو "الذي يستُرُ عقله بيده".

لقد كان مجتمعًا من المتناقضات المتضاربة، والتناقض كان بيِّنًا غيرَ خفي: بين كثرة تسير في طريق الظلام، وقلة عرَفتِ الحد الأدنى من الفضائل الإنسانية، ولكن كثيرًا من الفضلاء في هذا المجتمع الجاهلي لم يكونوا أسوياءَ على طول الخط، فظهر التناقض أو الانفصامية في قائمة القِيَم الواحدة في الشخصية الواحدة قبل أن يسريَ نور الإسلام إلى هذه النفوس فيغسل قلوبَها، وينقي أعماقَها من جذور الشرك: فعبدالله بن جُدعان، الرجل الذي دخَل التاريخ من أوسع أبوابه، وعقَد حلف الفضول في بيته: حلف النجدة، ومناصرة المظلوم الضعيف، الحِلف الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه الله نبيًّا ورسولاً: ((لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حِلفًا ما أحب أن لي به حُمْر النَّعَم، ولو أدعى به في الإسلام لأجَبْتُ)) (5) .

وهو الرجل الذي قالت عنه عائشة: "كان في الجاهلية يصل الرَّحِم، ويطعم المسكين" ..(6) .

هذا الرجل الشَّهم الكريم القوي الشجاع استحل لنفسه أن يكون نخاسًا يُتاجِر في أحط تجارة، وهي الأعراض؛ فكان له ستُّ جوارٍ يَزْنين ويبيع أولادهن (7) ..

وهذه البقية الباقية من الفضائل في مجتمع الجاهلين إن تلبَّست بالروح الجاهلي، ربما كانت أقباسًا تسرَّبت إلى النَّفس الجاهلية من ديانةِ إبراهيم؛ وهي الحنيفية السمحاء، أو ربما من اليهودية والمسيحية، وقد كان لهاتين الديانتين مكانُهما في جزيرة العرب؛ فكانت اليهودية في بلاد اليمن، وكانت أيضًا بيثربَ وما جاورها من أرض خيبرَ وتيماءَ، جاءت مع إسرائيليين فارَقوا الشام حين الاضطهادات التي كانت تتوالى على اليهودِ في شمال صنعاء وفي وجهاتٍ من البحرين، وفي الحِيرة لما تنصَّر النعمان، وفي قبائل من طيئ، وفي عرب الغساسنة بالشام؛ لمجاورتهم المتنصِّرة من الرُّوم المتديِّنين بهذا الدِّين (8) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش :

1 ـ ديوان الحطيئة 159 - 161.

2 ـ ابن هشام 1/138، وانظر الجزء 19 من الأغاني (6597 - 6616)؛ حيث استوفى روايات متعددة ومختلفة في سبب الحِلف والمشتركين فيه، وآثاره، وذكر أن سنَّ النبي آنذاك كانت 25 سنة.

3 ـ راجع ابن هشام 1/356، وإمتاع الأسماع للمقريزي 25.

4 ـ البخاري 1/5 (باب: كيف كان بَدْء الوحي).

5 ـ انظر كذلك ابن هشام 1/138.

6 ـ صحيح مسلم 1/489، (باب من مات على الكفر).

7 ـ انظر الحوفي: المرأة في الشعر الجاهلي 399.

8 ـ الخضري، السابق، 1/53.

المصدر : موقع الألوكة