سالم صالح القرمي
شهد الربع الأول من عام 2014م اهتماماً كبيراً من وسائل الإعلام العالمية بشبه جزيرة القرم، وهي منطقة إستراتيجية في البحر الأسود؛ لذا سنلقي الضوء عليها، وعلى دور المسلمين في صناعة تاريخ وحاضر هذه البلاد.
تقع شبه جزيرة القرم جنوب أوكرانيا، يحيط بها بحرا «الأسود»، و«آزوف»، وترتبط بالبر الأوكراني من جهة الشمال بشريط لا يتجاوز عرضه 8 كم، ويفصلها عن الأراضي الروسية من جهة الغرب مضيق مائي عرضه من 5 - 15 كم، مساحة القرم الحالية حوالي 27 ألف كم2، وللصدفة فهي تشبه مساحة فلسطين الحبيبة، جوها دافئ شتاء معتدل صيفاً، وحبا الله هذه المنطقة بطبيعة خلابة، وتتنوع في أراضيها بين السهول الخضراء والجبال الشاهقة والتلال والوديان الجميلة والبحيرات والأنهار العذبة.
دخول الإسلام
دخل الإسلام هذه المنطقة عن طريق التجار والرحالة المسلمين من العرب والأتراك في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، وبدأ يتدفق على الجزيرة رعاة الماشية والخيول والتجار من الشعوب التركية القادمة من الشرق، واختلطوا مع السكان الذين يعيشون الحزيرة من الإغريق والرومان والقوط والإيطاليين.
احتل المغول مناطق شمال القرم في عام 1239م، ومع استلام الخان المسلم «أوزبيك» للحكم بين عامي (1313 - 1341م) دخلت القرم تحت الحكم الإسلامي.
خانية القرم الإسلامية
القرم في اللغة القرمية التترية - والتي يتحدث بها مسلمو شبه الجزيرة - تعني «القلعة»، وقد أخذت هذه التسمية لحصانتها ومنعتها أمام الأعداء.
وتاريخياً تسمية «القرم» تختلف عما هو عليه اليوم من حيث المساحة، فقد كانت القرم تضم مناطق واسعة من جنوب أوكرانيا، ومناطق حوض بحر «آزوف» والتي تقع في روسيا اليوم.
في عام 1441م أسس أحد أحفاد «جنكيز خان» واسمه الحاج «كراي الأول» مملكة سميت خانية أو مملكة القرم والتي انفصلت عن الدولة المغولية، وكان الحاج «كراي» محباً للعلم والعلماء مقرّباً من شعبه، أدى فريضة الحج قبل تسلمه للحكم، وقد عاصر عهد السلطان العثماني «محمد الفاتح».
عام 1474م أصبحت مملكة القرم حليفاً للدولة العثمانية وقد ساعدت الأتراك في جميع حروبهم ضد الروس والملدافيين والبولنديين، واستمر هذا الحلف إلى عام 1774م عندما دخلت القرم تحت الوصاية الروسية.
كما كانت خانية (إمارة) القرم خط الدفاع الأول ضد الأطماع الروسية في الأراضي الإسلامية في القوقاز والبلقان وحتى أراضي تركيا الحالية.
وحكم من بعد الخان «كراي الأول» حوالي خمسين من أولاده وأحفاده حتى عام 1783م عندما احتلت القوات العسكرية الروسية القرم.
ومن حكامها الخان «منكلي كراي الأول»، جد السلطان العثماني سليمان القانوني (عام 1515م)، وقد قام «منكلي» بتوطيد حكم المملكة واهتم بالبناء والعمارة.
وكذلك الخان «غازي كراي الثاني» كان شاعراً وأديباً محباً للعلماء والفن، ويعتبر من الأدباء الكبار في عهد الخانية القرمية، وأحد رواد الحضارة في القرم في القرن السابع عشر، وكان يتقن اللغة التركية والفارسية والعربية، وقد ترجمت أعماله الأدبية إلى اللغة الأوكرانية والألمانية، وهو الذي احتل موسكو واضطر قيصرها لدفع الجزية للمسلمين عام 1594م.
والخان «إسلام كراي الثالث» الذي دافع عن حدود الدولة العثمانية وحقق انتصارات كبيرة على البولنديين، وتوفي 1654م.
قرطبة المسلمين المنسية!
كانت عاصمة خانية القرم مدينة «بغجة سراي» (تنطق اليوم باللغة الروسية)، مدينة عامرة بالمساجد والأسواق والدور والقصور، أسسها الخان «صاحب كراي بن الحاج كراي الأول» عام 1532م، وأصبحت المدينة مقراً لحكم حوالي أربعين خاناً من عائلة «كراي».
لقد كان القرنان السابع والثامن عشر الميلاديان أوج ازدهار وقوة المدينة، وكانت إحدى أهم حواضر الدولة العثمانية الإستراتيجية ومركزاً علمياً وتجارياً وسياسياً كبيراً.
