محمد أفقير
لا يتفق المختصون في علوم التربية على تعريف واحد"للتربية". غير أنهم يجمعون على أنها تتميز عن التعليم بخصائص نوعية وجوهرية ، فهي تُعنى بالجانب السلوكي والحركي والفكري والوجداني والروحي للفرد ، وبهذا يكون مقصد التربية شاملا للظاهر والباطن, فهي تراعي مطالب الروح والجسد, أي إن التربية تهتم بإعداد جسم الإنسان وعقله وروحه, ليحيى حياة طيبة, تنسجم مع سنن الله في الكون والحياة.
أما التعليم, فيعني أن يوصل المعلِّم العلْم والمعرفة إلى المتعلم, بالمنهج المناسب في الزمان والمكان المحددين. وقد تختلف المناهج والبرامج, ويختلف الزمان ويختلف المكان, وتبقى الغاية هي تحصيل المعرفة.
وبناء على هذا يكون مفهوم التّربية أشمل مقارنة مع مفهوم التَّعليم. دون أن يعني ذلك انفصالا بين المكونين. إذ يكون التّعليم في غالب الأحيان وسيلة من وسائل التربية, وليس دائما بطبيعة الحال. فالأمي ,مثلا, له نصيبه من التّربية. فهو يربّي أبناءه دون أن يكون قارئا ولا كاتبا, ودون أن يتلقّى تعليما في المدارس, كما كان حال العرب في الجاهلية ، تربّوْا على قيم محمودة, منها الكرم والجود, والشجاعة والشهامة, والنجدة ومساعدة الأرملة واليتيم, وغيرها من فضائل الأخلاق, وملكة اللغة والأدب والشعر، إلى أن جاء الإسلام وحافظ على كل القيم الإيجابية وبنى عليها غيرها من الآداب وأصّلها تأصيلا شرعيا, ودعا إلى تعلم القراءة والكتابة, وتحصيل العلم ، فزاد المسلم على "الجاهلي" بنصيب من العلم الشرعي, وبالعمل وَفْق مقتضيات هذا العلم، فصحَّ فيه نعت "العالِم العامِل".
فالتربية بهذا المعنى تأخذ معنى الثقافة, أي ماهو مكتسب من المحيط بطريقة من الطرق التقليدية أو الحديثة. بينما التعليم فيه معنى العلم بالقراءة, والكتابة, والتّلقين, والتّلقي.
صحيح أن المدارس الرسمية لم تظهر حتى حوالي القرن 5هـ/11م، والبحث عن التربية والتعليم قبل ذلك التاريخ هو بحث في طلب العلم وحُكْمه وآدابه وأحوال العلماء والمتعلّمين، لا في نظام محدد من نظم التربية والتعليم أو مناهج بعينها, تصدر عن الدولة أو الوزارة أو مؤسسة مختصة.
لم تكن للدولة قبل ذلك العصر مدارس نظامية, ولم تكن لها وزارة أو ديوان ينظم شؤون التربية والتعليم, وقد كان لها دواوين تنظم باقي قطاعات الدولة كالقضاء والجند والشرطة والخزائن والرواتب والأحباس والخراج، إنما نشأ العلم حرًّا في بيوتات العلماء والشيوخ والمربّين، وإن هذا لشرف يذكر للمسلمين. فالناظر في التّراث يندهش أمام عظمته وضخامة إنتاجه، ويزيد اندهاشه إذا علم أن ما بلغه العلماء المسلمون من تفرّد في النُّبوغ, لم تكن وراءه سلطة الدّولة, أو نظام الوزارة. نعم, قد نجد من الخلفاء من بذل المال للعلماء والأدباء والشعراء بسخاء, وشجّع على الكتابة, أو طلب من أحدهم أن يكتب رسالة في موضوع معيَّن, إلاَّ أن ذلك ظلّ خاصّا ومحدودا، وغالبا ما كانت تمليه ظروف السّياسة, أو حسابات المذهب, أو من باب التبرع والتطوع والنّافلة.
