ولد عبد الرحمن بن خلدون في تونس ( إفريقية) سنة 1332 م وتوفي سنة 1406م .

وقد ولد في فترة سقطت فيها الدولة الموحدية في المغرب والأندلس ، وحوصر خلالها المسلمون في غرناطة ، وانقسم الغرب الإسلامي إلى دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة على رأسها دولة بني مرين في المغرب الأقصى ، ودولة بني عبد الواد بالمغرب الأوسط ، والدولة الحفصية في تونس ، وأصبحت كل دويلة عدوة لجارتها .

لقد ولد عبد الرحمن بن خلدون في فترة الضعف السياسي الإسلامي ، بل ولد في مرحلة بدأت أوربا تتقدم والمسلمون يتراجعون ، لقد ولد في زمن النكسة.

وعندما بلغ سن التعلم بدأ بحفظ القرآن وتجويده ، حسب المنهج الذي كان متبعا آنذاك بالمسجد المعروف بتونس ( مسجد القبة)، درس التفسير ، الحديث ، الفقه المالكي.. التوحيد، المنطق، الفلسفة والرياضيات.

وقد تحدث ابن خلدون عن هذه المرحلة بنفسه في كتابه( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا ).

عندما بلغ سن 17 _ سنة 739 – حدث الطاعون الكبير الذي عم من آسيا إلى الأندلس ، وفيه مات والده وأكثر من كان يأخذ عنهم العلم ، وعكف ابن خلدون على طلب العلم ، حتى استدعاه بعد 3 سنوات الوزير أبو محمد بن فزاكين بتونس لكتابة رسائله الرسمية .

وفي سنة 755 استدعاه السلطان المريني أبو عنان إلى فاس التي أمضى بها 9 سنوات في العمل ضمن الكتاب والموقعين ، وخلال هذه الفترة اتجه إلى القراءة والمطالعة.

سجن سنة 758 لاشتراكه في مؤامرة ضد السلطان المريني ، فقد دبر محاولة لتحرير الأمير عبد الرحمن محمد الحفصي صاحب بجاية المخلوع على أن يجعله حاجبا ، فبلغ المؤامرة لأبي عنان فسجنه .

وبعد خروجه اتجه إلى غرناطة بالأندلس إلى السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن نصر باني مسجد الحمراء بغرناطة ، الذي أوكله بسفارة إلى ملك قشتالة باشبيلية ، وقد كانت سفارة ناجحة أقطعه السلطان أراضي شاسعة، وأعجبته الأندلس فاستقر بها ، واستقدم أبناءه وأهله إليها ،وهيأ لهم جميع أنواع الراحة ، لكن السعادة لم تستمر ، إذ يبدو أن الحساد ضده قد كثروا فهو الغريب وذو الحظوة عند السلطان ، فسعوا بالدسائس حتى حدثت الفجوة بينهما ، فأدرك ابن خلدون أن أيام الأندلس قد باتت قصيرة ، وأن لا مناص من الرحيل.

عاد إلى المغرب وبدا يتقلب في المناصب في كل من المغرب والجزائر وتونس حتى أصبح موضع ريبة وشك من الجميع ، فجاز مرة أخرى إلى الأندلس سنة 766هـ لينزل ضيفا عند السلطان ابن الأحمر ، لكن بلاط فاس وخشية منه منعوا أولاده من الالتحاق به فعاد إلى تلمسان ، واعتزل السياسة نهائيا ولجأ إلى جبل كزول ثم اعتكف بقلعة ابن سلامة بالجزائر ، حيث أقام بها 4 سنوات كتب خلالها كتابه الشهير (المقدمة) المشهور حاليا بمقدمة ابن خلدون.

وفي سنة 780 رجع ابن خلدون إلى تونس ، فكثرت ضده الدسائس والأحقاد ، فتذرع بقضاء فريضة الحج فركب البحر إلى الإسكندرية ، فودع بذلك المغرب والأندلس إلى غير رجعة ، وفي مصر التي مكث فيها 25 سنة من عمره أتم كتابه في التاريخ المسمى ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر ) وأصبح مدرسا بجامع الأزهر ، وتولى منصب القضاء.

وفي مصر فوجع ابن خلدون في أبنائه جميعا ، فقد غرقت السفينة التي قدموا فيها من تونس ، فمات أهله وأولاده ، فعظم المصاب والجزع ، فاعتزل القضاء واتجه للحج وزار بيت المقدس ، والتقى بتيمورلنك في دمشق ، ثم عاد إلى القاهرة ، وتوفي بها غفر الله له في 25 رمضان 808.