وصفها الرحالة التركي الشهير «أولياء جلبي» (1611 - 1682م) بعد أن زارها عام 1656م: «أرض هذه المدينة واسعة وغنية جداً، ولا يوجد شبيه لها على وجه الأرض إلا سهول حوران في سورية.. نعم هذه البلاد مدهشة، مباركة، مزدهرة».
وحسب ما ذكر الرحالة والمؤرخون الروس والأتراك، فقد كان في المدينة أواسط القرن 17 الميلادي أكثر 2000 بيت كبير ذي طابقين، وكذلك العديد من القصور، وحوت المدينة 32 مسجداً ذات قباب ومنارات جميلة، منها مسجد «الخان صاحب كراي الجامع» وهو أشهرها، و«مسجد قباء»، ومسجد «سيفر غازي»، وجامع «أورطا جمعة»، ومسجد «تختالي الجامع»، هذا ولم يبقَ منها اليوم إلا أربعة مساجد، كما انتشرت في المدينة الأضرحة المزخرفة والقبور ذات القباب للعديد من السلاطين والأمراء والعلماء، وقد عاش في المدينة النصارى أيضاً إذ كانت فيها كنيستان؛ واحدة أرمنية، والثانية يونانية.
إضافة إلى المقاهي التي تعبق برائحة القهوة، والتي كان عددها يربو على 17 قهوة، وكذلك الخانات (الفنادق) للمسافرين والتي وصل عددها إلى 7 خانات كبيرة، و4 حمامات عامة، إضافة إلى سبل المياه الكثيرة على الطرقات لشرب المارة والمسافرين، ولم يبقَ للأسف من هذه الآثار أي شيء، ومما ذكره المؤرخون والرحالة أيضاً أنه كان في المدينة 43 جسراً مبنية من الحجارة والخشب.
كما وأحاطت بالمدينة البساتين والحدائق الغناء الكبيرة، فقد وصل عددها إلى 26 حديقة تحوي الأشجار المثمرة وغير المثمرة؛ كالكمثرى والتفاح والكرز والمشمش والعنب والخوخ والصنوبر وغيرها، ترويها مياه الينابيع والعيون العذبة والتي وصل عددها في المدينة وما حولها إلى 70 ينبوعاً، وانتشرت في الحقول الواسعة قطعان الماشية والخيول.
وكانت مدينة «بغجة سراي» مركزاً كبيراً للحرف اليدوية من النحاس والذهب والفضة وصناعة السيوف والأواني المعدنية، ومركزاً لدباغة وصناعة الجلود ومنتجاتها.
وانتشرت فيها عدة مدارس لتعليم القرآن والحديث والعلم الشرعي واللغة العربية، وصل عددها - كما ذكر الرحالة التركي «أوليا جلبي» - إلى 17 مدرسة، أشهرها مدرسة «زينجيرلي»، وتعتبر أقدم مدرسة أو جامعة علمية في شرق أوروبا، وقد بناها الخان «منكلي كراي الأول» عام 1500م، تضم قاعات دراسية ومسكناً للطلاب ومسجداً وحماماً.
ومن هذه المدينة انطلقت الحملات العسكرية لصد ومحاربة الروس والقوزاق الأوكران والبولنديين والليتوانيين، وساندت خانية القرم الدولة العثمانية في العديد من معاركها البرية والبحرية.
في عام 1736م دخلتها القوات العسكرية القيصرية الروسية بقيادة القائد «خريستوفر مينيخ» (1683 - 1767م)، وقام جنوده بحرق كامل المدينة، ونهب كل ما فيها، ثم انسحبت منها، لتعود إليها مرة أخرى وتدخل القرم تحت السيطرة الروسية الكاملة عام 1783م.
ولابد أن ننوه إلى أن الروس لم يحكموا القرم قبل عام 1783م في أي مرحلة من مراحل التاريخ، حتى نسبة الروس الذين عاشوا في القرم فيها كانت قليلة جداً.
في عام 1787م دخلت الإمبراطورة الروسية «كاترين الثانية» مع قواتها مدينة «بغجة سراي» كرمز لتأكيد السيطرة الروسية الكاملة والقوية على أرض القرم، وقد أقامت في قصر الخان عدة أيام.
حاول العثمانيون استعادة المدينة من أيدي الروس في معركة قرب نهر «ألما» في عام 1854م ولكنهم فشلوا، ورغم كل هذه المحن والمآسي وغيرها فإن سكانها المسلمين لم يتركوها، وبقيت عامرة بالقرميين التتار المسلمين إلى أن جاء تاريخ 18 مايو من عام 1944م حيث قام الشيوعيون - وبطريقة وحشية - بتهجير كامل أهلها من مسلمي تتار القرم إلى مناطق بعيدة في الأورال ووسط آسيا.
