د / حمدي عبد المنعم
تُطلَق الحروب الصليبية على الحملات التي وجَّهها النصارى في أوربا إلى الشرق، من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري (الحادي عشر إلى الثالث عشر الميلادي)، للاستيلاء على بيت المقدس من أيدي المسلمين، وتتميَّز هذه الحروب في بدايتها - على الأقل - بصفتها الدينية، وانعدام كل المميزات الجنسية أو القومية؛ إذ أصبح المحاربون شعبًا واحدًا، هو الشعب النصراني، ومن ثم أُطلق على هذه الحروب: الحروب الصليبية.
وكان استيلاء الصليبيين على بيت المقدس أهمَّ نتائج هذه الحروب، وقد تكونت أربع إمارات لاتينية في الشام، هي: بيت المقدس، وأنطاكية، وطرابلس، والرها.
ولا شك أن اتصال شعوب أوربا - الذين حضروا إلى الشرق في الحملات الصليبية - بالشعوب الإسلامية في الشرق على مدى ثلاثة قرون، وإقامتهم إمارات لهم في الشرق، كان فرصةً لاختلاط هذه الشعوب، وامتزاجها، واقتباسها كثيرًا من نُظم الحكم في الشرق الإسلامي وعاداته وتقاليده، ومن مظاهر ذلك:
1- أن لويس التاسع أو القديس لويس ملك فرنسا خلال الفترة من 1226 - 1270 بعد عودته من إحدى الحملات الصليبية على الشرق "مصر"، كان يجلس تحت الأشجار في غابات فانسين؛ ليستمع إلى شكاوى الناس، ويرد إليهم العدالة، وهذا ما يبعث على الاعتقاد أنه نقل هذه العادةَ من نظام المظالم الإسلامي الذي كان سائدًا في الشرق الإسلامي، وقد جاء في ترجمة حياته في لاروس ما يأتي: "لويس التاسع أو القديس لويس ملك فرنسا من 1226 -1270 ما أن فلسطين وقعت تحت نفوذ سلطان مصر، وأن الإمبراطورية الرومانية بدأت تهتز - أخذ الصليب ونزل في دمياط سنة 1249، واضطر للتقهقر عقب موقعة المنصورة سنة 1250، ولكنه وقَع في الأَسْر، وبعد أن افتدى حريته مكَث في فلسطين من سنة 1250 حتى 1252، ثم عاد إلى فرنسا... وقام بتنظيم ولاياته، ووطَّد توطيدًا وثيقًا السلطة الملَكية، وأصدر أمرًا يحدد فيه واجبات الملك، وعين مفتشًا لزيارة الأقاليم... وطلب من رجال القانون أن يجلسوا في المحاكم كمستشارين للقضاء، وأنشأ لجنة قضائية كانت هي نواة البرلمان".
فقيام لويس التاسع بعد عودته من حملته على مصر ورحلته إلى القدس التي استغرقت أكثر من عامين، بإعادة تنظيم دولته؛ إذ أمَر بأن يجلس الفقهاءُ مع القضاة في مجلس الحكم لنصحهم، وإنشاؤه لجنة قضائية، والتزامه في سلوكه بالتعاليم الدِّينية، ثم جلوسه لنظر شكاوى الناس تحت الأشجار في الأماكن العامة والحدائق - كلُّ ذلك شبيه بما كان عليه الأمر بالنسبة لديوان المظالم؛ إذ كان يجلس فيه الفقهاء مع القضاة، كما أنه كان يعتبر لجنة قضائية يلتزم أعضاؤُها جميعًا بالسلوك الديني، وكان يعقد جلساته في أي مكان، وكثيرًا ما كان الخليفةُ والوالي الإسلامي ينظر في شكاوى الناس تحت الأشجار، مما يبعث على الاعتقاد أن لويس التاسع استلهم هذه العادة خلال فترة وجوده في الشرق في مصر والقدس.
