هارون المهدي ميغا(*)


وُجدت مفاهيم خاطئة كثيرة عن تاريخ الإسلام وأثره في هذا الجزء من أفريقيا دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وحضاريّاً، وهي مفاهيم لها دوافع مختلفة، وجوانب عدة أتتْ من قِبَل بعض المثقفين الغربيين وأبناء المنطقة وغيرهم من الذين تأثروا بأولئك، وبخاصة المتغربين منهم واللادينيين والمسيحيين، وكذلك دعاة الزنجيّة، وبعض علماء الآثار الأفريقيين، والقوميّين العرب.
وفي هذه العجالة سوف نقتصر على الجانب التشويهيّ المتعمد لتاريخ الإسلام وحضارة المسلمين في المنطقة، فنعرض أهمّ مظاهره، وأبرز الدوافع إليه من باب التمثيل لا الحصر.
إنّ «صورة انتشار الإسلام عامّة قد شُوِّهتْ من قِبَل كثير من الدارسين، فأُبرزت السلبيات (بل بولغ فيها)، وطمست الإيجابيات؛ ولهذا لا بدّ من إبراز أسباب التشويه ومعالجتها، وإعادة رسم صورته على ضوء مفاهيم وتصوُّرات أكثر استقامة وعدلاً»(1)، وبخاصة في ضوء المستجدّات العلميّة والبحثيّة المتعلّقة بتاريخ المنطقة وحضارتها، وأثر الإسلام البارز فيهما، وكذلك حاجة بعض المصادر الأفريقية التي تناولت هذا التاريخ إلى إعادة فحص ومقارنة وتحقيق علميّ؛ بسبب كون المطبوع منها من نسخة وحيدة ليست الأصلية.
أضف أنّ النسخة الأصليّة أو الجيّدة من هذه المصادر الأفريقية ربما وقعت في أيدٍ لا تقرّ عين أصحابها بظهور الحقائق التي قد تكون ـ كما يرى بعض أولئك ـ في صالح شعوب يكنّ لها العداوة، أو يحاول جحد جهودها، أو إخفاءها في تاريخ الإسلام وحضارته بالمنطقة، ويبذل قصارى جهده. حدثني الأخ الزميل د. فاي منصور في عام 1991م بأنه في أيام إعداده لرسالة الماجستير في التايخ والحضارة عن «مملكة مالي» سافر إلى فرنسا لزيارة مركز وطني فيه الكثير من المخطوطات باللغة العربية تتعلق بغرب أفريقيا، فكانت المسؤولة تُطلعه عليها، وتُترجم له بعض المعلومات إلى الفرنسية، فما أنْ علمتْ بإجادته للغة العربية حتى حالت دون اطلاعه عليها مُكتفيةً بالترجمة له.
ويقول أحمد الشكري: «عند لقائنا في الرباط 2 أبريل 1990م بالمؤرّخ الماليّ محمود الزبير ـ مدير معهد أحمد بابا للدراسات والبحوث، تنبكو ـ عبّرنا له عن هذا الموقف (كون العديد من الروايات التي يطرحها تاريخ الفتّاش ليست لصاحب التأليف الأصليّ)، فشاطرنا الرأي، وأكّد لي توفُّر نسخة أخرى مخطوطة من تاريخ الفتّاش، تختلف عن تلك المنشورة، وأنّه يعمل بصحبة أحد فقهاء مالي على تحقيقها»(1). فكم مضى على هذا العمل لو كانا ـ حقاً ـ بصدد إخراجه؟!
ومن مظاهر هذا الجانب التشويهيّ: الزعم بأنّ المنطقة لم تعرف الحضارة إلاّ بعد مجيء الاستعمار، بل وصل الأمر ببعضهم إلى إنكار وجود أيّة صلة ثقافية بين أفريقيا جنوب الصحراء وبين شمالها متجاهلاً ما تجمع عليه المصادر العربية والأفريقية وتؤكده من ازدهار القوافل التجاريّة بين شرق وشمال القارة وغربها قبل الإسلام. تلك المصادر القديمة التي تُعَدّ أبرز المصادر الأساس في تاريخ المنطقة؛ بسبب ما تحويه من معلومات مصدرها زيارات شخصيّة للمنطقة، أو أجوبة علمائها وملوكها الذين شرّقوا عن أسئلة تتعلق بها، أو لوفود الحجّ ونحوهم، أو ما تناقلته القوافل التجاريّة والجاليات التي عاشت فيها. يؤيدها كثير من الروايات الشفوية التي دُوِّنتْ أخيراً، أو التي لا تزال تروى من النسّابين الشعبيين، أو تتناقلها الأُسر جيلاً عن جيلٍ.
