د / بركات محمد مراد
عرفته أوربا باسم "Alhazen"، أي الحسن بن الهيثم الذي دخل في خدمة الخليفة الفاطمي "بأمر الله"، وعرف بالزهد والبعد عن شرف الدنيا وجاهها، حتى إن الخليفة ولّاه بعض الدواوين، فضاق بها ذرعًا ولم يحتمل فتنة الحكم وفتنة الحاكم، وآثر عليها حياة العزلة وكفاف العيش والتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم والانكباب على تحصيله وتحقيقه.
وقد وصفه "البيهقي" بـ"الحكيم بطليموس الثاني"، ويقول "ابن أبي أصيبعة": "كان متفنّنًا في العلوم، ولم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه".
أما المحدَثون فنجد على رأسهم "دي بور" في كتابه "تاريخ الفلسفة في الإسلام" يقول: "وتجد في القاهرة في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي رجلاً من أعظم الرياضيين والطبيعيين في العصور الوسطى، هو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم". ويصفه "سارتون" بأنه: "أكبر عالم طبيعي مسلم ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع الأزمان".
وتأتي عظمة ابن الهيثم من إدراكه للطريقة المُثلى في البحث العلمي. فقد امتازت بحوثه بالملاحظة والتجربة، وأخَذ بالاستقراء والقياس والتمثيل. ورائدُه في ذلك منهج الأصوليين الذي كان قد نضج قبله. فقد كان يبتدئ -كما يقول هو نفسه- باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المُبصَرات، وتمييز خواص الجزئيات، ثم يترقّى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج. وكان يجعل غرضه في كل ذلك استعمال العدل لا اتباع الهوى، ويتحرى في سائر ما يميزه وينتقده طلبَ الحق الذي به يَثلُج الصدرُ، حتى يصل بالتدريج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، وتظهر الحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم الشبهات.
وُلد ابن الهيثم في العراق بالبصرة عام (354هـ/965م)، أما وفاته فيقول "القفطي" إنها تقع في حدود عام(430هـ/1039م). وتنقسم حياته إلى مرحلتين، الأولى نشأته بالبصرة؛ وكان يعمل موظفًا في دواوين الحكومة بالعراق. ثم المرحلة الثانية وهي قدومه إلى مصر في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي.
مؤلفاته

لقد ترك لنا ابن الهيثم تراثًا ضخمًا مليئًا بالابتكار، زاخرًا بالموضوعات الجديدة والبحوث الفريدة. فهو لم يكتف بالنقل عن كتب القدماء، بل لقد نظر فيها نظرًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد من قبل، واتجه في هذا النظر وجهة جديدة أيضًا، فأصلح الخطأ وأتم النقص وابتكر المستحدث من الأبحاث، وأضاف الجديد من الكشوف، وسبق في غير عدد قليل من الحالات الأجيالَ والعصورَ، واستوفى البحث إجمالاً وتفصيلاً، حتى لقد كانت مؤلفاته عمدة العلماء في أوربا، ومنهلاً ينهلون منه حتى عهد قريب. وفي مجال التأليف تميز ابن الهيثم، حيث كان غزيرًا في كتاباته ورسائله ومؤلفاته؛ فقد كان نادرة عصره في علمه وذكائه. وتصانيفُه تقارب المائتين من المصنفات أو تزيد بين مطول ومختصر ورسالة في المجال العلمي بفروعه المختلفة، أو الفلسفي بتعدد مناحيه وتجلياته. ولا أدلّ على ذلك من أن علم البصريات تَكثُر فيه مؤلفاته، مثل كتابه "المناظر"، ورسالته في الضوء، ومقالاته في المرايا المُحرِقة بالقطوع، أو المُحرِقة بالدائرة، أو مقالاته في ضوء القمر... وفي مجال الرياضيات تصل مؤلفاته إلى أكثر من خمسين مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة، تتوزع على الأبحاث الرياضية البحتة، وعلوم الحساب والهندسة والجبر... وأيضًا تعليقات لمؤلفات السابقين عليه من اليونان مثل كتابه في "حل شكوك أقليدس" الذي يصفه الدكتور "علي مشرفة" بقوله: "إن المطّلع على كتاب ابن الهيثم في "حل شكوك أقليدس"، يلمس دقته في التفكير وتعمقه في البحث، واستقلاله في الحكم، كما يتّضح له صحة مكانة الهندسة الأقليدية من العلوم الرياضية؛ فهو كتاب رياضى بأدق ما يدل عليه الوصف من معنى".