ولست وحدي الذي قادتْه المقارنة إلى هذه النتيجة؛ فهناك من الكتَّاب الغربيين من يربطون دائمًا بين نظام المظالم الإسلامي وعادة جلوس لويس التاسع تحت الأشجار؛ فيذكر "دي فو" في مؤلَّفه "مفكرو الإسلام" وهو يتحدَّث عن الماوردي ونظام نظَر المظالم:
"إن دَور والي المظالم كان يقوم به في كثير من الشعوب القديمة الحاكمُ بنفسه.. فكان ذلك من أنبلِ مظاهر السلطة أن يسهَرَ على حُسن سَيْر الإدارة، وتحقيق العدالة في دُوَيلاته؛ إذ كان يحمل الضعفاء ضد جبروت الأقوياء وتعسُّف ذوي النُّفوذ والسُّلطان.
فكان من حق الرعية والشعب أن يتقدموا إليه مباشرة بظُلاماتهم في أيام معينة أو بمناسبة خروجه، وكان الحاكم يستمع إلى ظُلامات الناس وشكواهم ضد مَن هم أكثر منهم قوة ونفوذًا..، ومثال هذا الحاكمِ يعطيه عندنا القديس لويس وهو يجلس للقضاء تحت أشجار البلوط في فانسين".
غير أن هناك كتَّابًا آخرين أشاروا إلى العادة التي كان يتبعها القديس لويس ملك فرنسا بعد ذكرهم لوقائع مماثلة كان يقومُ بها بعض الأمراء المسلمين في الأندلس، مما قد يوحي بأن هذه العادةَ منقولة عن النظام الإسلامي في إسبانيا، فيذكر ليفي بروفنسال ما يأتي:
"كان يحدث أن بعض الأمراء الأمويين يحرصون على أن يستقبلوا بأنفسهم المتظلمين، وتلك كانت حالة الأمير عبدالله؛ إذ ذكَر ابن عذاري في كتابه: البيان المغرب، الجزء الثامن، في الصفحات 158 - 255: أنه كان يعقد جلسة في يوم من كل أسبوع على باب قصره في مدينة قرطبة؛ ليستمع مباشرة إلى شكاوى المتظلمين، ويفصل فيها، ويذكِّرنا ذلك بطبيعة الحال بالقديس لويس وهو يجلس للقضاء بنفسه تحت شجرة البلوط مرة كل أسبوع في غابة فانسين".
وسواء أكان لويس التاسع قد استوحى هذه العادة من إسبانيا المسلمة، أو من الشرق من مصر والقدس، فإنها عادة جرى عليها الحكَّام المسلمون في قَمْعِ المظالم.
2- هناك دلائل تشير إلى تأثُّر الصليبيين ببعض الأنظمة الإسلامية، ونقلهم إياها عن المسلمين، ومن بين تلك الأنظمة "الحِسبة"؛ فقد طبَّقوها في مملكتهم في بيت المقدس.
فالذي يرجع إلى النظم القضائية لبيت المقدس والمطبقة في مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية يجد في الصفحتين 243، 244 من المجلد الثاني تحت عنوان "وظيفة المحتسب" وصفًا كاملاً وشاملاً لوظيفة المحتسب واختصاصاته، وهي تماثل تمامًا اختصاصاتِ ومَهامِّ المحتسب في الدولة الإسلامية، حتى إنهم احتفظوا له أيضًا بذات الاسم المشتق من الوظيفة، وهي الحِسْبَة.
ومتى ثبَت أن الصليبيين اقتبسوا نظام الحسبة وطبَّقوها في مملكتهم في بيت المقدس، وكذلك في قبرص، فقد ثار التساؤل عما إذا كان مجلس النظر في المظالم من بين تلك النظم التي اقتبسوها هي الأخرى وطبقوها.