كتب ابن خلدون :

لابن خلدون كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم ...ويتكون من مقدمة وثلاث كتب ، المقدمة والكتاب الأول في موضوع العمران يشكلان ما يسمى الآن مقدمة ابن خلدون.

الكتاب الثاني يتناول تاريخ العرب إلى عصر المؤلف.

أما الكتاب الثالث فموضوعه تاريخ البربر وذكر أوليتهم وأجيالهم بالشمال الإفريقي.

وذيل المؤلف هذا الكتاب بخاتمة في سيرته الذاتية تسمى ( التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا).

التاريخ قبل ابن خلدون :

في البداية أشير إلى أنكم جميعا تدرسون مادة التاريخ ، هل تساءلتم يوما عن معنى التاريخ وماهيته ؟

ما هو التاريخ ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تبدو بسيطة لكنها في الحقيقة شديدة التعقيد ، لماذا ؟ لأن التاريخ ليس شيئا ملموسا، بل هو شيء مجرد ، ماض زال وانقضى ، ويستحيل إعادته مرة أخرى ، فالإنسان لا يستطيع أن يسبح في النهر مرتين وفي نفس الماء.

إن المؤرخ يقوم بصناعة الحدث من جديد ، كما يتوهم أنه كان وليس كما كان ، إن الأمر يشبه...

إن التاريخ هو الإعلام بالوقت وما وقع في ذلك الوقت من حوادث وأخبار.

والتاريخ بهذا المعنى قديم ، فحين هبط آدم وحواء إلى ظهر كوكب الأرض ، وأصبح لهما ذرية أخذ آدم يقص على أبنائه مما علمه الله.

وأخذ هؤلاء يحتفظون بهذه الأخبار في ذاكرتهم لينقلوها إلى أبنائهم وأحفادهم جيلا بعد جيل ، ثم توالت الأزمان ، وبدأ الإنسان يتعلم الكتابة ، ويسجل على الجدران والعظام والجلود والألواح ، فبدأت الإنسانية مرحلة جديدة سميت مرحلة التاريخ ، أما المراحل السابقة فكانت تسمى عصور ما قبل التاريخ.

من هو المؤرخ؟

هناك أولا المؤرخ الذي عاش الأحداث بنفسه ودونها ، وهناك المؤرخ الذي جاء بعد الحدث وكتب عنه.

فالمؤرخ ليس ضروريا أن يعيش الأحداث التي يرويها ، بل يمكنه أن يجاوز العصر الذي يعيش فيه ، ليكتب عن التاريخ الماضي ، كأن يكتب مؤرخ في القرن العشرين تاريخ مصر الفرعونية ، وهنا المؤرخ يروي أحداثا لم يعشها أصلا ، وإنما يقوم بجمع المعلومات والوثائق والمخطوطات ويصنفها ، ويبدو في هذه الطريقة أسلوب المؤرخ في عرض الوقائع .

لذلك وجب أن تتوفر في المؤرخ الثقافة الواسعة والاطلاع الكبير.

وقد برز من العرب مؤرخون كثيرون حتى قبل الإسلام ، فقد كان الاهتمام شديدا خصوصا بعلم الأنساب وحفظ الشجرات .

ثم جاء الوحي القرآني الذي ضم آيات بينات تذكر قصص الأولين من الأمم ، وتدعو إلى دراسة أحوالهم والتفكير فيها وأخذ العبرة منها ..

وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واتساع رقعة الإسلام ، ودخول أجناس مختلفة في الدين الجديد ، تعدد الإنتاج الفكري الهائل في التاريخ ..

ولعلماء المسلمين صور متعددة للكتابة التاريخية ، كتواريخ البلدان والأقاليم والمدن ، مثلا تاريخ بغداد لأحمد بن أبي طاهر طيفور ، تاريخ الموصل لابن الأثير ، وتاريخ دمشق لابن عساكر ، وزبدة الطلب في تاريخ حلب لابن العديم ..

وهناك كتب تناولت تاريخ العالم , كتاريخ الأمم والملوك للطبري ، ومروج الذهب للمسعودي ، وتاريخ اليعقوبي وغيرها.

وتعدد كتب التاريخ عند العرب بالآلاف ، فقد ألفوا في تاريخ السيرة ، وفي تاريخ الخلفاء ، وفي تاريخ الرجال والمدن والأمصار ، وفي الأنساب ، وفي الرحلات و الغزوات .

لكننا يجب أن نشير إلى أن الكتب التاريخية مليئة بالأخبار الغير الصحيحة ، فهناك من المؤرخين من كان يكتب كل ما يسمع دون أن يتثبت من صحة ما كتب ، فهو ينقل دون تمحيص أو نقد.