وهذا يعود في رأي بعض العلماء إلى أن ابن الهيثم، قد سلك في أبحاثه الرياضية الواضحة، وفي مؤلفاته بصفة عامة في باقي العلوم، وفي علم الرياضيات بصفة خاصة، طُرقًا لم يسلكها المتقدمون، وأساليب جديدة كل الجدّة في البراهين، مما يدل على استقلال تفكيره وبعد نظره وقوة إبداعه.
كما ألّف ابن الهيثم كثيرًا من الرسائل والمقالات في علم الفلك والذي كان يُعد علمًا من العلوم الرياضية، ترْبُو على أربعة وعشرين مؤلفًا، فُقِد بعضها ووصل إلينا منها حوالي عشرين مقالة مثل ارتفاع القطب، ومقالة في هيئة العالم، وارتفاعات الكواكب، وحركة القمر، وأبعاد الأجرام السماوية، وصورة الكسوف، وتصحيح الأعمال النجومية... إلخ.
وعلى الرغم من أنه لم يمارس مهنة الطب، إلا أنه اهتم بالتأليف في هذا المجال. ولقد كان متأثرًا إلى حدٍّ كبير بـ"جالينوس" وكتبه ومؤلفاته الطبية. فوضع لنا مؤلفات ترْبُو على العشرين رسالة مثل تقويم الصناعة الطبية، وكتاب آراء أبقراط وأفلاطون، وكتاب في العلل والأعراض، وأصناف الحِميات، والبحران، وقوى الأدوية المُفردة، وقوى الأدوية المركّبة، وفي حفظ الصحة... إلخ. هذا فضلاً عن مؤلفاته في المجال الفلسفي؛ حيث كتب مؤلفات عميقة في الفلسفة والمنطق، وعلم النفس، والأخلاق، والإلهيات تربو على أربعين مؤلفًا، أشهرها رسالة "المكان" ومقالة "ثمرة الحكمة".
كتاب "المناظر" وتأسيس علم البصريات

وقد وضع ابن الهيثم كتابه "المناظر" الذي يُعدّ أهم كتابٍ ظهر في القرون الوسطى كلها، وأكثرها استيفاءً لبحوث الضوء. فقد عالج في هذا الكتاب، القوانين الأساسية للانعكاس والانكسار أو الانعطاف، كما سبق "كبلر" إلى كثير من قضاياه. حتى ليقول البعض إن هذا الأخير إنما استمد معلوماته في الضوء -ولا سيما ما يتعلق بانكساره في الجو- من هذا الكتاب وسائر كتبه الأخرى. فابن الهيثم هو في مقدمة علماء الطبيعة النظرية بما وضع في ظواهر الضوء من نظريات في الإبصار وقوس قزح وانعكاس الضوء وانكساره. وهو يأتي أيضًا في المقدمة من علماء الطبيعة التجريبية بما أجرى من تجارب في كيفية امتداد الأضواء الذاتية التي تنطلق من الجرم المضيء؛ كضوء الشمس، والأضواء العرضية التي تنعكس عن سطوح الأجسام الكثيفة بعد أن كانت أضواء ذاتية أو عرضية.
وقد تناولت تجاربه أيضًا، ضوء القمر، وضوء الكواكب، والضوء المنبعث من ضوء أبيض يستضيء بضوء القمر، واستقصى أحوال الإضاءة الشديدة والإضاءة الضعيفة. وهو أخيرًا في مقدمة علماء الطبيعة التطبيقية، بما أجرى من تجارب وأوجد من أجهزة. ولقد عرض الأستاذ "مصطفي نظيف" في كتابه "الحسن ابن الهيثم" لنظريات الإبصار في الفلسفة اليونانية، من فيثاغورس إلى أمبيدوقليس، ومن أفلاطون إلى أرسطو وأبيقور، فلم يجد سوى آراء مُفكَّكة متناثرة، لا تقوم على أساس علمي، ثم عرض للنظريات التي ظهرت في العصر الهلينستي الإسكندري، من أقليدس وبطليموس إلى هيرون وثاون، فوجد أبحاثًا علمية رصينة قائمة على أساسٍ منهجي. كما عرض آراء الإسلاميين الذين سبقوا ابن الهيثم كالكندي، والرازي، وقسطا بن لوقا، فانتهى إلى هذه النتيجة؛ وهي أنه ليس معروفًا الآن أن أحدًا من الإسلاميين المتقدمين على ابن الهيثم، قد أضافوا إلى علم الضوء شيئًا ذا بال لم يكن معروفًا من قبل.