إننا لم نجِدْ في مجموعة النُّظم القضائية لبيت المقدس السابقِ الإشارةُ إليها نظامًا متكاملاً للمظالم كما هو الحال بالنسبة للحِسْبة التي وُجدت كاملة، من حيث اسمها كما هي في الإسلام، ومهام المحتسِب، غير أننا وجدنا محكمةً تسمى المحكَمة البرجوازية، وهي محكمة كانت توجد في كل من بيت المقدس وقبرص، وهي تشبِهُ من حيث تشكيلها ديوان المظالم، فيرأَسها الفيكونت، وهو يمثل شخص الملك الذي يُعتبر رئيسَ البلاد، وكذلك كان يرأس ديوانَ المظالم الخليفةُ أو الوالي أو من يعيِّنه الخليفة لذلك، وتتكون المحكمةُ من عدة جماعات، منهم 12 محلفًا أو أكثر حسب مشيئة الملك، ويُختَارُون مِن بين الناس الذين يرعَون الله، ويقومون بواجبهم دون حقد أو سوء نية أو طمع زائل، ويكون من بين أعضاء المحكمة الكاتب، وهو عالم بشؤون الكتابة ومستلزماتها، ومعروف بصفاتِ الإخلاص، والعدل، واليقظة، وقوة الذاكرة.
ويدخل في تشكيل المجلس أيضًا رجلٌ من أهل العلم والمعرفة، اسمه المحتسب، وهو رئيس الشرطة، كما يجب أن يكون تحت تصرُّف المجلس فئةٌ من الأعوان والجند مزوَّدين بالسلاح؛ لتقوم بما تُكلَّف به من مختلف الأعمال وتأتمر بأمر "الفيكونت" رئيس المحكمة.
ومهمة المحلفين هي إعطاء المشورة في الرأي "للفيكونت" في كل شيء يَطلب منهم الرأي فيه، وخصوصًا فيما يتعلَّق بحقوق الله - تعالى - وتنعقد جلسات هذه المحكمة ثلاثة أيام كل أسبوع، هي أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، فهذا التشكيل لهذه المحكمة يماثل تمامًا تشكيل ديوان المظالم برياسة الخليفة أو من يندبه، وحضور:
1- الحماة والأعوان.
2- القضاة والحكام.
3- الفقراء.
4- الكتَّاب.
5- الشهود.
كما كان يعقد جلساته في أيام محددة معروفة كل أسبوع، ويذكر المقريزي أن المحتسب كان دائمًا من بين أعضاء تشكيل الديوان في مصر، وهو ما يؤكِّدُ أن تشكيل المحكمة البرجوازية في بيت المقدس وقبرص كان مماثلاً تمامًا لتشكيل ديوان المظالم في الدول الإسلامية المجاورة؛ مما يجعَلُنا نعتقد أن الصليبيين لم يقتبسوا عن المسلمين نظامَ الحِسْبة فقط، بل وأيضًا بعضَ جوانب ديوان المظالم واختصاصاته.
3- انتقال نظام النظر في المظالم إلى صقلية وأوربا.
ويذكر الدكتور فيليب حتَّى وآخرون في كتابهم "تاريخ العرب - مطول" أن عادة النظر في المظالم اتصلت بأوربا؛ فعمل بها روجار الثاني "1130 - 54" في صقلية؛ حيث ضرَب هذا النظام بجذوره في التربة الأوربية.
كما أكَّد هذه الحقيقةَ المؤرخُ الإيطالي ميشيل آماري في كتابه المعنون بتاريخ مسلمي صقلية والألماني فون كريمير.
تلك كانت بعض الدلالات على تأثُّر الأوربيين بالنظم الإسلامية؛ فقد شاهَدَ لويس التاسع هذه النظم أثناء وجوده في مصر والقدس، ثم طبَّقها بعد عودته في فرنسا، كما طبَّق الصليبيون في مملكتهم في بيت المقدس ومملكتهم في قبرص نظامَ الحِسْبة الإسلامي كاملاً، ونقلوا عن ديوان المظالم تشكيلَه واختصاصاتِه العامة في كافة المنازعات، ثم نقل روجار الثاني عادةَ نظر المظالم وطبَّقها فعلاً في صقلية، وبذلك اتَّصلت هذه العادةُ بأوربا.
المصدر : موقع الألوكة