التاريخ عند ابن خلدون :

عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا كاملا ذكر فيها الأغلاط والأوهام التي وقع فيها كثير من المؤرخين بسبب الأكاذيب التي افتراها الناس ، وقد دخلت هذه الأكاذيب بسبب التشيع للآراء والمذاهب و الثقة بالناقلين ، الجهل بطبائع العمران، أي عدم عرضها على مقياس العقل والبرهان ، وقد ذكر ابن خلدون في كتابه بعض هذه الأخبار الكاذبة ..

يقول ابن خلدون : "إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها ، وأدوها إلينا كما سمعوها ، يقول الطبري : إنما أدينا ذلك حسب ما أدي إلينا ، فلئن كان فضل المؤرخين القدامى في أمانة النقل وغزارة المادة التي صنعوا منها كتبهم، فإن ابن خلدون قد أضاف إلى ذلك فضلا آخر ، لقد أجرى تحقيقات هامة على تراث أسلافه من المؤرخين ، كابن هشام ، وابن إسحاق والواقدي والبلاذري وابن عبد الحكم والطبري والمسعودي وابن الأثير، فاستبعد بعضها على أنها محض اختلاق غير ممكن الحدوث بسبب طبائع الأشياء وقوانين العمران، وشك في صحة كثير منها على أنه موضع ريبة، وقد بنى هذه التحقيقات على ما قرره في مقدمته بصدد الاجتماع الإنساني، ومناهج البحث العلمي وقواعد التحري التاريخي، فالفيصل الذي يميز الوقائع التاريخية الحقيقية من الدعاوى الكاذبة الجهل بطبائع أحوال العمران، لذلك رمى ابن خلدون في مقدمته من وراء دراسة للظواهر الاجتماعية إلى الكشف عن القوانين التي تخضع لها هذه الظواهر في نشأتها وتطورها، وما يعرض لها من أحوال، فاستنبط قانون "المطابقة للنواميس الاجتماعية.

ج- قانون المطابقة لأحوال العمران عند ابن خلدون :

استنبط ابن خلدون قانون المطابقة للنواميس الاجتماعية ، فوضع بذلك علم العمران، وهو علم مستقل بنفسه، وكان أهم سبب دعا ابن خلدون إلى إنشاء هذا العلم الجديد، حرصه على تخليص الكتب التاريخية من الأخبار الكاذبة ، وإصلاح وتقويم ما وقع من أوهام وأخطاء ، إن تطبيق ابن خلدون لقانون المطابقة جره إلى الكشف عن القوانين الاجتماعية، وذلك لكي يجعل منها بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه معيارا صحيحا ، يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه، فإذا كان أهل الحديث مثلا يركزون جهودهم على النقد الذاتي ، فقد اكتشف ابن خلدون أهمية النقد الباطني، فإذا كانت الشريعة جملة إنشاء فإن التاريخ محض خبر، يحتاج إلى معيار خاص ومنهجية أليقة به ، وبسبب هذا رفض ابن خلدون رفضا قاطعا كل الروايات الغير موافقة لأحوال العمران .

وقد أعطى نماذج من تطبيقه لقانون العمران الذي ابتكره ، وذلك في مقدمة كتابه الأول الذي خص به "علم التاريخ وتحقيق مذهبه، وقد أورد فيه أمثلة لأخبار مستحيلة الحدوث وردت في كتب المؤرخين السابقين ، فهو يرى أن ما أورده المسعودي وغيره من أن جيوش موسى عليه السلام قد بلغت ست مائة ألف مقاتل لا يثبت أمام النقد الباطني لأسباب جغرافية وإستراتيجية.

يقول ابن خلدون : " إن المبالغة في هذا الرقم واضحة جدا ، وان تحديد الجيش بهذا العدد أمر غير معقول ، وان القوانين التي يخضع لها تزايد السكان تحكم بعدم إمكان صحته ، وذلك أن ما بين موسى ويعقوب عليهما السلام هو أربعة آباء ، فموسى هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب .

وقد كان عددهم حين دخلوا مصر في عهد يعقوب 70 نفسا ، كما ذكرت مختلف الروايات ، ومكثوا بها 120 سنة ، فيستحيل في أربعة أجيال أن يكون هذا العدد الضخم يتماشى مع منطق التزايد في النوع البشري.