ثم عرض الأستاذ "نظيف" آراء ابن الهيثم في الضوء، وقارنها بالآراء السائدة في عصره. فشرح آراءه في الأضواء الذاتية والعرضية والمُنعطفة، أي "المُنكسرة" (Refraction)، والفجر والشفق والتقازيح، أي امتزاج الضوء بالظلمة بنسب مختلفة، والألوان والخداع البصري والهالة وقوس قزح والكسوف والخسوف وما إلى ذلك.
لقد كانت أصول الميكانيكا مبعثرة كذلك قبل "نيوتن"، إلى أن جاء هذا الأخير فأدرك حقائقها وأضاف إليها وربط بينها، حتى أضحت على يديه وحدة شاملة هي التي قام عليها علم الميكانيكا. وكذلك علم الضوء، فإنه حتى الفكرة البسيطة من أن للضوء وجودًا في ذاته، لم تكن من الأمور المُسلَّم بها. فإن أقليدس وبطليموس وغيرهما من أصحاب التعاليم ممن سبقوا ابن الهيثم، على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق آرائهم، متفقون على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المُبْصَر، وعلى أن الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وعلى أن الشعاع يُدرَك به مُبْصَر من المُبْصَرات، فشكل جملته شكل مخروط رأسه مركز البصر، وقاعدته سطح البصر. ولَمَّا كان ذلك كذلك، فقد رأى ابن الهيثم أن يصرف الاهتمام إلى هذا المعنى ويضع كتابه "المناظر". وإذن فإن الأساس الذي كان يقوم عليه علم الضوء القديم، أساس خاطئ يجب على ابن الهيثم أن يعيد النظر فيه ويقلِبه رأسًا على عقب.
والجديد الذي يقدمه ابن الهيثم، يتضح من ذلك الموقف النقدي الذي يتخذه من كل العلماء والفلاسفة السابقين في تأسيسه لهذا العلم، وتقديمه لرؤيته الجديدة؛ فهو ينقد نظرية أرسطو والأبيقوريين وغيرهما من الفلاسفة الطبيعيين، الذين اختلفوا فيما بينهم في كيفية ورود الصورة إلى العين. وهي نظرية "الإرسال الداخلي" (Intromission)، أي دخول شيء ما إلى العين والذي يمثل الشيء المرئي، ونظرية "الإصدار" (Emission)، والإبصار فيها يكون بخروج شعاع من البصر إلى المُبْصَر، والتي يمثلها أفلاطون والرواقيون، ثم أقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة وأصحاب التعاليم. ويأخذ في كتابه "المناظر" بتوضيح كل هذه الآراء المتعارضة والمتناقضة، ويأخذ في نقدها عن طريق التحليل والتفنيد مع الالتزام بالموضوعية التي تتحقق إلى حدٍّ كبير في تجارب يقوم بإجرائها لتأكيد رؤيته الجديدة، مستخدمًا معارفه الرياضية ومعلوماته الطبيعية في مزاوجة ما بين الرياضيات والطبيعيات في منهجية علمية جديدة.
إن أعظم مآثر ابن الهيثم أنه أبطل علم المناظر القديم، وأنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث. وإذا كانت دائرة المعارف البريطانية تقول إنه بعد بطليموس لم يظهر من يجاريه في علم الضوء إلا ابن الهيثم، فإن بحوثه ودراساته ومقالاته ليست مجرّد زيادة كمية اتسعت بها ثروتنا العلمية، وإنما هي -قبل ذلك- تحوّل كيفي في المفاهيم والأسس، أو قُلْ هي أحداث قلَبتْ أوضاع هذا العلم وصححت مجراه، ودفعت به في الطريق السليم، وأقامته علمًا ثابت الأركان راسخ البناء.