وهكذا غابت شمس الحضارة الإسلامية عن هذه المدينة التاريخية، بعد أن كانت مركزاً للعلوم والثقافة والحضارة، وأصبح حالها حال أخواتها من مدن الأندلس: قرطبة، وغرناطة، وإشبيلية وطليطلة، وغيرها، ولكن لم يرحل الإسلام عن هذه الأرض.
فهل يا ترى تعود «بغجة سراي» مركز إشعاع حضارياً لخدمة الإنسانية كما هي اليوم طبيعتها الجميلة الساحرة؟!
العلماء القرميون
شهدت القرم ازدهاراً كبيراً ونهضة علمية في الفترة بين القرنين 14 - 17 الميلاديين خلال حكم أسرة «كيراي» وحكم العثمانيين، وقد انعكست هذه النهضة على المجال العلمي؛ وذلك بظهور علماء قرميين مسلمين في مجالات القضاء والفقه الحنفي، والتفسير، والنحو والتصوف وغيرها.
وقد قام هؤلاء العلماء بتدوين إنتاجهم العلمي باللغتين العربية والعثمانية، ومايزال هذا النتاج مبعثراً بين رفوف المكتبات العربية والتركية والإيرانية والهندية وحتى الروسية.
ومن هؤلاء العلماء الأجلاء:
- أبو البقاء الكفوي: أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أحد قضاة الأحناف، ولد في مدينة كَفَهْ بالقرم (فيادوسيا اليوم)، تضلّع في الفقه والأصول وعلم الكلام وعلوم العربية، وبعد موت أبيه مفتي «كفه» صار إليه الإفتاء والقضاء فيها، ثم ولي القضاء في القدس وبغداد، نفاه السلطان محمد خان إلى «كفه»، فأقام فيها اثني عشر عاماً أعيد بعدها إلى إسطنبول ليتولى فيها القضاء حتى وفاته عام 1093هـ («الإعلام» للزركلي 2/ 38 طبعة دار الملايين 1986م)، وذكر عمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 3/ 31 أنه توفي وهو قاض في القدس، وجاء في هدية العارفين 1/ 229 أنه توفي سنة 1094هـ، وأن لـه كتاباً بالتركية عنوانه «تحفة الشاهان» وهو في فروع الحنفية.
ومن أشهر كتبه «الكليات» معجم موسوعي نفيس، حقّقه د. عدنان الدرويش، والأستاذ محمد المصري، وأصدرته وزارة الثقافة السورية في خمسة مجلدات، وأصدرته مؤسسة الرسالة في حوالي 1300 صفحة، وضخامة حجمه من ناحية، وتنوع موضوعاته من ناحية أخرى يلحقانه بالموسوعات الفكرية العامة.
- محمد بن مصطفي حميد الدين الكفوي الحنفي الأقكرماني: تولى القضاء بمكة المكرمة، وتوفي بها عام 1174هـ، من كتبه «آداب الكفوي»، قال عبدالله بن عبدالرحمن المعلمي في كتابه «أعلام المكيين»: له «حاشية على الجامع الصحيح للبخاري، شرح إمكان العام والخاص، عقد القلائد على شرح العقائد، الفرق الضالة، حاشية على أنوار التنزيل للبيضاوي في التفسير».
- محمود بن سليمان الكَفَوِيّ الحنفي: توفي عام 990هـ/ 1581م، ويكنى أبو الفضل، له عدة كتب في الأدب والفقه أشهرها كتابه «كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار»، ويعرف أيضاً بطبقات الكفوي منه نسخة في المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة برقم (2575)، وأخرى في المكتبة القادرية برقم (1242) ببغداد، ونسخة أمانة خزينة بتركيا برقم (1201)، ومنها صورة فيلمية في جامعة الإمام برقم (875/ف).
والكتاب مكتوب بخط عربي جميل مؤلف من مجلدين في كل منه ما يزيد على 300 صفحة.
وقد اختصره أبو الحسنات محمد عبدالحي اللكنوي الهندي (1264 - 1304هـ/ 1848 - 1887م)، وسماه: الفوائد البهية في تراجم الحنفية.
- عبدالستار القريمي: توفي عام 1304 هـ/ 1887م، هو عبدالستار بن عبدالله القريمي الأصل، ثم القسطنطيني، عالم حنفي تولى قضاء مكة وتوفي فيها.
من مؤلفاته: «شرح قواعد المجلة»، و«تشريح القواعد الكلية»، و«مدخل إلى الفقه».>
المراجع:
1- تاريخ تتار القرم، الجزء الأول، فوزكرين.ف.ي، سيمفروبل 2013م.
2- تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، ابن بطوطة، المطبعة الخيرية عام 1322هـ.
3- مجموعة مقالات عن تاريخ القرم على موقع «أوكرانيا برس» للدكتور أمين القاسم.
4- سلطان البرين، تاريخ خانية القرم، الجزء الأول، ألكسندر كايفاروفسكي، كييف عام 2007م.
المصدر : مجلة المجتمع الكويتية