ماذا تلاحظون ؟ ألا يتماشى كلام ابن خلدون مع المنطق السليم ، فلو تمعن المسعودي وغيره من المؤرخين في هذا العصر ، وعرفوا أن فرعون مصر كان يضطهد بني إسرائيل ، ويذبح أبناءهم ، لعرفوا أنه يستحيل أن يصل هذا العدد إلى أكثر من6 آلاف، والفرق واضح بين 6 آلاف و 600 ألف.

كما اعتبر دخول افريقش المغرب خرافة، وغزوات التبابعة ملوك اليمن لبلاد المغرب من الأخبار الواهية ، يفندها بأدلة عقلية وجغرافية وسياسية ، يقول ابن خلدون : " ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة من أخبار التتابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب " وأنهم هم من سموهم البربر لرطانتهم " وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة ، عريقة في الوهم و الغلط أشبه بحديث القصص الموضوعة ، وذلك أن ملوك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب ، وقرارهم وكراسيهم بصنعاء باليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، بحر الهند من الجنوب ، وبحر فارس الهابط من البصرة من المشرق، وبحر السويس (يقصد البحر الأحمر) الهابط منه إلى السويس من أعمال مصر من جهة المغرب ، كما تراه في مصور الجغرافيا.

ولا شك أن هذه الرواية تحمل في طياتها ما يهدمها من أساسها ، وأن اليمن بعيدة عن المغرب ، ويستحيل في تلك الفترة وبالوسائل المتوفرة أن يقطع جيش تلك المسافة دون أن يهلك ، ومن الأخبار المستحيلة عند ابن خلدون ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزرزور الذي تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ، ومنه يتخذون زيتهم (..) أمثال ذلك كثير وتمحيصه ، إنما هو بمعرفة طبائع العمران ، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار ، وتمييز صدقها من كذبها.

ثم يضيف ابن خلدون أمثلة كثيرة منها قصة مدينة إرم ذات العماد، ، يقول : " واعرق في الوهم ما ورد في شان إرم ذات العماد ، تلك المدينة المزعومة التي لم يقع لها أحد على أثر"

فقد تناقل المفسرون في تفسير سورة " الفجر " في قوله تعالى : " إرم ذات العماد" فيجعلون إرم اسما لمدينة وصفت بأنها ذات أساطين .

وقد روي أن شداد بن عاد ملك الدنيا ، ودانت له ملوكها ، فسمع بذكر الجنة ، فقال ابني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في 300 سنة ، وكان عمره 900 سنة ، وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت ، وفيها أصناف من الأشجار والأنهار ، ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه صيحة فماتوا ، وعن عبد الله بن قلابة إنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها ، فحمل ما قدر عليه ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله فقال هي ارم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير ، على حاجبه خالة يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر بن قلابة ، وقال : هذا والله ذاك الرجل.

د- التعاقب الدوري عند ابن خلدون :

يعد ابن خلدون مبتدع نظرية التعاقب الدوري للدول في تاريخ الفكر الإنساني من حيث بعدها الاجتماعي والفلسفي العام، وقد توصل إلى الاقتناع بفكرة التعاقب في الحضارة(الدولة عنده) وقارن في دائرية التغيير بين الإنسان والمجتمع.

فللمجتمع في نظره عمر يمر به كعمر المرء الذي يولد، ثم يكتمل نموه، ثم يهرم فيموت، وعلى هذا الأساس تمر الدولة بالمراحل التالية بداوة ـ ازدهار ـ تدهور.

إن الدولة كانت المحور الأساسي الذي تدور حوله أبحاث ابن خلدون ونظرياته، إذ قاسها قياسا تاما على عمر الفرد ومراحل تطوره، وجعل للدولة أعمارا كما للأشخاص، وهي النظرية التي تمثل جوهر فكره في الدورة العضوية للدولة ، يقول ابن خلدون في المقدمة : إن "الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص، ويرى أنها " لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال ، والجيل هو عمر شخص من العمر الوسط ، فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته" قال الله تعالى : " حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة" سورة " الأحقاف " : الآية 16.

كانت المسالة الأساسية التي شغلت ابن خلدون(..) هي كيف تنشأ الدول ؟ وما هي عوامل ازدهارها ؟ وما أسباب هرمها؟.

إن حركة التاريخ عند ابن خلدون هو حركة انتقال مستمرة من البداوة إلي الحضارة على شكل دورة (..) وهذا الانتقال يتم عبر الدولة على خمس مراحل (..) في المرحلة الأولى تنشا الدولة على أنقاض دولة سابقة لها .