شروط الإبصار

وبعد أن يحدد ابن الهيثم كيفية البحث في علم البصريات في كتابه "المناظر"، يستأنف البحث عن الشروط التي يجب توافرها عند الإبصار، وهي التي يسميها "المعاني التي لا يتم الإبصار إلا بها".
فقد أوضح أن الضوء له وجود مستقل في ذاته، ولابد من أن يكون بينه وبين العين بُعد، وأن يكون بين كل نقطة من سطح البصر وبين العين خط مستقيم غير مقطع بكثيف، أي أن يكون الجسم المتوسط بين سطح البصر وبين المُبْصَر، وهو ما يطلق عليه الدكتور مصطفي نظيف "الوسط".
والجديد الذي أضافه ابن الهيثم لعلم البصريات أيضًا، أنه استدل على أن العلّة الأساسية في الإبصار، هي وجود المُبْصَر مع توافر هذه الشروط، يقول: "إن البصر إذا أحس بالمُبْصَر بعد أن كان لا يحس به، فقد حدث منه شيء ما بعد إن لم يكن، وليس يحدث شيء بعد إن لم يكن إلا لعلة، ونجد المُبْصَر إذا قابل البصر، أحس به البصر، وإذا أزال عن مقابلة البصر، لم يحس به البصر، وإذا عاد المُبْصَر إلى مقابلة البصر، عاد الإحساس. وكذلك نجد البصر إذا أحس بالمُبْصَر ثم أطبق أجفانه، بَطُلَ ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه، بَطُلَ ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه والمُبْصَر مقابله، عاد ذلك الإحساس. والعلة هي التي إذا بَطُلَتْ بَطُلَ المعلول، وإذا عادت عاد المعلول. فالعلة إذن، التي تُحدث ذلك الشيء في البصر، هو المُبْصَر".
ثم يقدّم ابن الهيثم مزيدًا من الشرح والتحليل لنظريته في الإبصار، والتي تتفق تمامًا مع الرؤية العلمية الصحيحة والحديثة لكيفية الإبصار الآن. هذا وقد استعان ابن الهيثم بالجبر والمثلثات والهندسة بنوعيها في حل كثير من معضلات الضوء، ووضع كل ذلك في عبارات وصيَغ لا تعقيد فيها ولا إبهام. وبفضل تجاربه في انعكاسات الضوء من خلال وسط شفاف كالماء والهواء، ومن خلال أجسام كروية كالآنية الزجاجية، ودراسته للعلاقة المطّردة بين تكبير الأحجام والتقاء الضوء في المرايا المُحرِقة، فقد وصل -أو كاد- إلى اكتشاف نظرية العدسات المُكَبِّرة التي لم يكن ليفصله عنها سوى خطوة واحدة، والتي صُنعت بإيطاليا بعده بثلاثة قرون.
وقد اعتمد "روجر بيكون" وكل كتّاب البصريات في العصر الوسيط في الغرب على أعمال ابن الهيثم في البصريات، كما أثّرت أعماله أيضًا تأثيرًا واضحًا في ليوناردو دافنشي، وفي يوحنا كبلر. ولذلك تقول المستشرقة هونكة: "إن دراسات ابن الهيثم لنظرية انعكاس الضوء، والعدسات والمُعضلة المعروفة باسمه (مُعضلة ابن الهيثم)، وكذلك وصفه الدقيق للعين، كل ذلك جعل ابن الهيثم جديرًا أن يُقرَن اسمه باسم العالمين "روجر بيكون" و"وتيلو". وما تذهب إليه المستشرقة، يطابق الحقيقة؛ فإننا نجد في كتاب "المناظر" وصفًا للعين وإدراكًا للرؤية أدق كثيرًا، وأكثر تحديدًا من جميع من تقدموه. ونجد فحصًا لظاهرة الانكسار الجوي، ومحاولات لتفسير الرؤية المزدوجة (بالعينين)، وأول استعمال عُرِف للغرفة المظلمة.