بعد هذا التوضيح نتساءل: متى بدأت العلاقة بين التربية والتعليم تتبلور في تاريخ الإسلام؟ وهل نستطيع أن نتحدث عن التربية والتعليم في فجر الإسلام؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال, نحاول الرّجوع إلى مرحلة "ما قبل الإسلام". وننظر هل عرف العرب في الجاهلية شكلا من أشكال التّربية والتعليم؟
فالتّربية في الجاهليّة (قبل ظهور الإسلام), كانت تتم بالفطرة والقدوة والتّلقين، ولا أدلّ على هذا, الزّعم, من الشّعر العربي, الذي ينبئ على نفوس مرهفة, وعقول ثاقبة مجرِّبة، وتخبرنا عنه, كذلك, قّصصهم وأيّامهم (الحروب التي كانت بين العرب), وأخلاقهم.
الناس في الجاهلية صنفين: بدوٌ وحضرٌ, وينتج عن هذا التقسيم الجغرافي, اختلاف في طرق العيش, والأحوال الاجتماعية, ومنها التعليم. وهذا ما يجعل المفارقة, على هذا المستوى, قائمة بين سكان البادية وسكان الحضر. وبناء على هذا يزعم ظافر عاقل أن "الطفل البدوي[في الجاهلية]...يعلّمه أبواه الصّناعات البسيطة التي يحتاجها, ويدربانه على الدّفاع عن نفسه, كما تطبعه القبيلة بطابعها...أما الطفل الحضري فقد كان يخضع لعملية تربوية أرقى. يدرّس في "مدارس" ابتدائية وعاليّة, فيتعلّم القراءة والكتابة, والحساب وشيئا من الهندسة, والفلك والطب, والأدب والتاريخ" (1).
ولكننا لا نجده يقدم دليلا علميا أو مستندا تاريخيّا, على هذا الزعم, يمكننا البناء عليه, لهذا فنحن نتحفظ على هذا القول, لأن البحث التاريخي يستند إلى الدليل.
تذكر المصادر التاريخية الأوّلية, وجود التعليم عند اليهود, وقد اشتهر عندهم مدرسة كانت تسمى "المدراس" (2) وكذلك المسيحيون, وقد كانوا يقرؤون "كتابهم المقدّس". نعم, لقد وصلنا شئ عن أهل الكتاب يخص درايتهم بالكتابة والقراءة. ولكن كان تأثيرهم في العرب محدودا. كما وصلنا عن الحنفاء, خبر تعلمهم. والحنفاء هم أناس كانوا على دين إبراهيم الخليل, في عصر الجاهلية ، ولم يكونوا يعبدون الأصنام. فمنهم من أدركته "النبوة" فأسلم الوجه لله. ومنهم من قضى نحبه قبل ذلك، ولكن تأثيرهم ظل محدودا للغاية لعدم وجود "مدارس" تشرف عليها جهة رسميّة تنشر العلم والمعرفة, أو تسنّ أنظمة تربويّة للتحصيل والمعرفة! ويثبت علم الآثار والنقوش وجود الخط والكتابة في هذه العصر, كما تدل العمارة التي خلدها التاريخ على وجود علم الحساب والهندسة.
ويمكن القول: إن عملية التعليم والتربية, لم تكن مقّنّنة كما هو عليه الحال اليوم. إنما كانت في غاية البساطة. ركناها الأساسيان "المعلّم والمتعلّم", أو "المربِّي والمريد, كما يمكننا القول: بأنه لا يمكن, بحال من الأحوال, مقارنة "المدرسة" اليوم بالمدرسة آنذاك.
ومن المفارقات العجيبة بين الأمس الخالي من أنظمة التدريس ووزارات التّعليم, وبين الحاضر المتخَم بتجارب الأمم في حقل "التربية" و"التعليم". أن رسوخ الثّقافة العربية: عادات العرب, وتقاليدهم, وأخلاقهم. كانت شديدة الرُّسوخ في النفوس جيلا بعد جيل. ومن المفارقات, أيضا, أنَّ العربي الحرّ, رغم غياب المؤسسات التّعليمية, كان راسخ الأخلاق, قويّ البنية, شديد الشّكيمة. عزيز النّفس. وفي السّياق ذاته يقول حسن إبراهيم حسن: "لم يحُل عدم انتشار التّعليم في بلاد العرب في الجاهلية, دون قيام نهضة أدبية في خلال ذلك العصر. وليس أدل على تلك النهضة من ازدهار الشعر الذي يكون صورة صادقة للخُلق القومي" (3) .