المرحلة الثانية ينفرد صاحب السلطان بالحكم بعد أن يكون قد تخلص ممن اشتركوا معه في تأسيس الدولة (الثورة تقتل أصحابها ) وتتميز هذه الفترة بالبطش والجبروت .

وفي المرحلة الثالثة تسود الراحة والطمأنينة، وتزدهر الدولة سمى ابن خلدون هذا بطور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك والتمتع بملذات الدنيا ، مما تنزع إليه طباع البشر من تخليد الأثر وتحصيل المال والإسراف في الشهوات.

وفي المرحلة الرابعة تتحول الراحة والطمأنينة إلى قناعة وسكون ومسالمة، ويكون صاحب الدولة في هذا مقتنعا بما حقق سابقوه وما أنجزوه من أعمال ، فيتتبع آثارهم حذو النعل بالنعل .

وتأتي المرحلة الخامسة تتمة للمرحلة السابقة ونتيجة لها، حيث تفقد الدولة هيبتها فتتحلل وتزول ، طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة مخربا لما كان سلفه يؤسسون، وهادما لما كانوا يبنون، وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعية الهرم ، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تتخلص منه.

فإذا كانت الدولة تمر بأطوار خمسة، فإنها لا تعدو ثلاثة أجيال، جيل البداوة ، وجيل الحضارة ، وجيل الترف الذي تسقط في عهده الدولة.

الجيل الأول : وهو جيل البداوة ، يتميز السكان فيه بخشونة وشظف العيش والبسالة والافتراس والتماسك والاشتراك في المجد ، فلا تزال بذلك صورة العصبية محفوظة فيهم ، والبدو هم المقتصرون على الضروري من العيش في أحوالهم العاجزون عما فوقه ، ولكن البدو سرعان ما يتطورون إذ يتحول حالهم من البداوة إلى الحضارة والعمران بفعل الملك مع الجيل الثاني، والحضارة إنما هي تفنن في الترف والملذات وأحكام الصنائع المستعملة، وبناء القصور والاستمتاع بأحوال الدنيا، وإيثار الراحة على المتاعب، ولذلك يقول ابن خلدون : "إن من طبيعة الملك الدعة والسكون والترف الذي هو غاية الحضارة، وهو يزيد الدولة في بدايتها قوة، إذ تتباهى المجتمعات المتحضرة به ، ولكنه أيضا هو العلة الأساسية لبداية الانحلال في الدولة ، وهو المؤذن بخراب العمران .

فالحضارة تفسد طباع البداوة ، إذ يتجه أصحاب الدولة إلى الإسراف في التنعم ، ويزهدون في العمل ، ويركنون إلى الدعة والسكون ، ويخلدون إلى الراحة والشراب ، ويكثرون من النساء ومعاقرة الخمر ، فتزول هيبة السلطة من النفوس ، وتكثر القلاقل والفتن، وتظهر المعارضة ، ويتقوى الأعداء فيفلت زمام الأمور، وتبدأ الدولة في السقوط فتظهر جماعة أخرى من البدو تسعى إلى الملك والريادة فتحل محلهم .

فالترف مظهر الحضارة، وهو هادمها أيضا ، وهو غاية العمران ، ولكنه مؤذن بنهايته أيضا، فالحضارة غاية العمران ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده.

وتتجلى آثار الحضارة المفسدة للعمران في حياة البذخ والترف، إذ سرعان ما ينسى سكان الجيل الثالث عهد الخشونة والبداوة ، فيفقدون بذلك حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته ، فتفسد أخلاقهم وطباعهم ، فينقلب التناصر إلى تنافر، والتعاضد إلى تخاذل ، والكفاح المشترك من أجل المصلحة المشتركة ، إلى نزاع وصراع من أجل مكاسب شخصية ومصالح خاصة، فيظهر الظلم إلى جانب الترف، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران وسقوط الدولة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في سورة " الإسراء " : الآية 16 " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا" .

خلاصة القول : إن الحضارة عند ابن خلدون طور طبيعي (..) فالتمدن غاية البداوة(..) ولكن البدو عندما يتطورون في أساليب العيش(..) ويتقدمون في الصنائع ، فإنهم ينتهون إلى الفناء، لأن الحضارة تحمل في طياتها بذور الفساد ، فتهرم الدولة وتسقط، والهرم عند ابن خلدون مسالة طبيعية في الدولة ، إذ يقول : "وهو من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواءها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي ، والأمور الطبيعية لا تتبدل".

وهكذا تفسح الدولة المنهارة المجال لقيام دولة جديدة تمر بنفس الأطوار والمراحل.

المصدر : موقع التاريخ