من أسباب ذلك التشويه ودوافعه: الخلط بين قبول الناس أفراداً للإسلام وبين اعتناق الملوك له، ومن ثمّ عدّ ممالكهم من دار الإسلام، ثم الخلط بينهما من جهة وبين قيام الحركات الإصلاحية الداخلية والخارجية (الجهاد)، وقد يحكم أولئك على المسلمين بما يحكم به على ملوكهم الذين لَـمّـا يسلموا(2)؛ فكان نتيجة هذا الخلط تشويه المفاهيم «حتى إنّ قضيّة انتشار الإسلام في غرب أفريقيا لا تجدها تدرَّس إلاّ في إطار السلطة الغالبة، والقوّة الظاهرة، وبها ومعها؛ فحسب هذه المفاهيم يبسط الإسلام سلطانه، وتذاع في الناس تعاليمه، وتنتشر بينهم راياته إذا كانت له دولة ترعاه، وفي غياب مثل هذه الدولة يغدو النكوث عن الإسلام إلى الديانات التقليديّة هو البديل الماثل، وفي أحسن الفروض تكون المزاوجة بين الإسلام وتلك الديانات هي الطريق إلى تخليط يُبقي من الإسلام اسمه، ويمحو معالمه وأثره»(3).
فليس من الصواب ما قاله د. زبادية: «وتتفق الروايات على أنّ إسلام مكان ما كان يتمّ حين يعلن الأمير، أو رئيس القبيلة، أو النبيل في عشيرته إسلامه فيتبعه جميع أفراد رعيّته»(4).
فكم من ملك أسلَم شعبه وهو لـمّا يسلِم؛ كما في حال غانا مع وجود عدد كبير من المسلمين والمساجد والوزراء في عاصمتها، بل نصف المدينة كان خاصاً بالمسلمين، وكمدينة «جنّي» التي حشد ملكها عدداً كبيراً جدّاً من العلماء ليعلن إسلامه بين أيديهم(5).
وكم ملكٍ أسلم دون شعبه؛ وكم ملكٍ كان يتردد في اعتناق الإسلام خوفاً من شعبه الذي لـمّا يسلم، أو لا يعلن ذلك حتى يضمن انقيادهم(6)؟ كلّ ذلك لا يتعارض أو يقلل من أهميّة إسلام الملك وما يزيده من قوّة الانتشار وخوف الجانب.
لنأخذ مثالاً على ما تقدّم قصّة دخول الإسلام إلى مملكة مالي؛ فبعض الدارسين يرون أنّ الإسلام انتشر في هذه المملكة على يد الخوارج الإباضيّة التي كانت لها دولة في فزّان وغدامس وبعض واحات الجزائر منذ القرن الثامن الميلادي. وإليك بعض الأدلّة على عدم صحتها وبيان ما فيها من الخلط المذكور، فأقول:
1 ـ تأكّد بما لا يدع مجالاً للشك انتشارُ الإسلام في الغرب الأفريقي قبل التاريخ المذكور لهذه القصة (القرن السادس الهجري/ الحادي عشر الميلادي).