من هنا نفهم, أن الجاهلية التي تُلصق بعصر ما قبل الإسلام, لا يقصد بها الجهل بالكتابة والقراءة، إنما المقصود بها "الجهل بالله", وانطماس "التّوحيد". لغياب المرشد والهادي إلى الحق جلّ وعلا, وهو النّبيّ المرسل. ولهذا لمّا انبثقت دعوة الإسلام. ونزل الوحي, وأشرق النّبي بنور طَلعته البهيّة, أشرق معه العلم من جزيرة العرب, وحث عليه ومزجه بالتّربية.
ظهر النبي محمدصلى الله عليه وسلم وظهرت معه دعوة الحق. فرفع شأن العلم, وتولّى مَهمة التربية في جميع نواحيها، التربية البدنية, والعقلية, والروحية. فحثّ على تقويّة الجسم بالرياضة, والنّظافة, والغذاء, والعمل الصالح, واجتناب كل ما يضر بالصّحة، وحث على التّفكّر والنّفاذ إلى حقائق الأمور، وإلى معرفة الله بأسمائه وصفاته. وتطهير القلب والرّوح بالذكر. وبالقرآن الكريم, والدعاء, والتقوى, وتطهير النفس من الرذائل, وتزكيتها بفضائل الأخلاق.
والدّليل على تلازم التّربية والتّعليم في عصر النّبوّة. ما تذكرهُ الكتب المصدريّة من حث الحبيب المصطفى على التّعلم. والتأدّب بآداب الإيمان, وتزكيّة النّفس التزكية المحمودة. أخرج بن عساكر في "تاريخ دمشق": "عن ابن ثعلبة قال: لقيت رسول الله ص فقلت: يا رسول الله ادفعني إلى رجل حسن التعليم, فدفعني إلى أبي عبيدة بن الجراح, ثم قال: "دفعتك إلى رجل يُحسِن تعليمك وأدبك" (4).
كذلك كان التعليم والتعلم أمرًا تطوّعيا. ولم يذكَر أنّه كان مقنّنا بقرارات وزارية أو مذكرات نيابيّة. إنما كان الأمر على شاكلة النّظام الإسلامي العام, الّذي كان في حدود بساطة الدّولة النّاشئة ذاتها. فقد كان الحافز الوحيد (والفعّال في آن واحد) هي أوامر الرّسولصلى الله عليه وسلم وتوجيهاته المباركة, للنهوض بالعلم والتربية. عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقِّهون جيرانهم,[ولا يعلِّمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم, وما بال أقوام لا يتعلَّمون من جيرانهم] ولا يتفقّهون, ولا يتّعظون" (4) .
هذه الدعوة من النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعليم والتعلم, تدخل ضمن التصرفات النبوية الخاصة بتدبير شؤون الدولة, فهو يخاطِب الصّحابة بصفته رئيس دولة إلى جانب كونه نبيّا مرسَلا. وبهذا يكون صاحب الوسيلة والفضيلة قد أصّل لمهمّة من مهام الخليفة الواجبة, ووظيفة من وظائفه ذات الأولوية. وحسم الإشكال المعرفي الذي كان موضوع المناقشة في كثير من المجتمعات: "هل التعليم واجب على الدَّولة وإلزام على الفرد أم أنّه هِبَة من الدّولة واختيارٌ للفرد؟" (6) .
كان نور الأكوان صلى الله عليه وسلم المشرف المباشر على توجيه التربية والتعليم, والمرشد الخبير في المناهج الربّانية (المُلقَّنَة), أو على الأصح المنهاج الرباني المتّبع, لأن الإسلام في حقيقته سلوك تربويّ نحو معرفة الله, ونحو المعرفة الشّاملة لأمور الدّين والدّنيا. وإذا صح القول: كانت البرامج المُدَرَّسَة, في "مدرسة النبوّة" هي القرآن الكريم والسّنة النبوية, كأنما يمثّلان, كليهما (القران والسنة) : الجانب النظري والجانب التطبيقي. لأن السنّة النبويّة هي التجسيد العملي للقرآن الكريم.