2 ـ هذه القصة نفسها تؤيد الخلط بين بداءة وصول الإسلام إلى هذه المملكة وغيرها وإسلام شعب، أو أفراد منه وبين إسلام الملوك، ومن ثمّ عدّ ممالكهم إسلاميّة؛ فقد كان انتشار الإسلام بين (الماندينغ) متقدِّماً على إعادة تأسيس المملكة على يد ماري جاطة (سوندياتا كيتا 628 ـ 652هـ ـ 1230 ـ 1255م)، وكذلك كان متقدماً على تاريخ وصول هذا الذي يُزعم إسلام ملك مالي على يديه إلى المنطقة 575هـ ـ 1179م. فالبكري أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز بن محمد (ت 487هـ ـ 1094م) يذكر أنّ هذا الضــيف كان عند الملك يقرأ القرآن، ويعلِّم السنّة(1)، فما هي السنّة التــي كــان يعلمـها غير سنّة الرسول #؟ ولمن كان يعلّمها إذا لم يكونوا من حاشية الملك الذين أسلموا، ولـمّا يسلم هو؟ أَلا يحتمل أن يكون الملك من الفئة التي قد تخفي إسلامها لعدم إسلام معظم الشعب بدليل قبوله تعليم القرآن والسنّة في مجلسه وبحضوره؟
3 ـ ليس بصحيح ما نقله بعض المؤرخين (أحمد بن سعيد بن عبد الواحد الشمّاخي ت 928هـ ـ 1522م، وكان من علماء الإباضيّة في المغرب) وغيره من أنّ بلاد السودان الغربي وإمبراطوريّة غانا كانت تدين بالإباضيّة قبل أن يقصدها مخالفوها لردّ أهلها عن مذهبهم الإباضيّ(2)؛ لأنّ الثابت أن الذين نقلوا الإسلام إلى المنطقة منذ القرن الأوّل الهجري لم يكونوا إباضيين، كما لم يكونوا صوفيين. فمن أين كان لها الأسبقيّة المزعومة؟ وكيف؟.
4 ـ تناقض الروايات في تحديد بداءة علاقة الإباضيّة تجاراً وفقهاء بغرب أفريقيا بين القرن الثامن، أو التاسع، أو العاشر الميلاديّة(3). وتناقضها ـ أيضاًً ـ في المملكة التي أسلم ملكها في القصة أهي مالي أم غانا؛ فعند البكري أنّها مالي من غير أن يقول إنّ الضيف إباضيّ، بل ذكر أنّه ضيف من المسلمين، فإذا انضم إلى هذا كُون البكري من مصادر الشمّاخي الذي زعم إباضيّته(4)، وتعليمُ هذا الشيخ للسنّة، ودعوةُ الملك إلى الاعتقاد بشرائع الإسلام كلّها من غير إشارة إلى الإباضيّة تبين أنّ هذا الضيف على مذهب السلف لا الخوارج الإباضيّة، وتأكُّدُ دخول الإسلام إليهما قبل هذا التاريخ، أو على افتراض كونه منها فإنّه بناء على تصرفاتهم لم يكن يدعو إليها(1) في وسط سبقها إليه مذهب آخر نما وتقوَّى.
5 ـ شهادات الخوارج أو الشيعة لا تدل على أنّ دعاتهم كانوا يمارسون دعاية لمعتقداتهم في بلاد السودان، وإنّما تنوّه فقط بنشر تعاليم الإسلام، ولو كان قبيل أو شعب من المنطقة قد اعتنق أحدهما لكانت مصادر هذه الطوائف أوّل من يهتمّ بتسجيل هذا الإنجاز أوّلاً بأوّل، كما هو الغالب في كتابات علماء كلّ مذهب، والمصادر على اختلافها لا تتحدّث عن اعتناق فئة من أبناء السودان الغربي لهذين المذهبين(2).
ومن مظاهر التشويه: الاستدلال ببعض التقاليد والأعراف ـ كمواسم نصب السلطان، والمثول بين يديه، ووضع التراب على الرأس إظهاراً للخضوع، واستخدام الطبول، وغيرها من الأمور التي وجدت حيناً في إمبراطوريّات غانا ومالي وسنغاي، وكذلك بعض مظاهر الصوفيّة: كالتبرك بالأولياء، وقراءة القرآن على الأموات، وإقامة الولائم في المآتم، ووجود بعض المشعوذين ـ الاستدلال بها على نفي أثر الإسلام الإصلاحيّ والحضاريّ في المنطقة، أو التقليل من شأنه وتقزيمه بعبارات «الإسلام الأسود» أو «النموذج الأفريقي للإسلام» أو «المزاوجة بين الإسلام والديانات الوثنيّة الأفريقية» أو «الإسلام السطحيّ» ونحوها؛ وكلّها تهدف إلى الزعم بوجود إسلام لا يبقى منه إلاّ اسمه، وسيادة الوثنيّات قولاً وعملاً إلاّ ما ندر؛ فقد اتخذ تلك الأمورَ «بعضُ المضللين من الباحثين الذين يتعمدون تجاهل المدّ الإسلاميّ الحضاريّ في توجيه وتقويم الأحداث التاريخية وشؤون الحياة لمنطقة السودان الغربيّ…. ثم التشكيك حول تاريخ مسلمي هذا الجزء من العالم الإسلامي»(3)، ومن تفاعلهم معه وتطبيقهم له على الوجه الصحيح في مختلف شؤون الحياة. والحق أنّ الإسلام شمل مختلف جوانب الحياة حتى لغير المسلمين من سكان المنطقة(4)، وإليك أمثلة من هذه المظاهر:
يقول د. محمد الغربي: «الواقع أنّ الإسلام وإن كان قد طبع التاريخ الأفريقي والحضارة الأفريقية بطابعه المميّز فإنّه كان مع ذلك نموذجاً أفريقياً؛ فسكان القرى والبوادي لم يكونوا يعرفون إلاّ النطق بآيات القرآن دون فقه لمعنى ما يحركون به ألسنتهم، وكانوا يمسكون في رمضان من الفجر إلى غروب الشمس، ويتقربون بالذبائح والقرابين والنذر، ولكنّهم إلى جانب ذلك كانوا يعبدون قوى الطبيعة، ويقدسون الأصنام والأيقونات، ويؤمنون بأقوال الكهان والسحرة»(5).
ويجعل ثانٍ الفئة التي اعتنقت الإسلام، واحتفظت ببعض الطقوس الوثنيّة هي الغالبة في أفراد المجتمع في غرب أفريقيا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين(1). ويقول ثالث: «البوادي لم تتأثر كثيراً بالإسلام، وهذه الظاهرة تمثل أوّل مظهر من مظاهر تعثر الدين الحنيف بالمنطقة»(2)، ويقول آخر: «المعروف أنّ اعتناق الإسلام في غربي أفريقيا كان سطحياً، وعلى الأقلّ في أوّل انتشاره»(3).
إن من قال بهذا إنّما خلط بين المسلمين والوثنيين الذين قد يستعينون بالتعاويذ الإسلامية مع تعاويذهم الوثنية، ويلجؤون إلى شيوخ المسلمين، بالإضافة إلى كهنتهم الوثنيين، ولا يترددون في تقليد الصلوات الإسلامية، وحضور المساجد والجنائز والاحتفال بالأعياد والمناسبات الإسلامية، بل جرت عادة بعضهم بإخفاء وثنيتهم لظهروا بمظهر الرقي والتقدم؛ لأن المجتمع الوثني قد تعارف على أن الإسلام صنو لهما أخلاقياً، واجتماعياً، ونفسياً(4)، وتلك ظواهر يلحظها قلة من الباحثين في تاريخ انتشار الإسلام في هذه القارة، وهي أمور تحدث إلى يومنا هذا، فحسبهم أولئك الباحثون مسلمين، وما هم كذلك، بل وثنيون.
ولا يلزم من هذا ألاَّ يكون في المسلمين ضعاف نفوس يذهبون إلى السحرة، لكن الخطأ والمبالغة في الحكم على الجميع وفي إظهارهم بأنهم لم يتأثروا بالإسلام.
من تلك الظواهر: أنّ مِنْ ملوك هذه الممالك والإمبراطوريات الأفريقية مَنْ يكون مسلماً، ثم يأتي بعده من أُسرته مَنْ على الوثنيّة؛ وذلك قبل تحوُّلها كليّة إلى ممالك إسلاميّة ملكاً وشعباً، فإذا جاء بعض الدارسين ليتحدّث عن هذه المملكة كان تركيزه على تحوّلها كلية إلى إسلامية فيصور تصرفات هؤلاء الملوك الوثنيين، أو المداهنين لشعوبهم المسلمة على أنّها تصرفات من ملوك مسلمين، ثم يسم المسلمين عامّة بأنّ إسلامهم كان سطحياً أو نموذجاً أفريقياً، وأنّهم مع إسلامهم يمارسون تقاليد وثنيّة(5).
ومنها: ما يتعلق ببعض المعتقدات عند الأفارقة لا يلحظها كثير من الدارسين، تنبّه لها قلّة منهم؛ وجدوا أنّ للإسلام صلة وثيقة بنفسيّة الأفريقي، وتقارباً كبيراً إلى عقليّته وفطرته(6)، و «أنّ نظرتهم العامة إلى الحياة، وكثيراً من طقوسهم الروحيّة يمكن أن تصبح شعائر إسلاميّة، وأن تتحوّل إلى نظام الدين الجديد دون إجراء تغيير كبير»(7)، وهي من عوامل سرعة تقبّلهم للإسلام حتى في العصر الحديث.