ومن نتائج هذا الإشراف المباشر "للمرشد الهاديصلى الله عليه وسلم": انتشار العلم (القراءة والكتابة). وترسّخ التربية النبوية في الوِجدان, بشكل لم يشهد التّاريخ مثله, فنبغ من الصّحابة عددٌ كبير, وصار كلٌّ منهم يشكل "مدرسة" بذاته. وجاء في التّراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني ذكر لأبرز المعلمين والمؤدبين الصحابة. وهم: "أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وسعد وابن مسعود وحذيفة وسالم مولى أبي حذيفة, وأبو هريرة وابن عمر وابن عباس وعمرو بن العاص وابنه عبد الله, ومعاوية وابن الزبير وعبد الله بن السائب وعائشة وحفصة وأبو سلمة[ وهؤلاء كلُّهم من المهاجرين], ومن الأنصار أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو الدرداء, وأبو زيد ومجمع بن حارثة وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين" (7) .
بكلمة, نستطيع أن نقول: إن النواة الأولى للتربية بدأت بمكة المكرمة ، أما التعليم , فبدأت نواته بالمدينة المنورة, وبإشراف مباشر من الرءوف الرحيم صلى الله عليه وسلم. والدّليل ,على هذا, مبثوث في كتب السّيرة والتّاريخ والمتون ، ومنه ما ورد في الاستيعاب عن "أمر رسول الله [لعبد الله بن سعيد بن العاص] أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة وكان كاتبا محسنا" (8) . وما جاء في "الرّوض الأنُف" للسّهيلي, عن التدبير التربوي الحكيم ل"المعلم الأولصلى الله عليه وسلم", والتصرف السياسي الفريد, والتعامل الإنساني الرحيم, والتواصل الحضاري المثالي يوم بدر. فقد "كان من الأسارى يوم بدر من يكتب, ولم يكن من الأنصار يومئذ أحد يحسن الكتابة, فكان منهم من لا مال له, فيقبل منه أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة ويخلي سبيله, فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت في جماعة من غلمان الأنصار" (9) .
في الختام, نذكِّر بأن البحث في "التّربية والتّعليم" في تاريخ الإسلام. له صلّة وثيقة بانبثاق النبوّة, ونزول الوحي وانتشار "الدعوة". فالدعوة الإسلامية كانت الباعث الرئيس "للتربية" و"التعليم" في تاريخ المسلمين. وقد ظلت "التربية " في المقام الأول لشمولها لجوانب الحياة الدينية والدنيوية, البدنية والعقلية والوجدانية, ولارتباطها بالطبيعة الإنسانية. ثم بعد ذلك يأتي "التعليم" الذي كان يمارس في شكله التقليدي الحرّ, في المسجد, وقد كان المسجد أول مدرسة وأكبر معهد. أما نظام "المدرسة" بشكله المتقدّم فقد ظهرَ في وقت لاحق.
(ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (البقرة: 199)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1ـ ظافر عاقل. التربية قديمها وحديثها. ط3. دار العلم للملايين. بيروت- لبنان. 1981.
2 - ابن هشام. السيرة النبوية. ج1. ص552.
3 ـ - حسن إبراهيم حسن. تاريخ الإسلام: السياسي. الديني. الثقافي. الاجتماعي. 4 أجزاء. ط15. مكتبة النهضة المصرية. القاهرة. 2001. ج1. ص59.
4 - ابن عساكر. تاريخ دمشق. نقلا عن: عبد الحي الكتاني. التراتيب الإدارية. ص124.
5 ـ مجمع الزوائد. ج1. ص167. نقلا عن: عبد الحي الكتاني. التراتيب الإدارية. ص124- 125.
6 - أحمد زكي صالح. علم النفس التربوي. ص6.
7 - التراتيب الإدارية. ص130.
8 - ابن عبد البر. الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ج2. ص374.
9 ـ السهيلي. الروض الأنف. ج2. ص92.
المصدر : رابطة أدباء الشام