فسبب التشويه ـ هنا ـ عدم فهم بعض الظواهر التي يجدها الباحث في الساحة الأفريقية؛ وبرغم هذا يطلق عنان قلمه للتشويه من غير ما تثبُّت ورويّة ليفصّل الإسلام بعد ذلك على مقاس يسمّيه «نموذجاً أفريقياً» أو «إسلاماً أسوداً» أو «إسلاماً سطحيّاً»؛ بسبب تلك الظواهر التي لم يفهمها، أو بسبب بعض المخالفات والمعاصي التي لا يكاد يخلو منها مجتمع إسلاميّ من غير أن نجد ذلك التصنيف نفسه في غير أفريقيا، أو ترديداً لبضاعة غربيّة؛ فالاستعمار وكتّابه لـمّـا أرادوا التهوين من أثر الإسلام وحضارته وثقافته في أفريقيا روّجوا لـ «إسلام سطحيّ» و «إسلام أسود»، وهم يقصدون بهما أنّ إيمان الأفريقي شيء ظاهر يستر وراءه وثنيّته القديمة(1)، فتلقّف عنهم هذه البضاعة المستغربون والمغرضون من غيرهم.
وهذه الصفة إنّما تنطبق على علاقة المسيحية بالوثنية في أفريقيا؛ فهي التي أخذت بمبدأ تلقيح نفسها بالوثنية والعادات الأفريقية، والخلط بينها، والتمشي معها، وكل ذلك أمر واضح في المنطقة، بل أخذت تداهن المسلمين في بعض المناطق الإسلامية بالتخفي وراء أسماء و ألقاب إسلامية قديماً وحديثاً؛ وذلك بأن يحتفظ من يتنصر من الأُسر الإسلامية بأسمائهم الإسلامية، فظهر في السنغال محمد إنجاي، وفي مالي قاسم كيتا واستعمال النصارى في بعض المناطق للقب «الحاج» المنتشر بين المسلمين، وله عندهم مدلول ديني واجتماعي رفيعان(2).
ولو ألغينا جانب الترجمة لتعاليم الإسلام، واشترطنا الفهم المباشر لما يُقرأ ويقال بالعربية لأخرجنا ملايين المسلمين من الإسلام في القديم والحديث!
ومن غير المعقول أن تُكوِّن تلك الأمور التي ذكرها د. الغربي وغيره ظاهرة عامة في كلّ القرى والبوادي، ولا في جميع المراحل؛ لأنّ التحول العظيم في المجتمع الأفريقي في هذه المنطقة نحو قبول الدين الإسلامي المتسامح في تعاليمه والواضح في مبادئه نتج عنه «نمط جديد من الجمع بين القيم الإنسانيّة الأفريقية السليمة الراشدة، وثقافات أبناء المنطقة وحضاراتهم النظيفة وبين النبع الثقافي والحضاري الأصيل للإسلام؛ فظهرت آثار ذلك كلّه في شتى نواحي الحياة لدى سكان المنطقة»(3). وما كانت مرونة الإسلام في الإصلاح، ولا ملاءمته لكلّ زمان ومكان، ولا تدرجُّه في التغيير استكانة وضعفاً(4)، ولا نموذجيّة خاصة بجنس دون جنس، أو مكان دون آخر، وإنّما تلك كلّها من وسطيّة الإسلام وواقعيته وعوامل انتشاره وقوّته.
ثم ألا يكون مردّ وجود ما ذكره إلى طبيعة سكان البوادي في كلّ زمــان ومكان؟ «والإسلام ليس ظاهرة بداوة في أصله حتى تتركز الأنظار أولاً على البدو …. الإسلام ظاهرة حضر واستقرار ينتقل منها إلى البدو»(5)، ألم يقل القرآن الكريم عن سكان البوادي: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 97 - 98]؟ ثم قال عن طائفة منهم: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 99]؟.
أرأيت كيف شهد الله لهذه الطائفة من فرقة الأعراب بصحة ما اعتقدت، وبتصديق رجائها؟ وكيف استأنف النظم القرآني بحرفي التنبيه: «ألا» للاهتمام بها ليعيها السامع، والتوكيد والتحقيق «إنّ»، وكلاهما يؤذن بثبات الأمر وتمكّنه، وبإزالة الشك والإنكار، وبالاحتجاج للقضيّة، وأكّد فوزهم ونجاتهم بـ «السين» الذي يفيد تحقيق الوعد، فما أدلّ هذا الكلام بذلك كلّه على رضا الله ـ تعالى ـ عن هذه الطائفة وعن عملها!!(1).
فكيف نغبنها حقّها بهذا التعميم الذي يحصرهم جميعاً في فرقة واحدة، وأين الباحث من المنهج الإسلامي في هذا التقسيم العدل، البعيد عن التعميمات، المراعي للواقع في قوله ـ تعالى ـ عن الأعراب ـ أيضاً ـ: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْـمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِـحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 101 - 102]. لست بحاجة إلى التذكير حول هذه الآيات بالمقولة المجمع عليها «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب»، كما أنّ ظهور عادات لا تمتّ إلى الإسلام بصلة في تنصيب السلطان أو غيره كان في نطاق ضيّق، وفي طور معيّن، أو مكان دون مكان، وربما يكون سببها الجهل، أو أنّه لم يظهر للقوم رأي الدين فيها في ذلك الوقت، ولا أدلّ على صحة هذا من مسارعة العلماء والسلاطين إلى إنكار البدع والتقاليد التي يظهر لهم مخالفتها للدين الإسلاميّ، كما هو الحال لأسكيا محمد وغيره، وكذلك ابنه أسكيا داود الذي استجاب لإنكار أحد الفقهاء ظاهرة التتريب(2).
يقول آدم عبد الله الآلوري عن ملوك الإمبراطوريّات الإسلاميّة في غرب أفريقيا: إنّ «أكثر أولئك السلاطين علماء وفقهاء، وإذا لم يكن السلطان نفسه عالماً فقيهاً اتخذ أحد العلماء المبرزين وزيراً يدير له الدولة على وفق الشريعة، ولا بدّ من هيئة شوريّة على شكل لجنة الفتوى من كبار العلماء والفقهاء»(3). وكان السلاطين والملوك يحترمون هؤلاء العلماء والفقهاء، ويزورونهم في بيوتهم، ويستفتونهم، ويشاورنهم في شؤون الدولة وما تتعرض له من أخطار، ويأتمرون بأمرهم(4).
وذكر البكري أنّ سنغاي (أهل كَوْكَوْ ) لا يُملِّكون عليهم أحداً من غير المسلمين، وإذا ولي منهم ملك دُفع إليه خاتم، وسيف، ومصحف(5).
ولو سلّمنا برأي هؤلاء المشوِّهين والمتجاهلين للحقائق فلن يبقى للإسلام تاريخ ناصع في العالم كلّه بعد القرون الثلاثة الأولى؛ لوجود البدع و الخرافات والمخالفات الشرعيّة والعقدية في كلّ المجتمعات الإسلاميّة على تفاوت وفي أطوار مختلفة من غير أن نجد تفصيل الإسلام على مقاسها كما يراد في حال أفريقيا!!؟ أو لم يكن من عادة المماليك (648 ـ 923 هـ 1250 ـ 1517 م) إجبار مَنْ يدخل على السلطان على الركوع والسجود، ثم تقبيل الأرض بين يديه؟(1) حتى إنّ ملك مالي منسا موسى (712 ـ 737 هـ 1312ـ 1337م) في طريق حجّه تفادى الدخول على سلطانهم في أيامه كي لا يقوم بذلك، وكثيراً ما توتّرت علاقاتهم مع غيرهم بسبب هذا التقليد. وهنا لا يريد بعض الباحثين ـ مع موازنته بين الأمرين ـ أن يُحرِج أحداً بالسؤال «عمّا إذا كان الإسلام قد أخفق في احتواء الذهنيّة المصريّة بسبب هذا التقليد»؟ فيرى القفز على المسألة(2). فأقول له: إنّ التنبيه على المنكر لتفاديه أو لإعطاء صورة عن بعض المظاهر والأمراض الاجتماعية المخالفة للشرع مما لا ينبغي فيه التحرّج، بشرط تناولها في إطارها الزماني والمكاني، وعدم التعميم أو التحريف، ولا تخصيص منطقة بها دون أخرى، أو تفصيلها على مقاس جنس دون غيره.