بعض إنجازاته العلمية

كان ابن الهيثم -في كتابه "في طبيعة إلقاء الظل"- أول من أجرى تجارب بواسطة نوع من "آلة الثقب" التي هي -في الواقع- صورة أولى لآلة التصوير فيما بعد، والتي برهنت له تمدد أشعة الضوء بخط مستقيم. كما أنه لم يصدّق عينيه حين رأى صورة العالم مقلوبة رأسًا على عقب لدى انعكاسها -ولقد لجأ إلى نفس التجارب التي لجأ إليها فيما بعدُ ليوناردو دافنشي- واكتشف تعليلاً لكثافة مختلف الطبقات كالماء والهواء، واختلاف مدى انكسار الضوء في كل منها، ثم حسب -بالاستناد إلى ما سبق- علوّ الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض وهي خمسة عشر كيلومترًا، وهكذا يكون خرج بنتيجة غاية في الدقة والصحة لم يسبق إليها أحد من قبل. ثم اهتم بتحليل ظهور الهلال، والغسق وقوس قزح، التي عجز عن شرحها علميًّا الفيلسوف أرسطو ذاته. وتوسع فيما بعد بأبحاثه فشمل اهتمامه الآلات البصرية. فدرس وحسب درجة الانعكاس في المرايا المستديرة والمرايا المُحرِقة بالدوائر (Kegels Chnittbrennspieigel)، وتوصل إلى معرفة قانون تأثير "العاكسات الضوئية" (Progecteurs). ثم حقق في تأثير التقاء الأشعة وتكبير الأحجام، ليس بواسطة المرآة المُحرقة فقط، بل "الزجاجة المُكبِّرة" (Lupe)، واخترع أيضًا أول نظارات للقراءة. ومن هنا تقول المستشرقة هونكة إنه "عندما قام يوهانس كبلر في ألمانيا خلال القرن السادس عشر، ببحث القوانين التي تمكَّن غاليليو (1564-1642م) بالاستناد إليها من رؤية نجوم مجهولة من خلال منظار كبير، كان ظل ابن الهيثم الكبير يجثم خلفه". وما تزال حتى يومنا هذا، المسألة الفيزيائية الرياضية الصعبة، التي حلها أبو الحسن بن الهيثم بواسطة معادلة من الدرجة الرابعة، مُبرهنًا بهذا عن تضلّعه البالغ من علم الجبر. نقول، ما تزال المسألة القائمة على حساب نقطة التقاء الصورة التي تعكسها المرآة المُحرقة بالدوائر على مسافة منها، ما تزال تسمى "بالمسألة الهيثمية"، نسبة إلى ابن الهيثم نفسه. رعرفته أوربا باسم "Alhazen"، أي الحسن بن الهيثم الذي دخل في خدمة الخليفة الفاطمي "بأمر الله"، وعرف بالزهد والبعد عن شرف الدنيا وجاهها، حتى إن الخليفة ولّاه بعض الدواوين، فضاق بها ذرعًا ولم يحتمل فتنة الحكم وفتنة الحاكم، وآثر عليها حياة العزلة وكفاف العيش والتجرد عن الشواغل التي تمنعه من النظر في العلم والانكباب على تحصيله وتحقيقه.
وقد وصفه "البيهقي" بـ"الحكيم بطليموس الثاني"، ويقول "ابن أبي أصيبعة": "كان متفنّنًا في العلوم، ولم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي ولا يقرب منه".
أما المحدَثون فنجد على رأسهم "دي بور" في كتابه "تاريخ الفلسفة في الإسلام" يقول: "وتجد في القاهرة في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي رجلاً من أعظم الرياضيين والطبيعيين في العصور الوسطى، هو أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم". ويصفه "سارتون" بأنه: "أكبر عالم طبيعي مسلم ومن أكبر المشتغلين بعلم المناظر في جميع الأزمان".
وتأتي عظمة ابن الهيثم من إدراكه للطريقة المُثلى في البحث العلمي. فقد امتازت بحوثه بالملاحظة والتجربة، وأخَذ بالاستقراء والقياس والتمثيل. ورائدُه في ذلك منهج الأصوليين الذي كان قد نضج قبله. فقد كان يبتدئ -كما يقول هو نفسه- باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المُبصَرات، وتمييز خواص الجزئيات، ثم يترقّى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج. وكان يجعل غرضه في كل ذلك استعمال العدل لا اتباع الهوى، ويتحرى في سائر ما يميزه وينتقده طلبَ الحق الذي به يَثلُج الصدرُ، حتى يصل بالتدريج واللطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، وتظهر الحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم الشبهات.
وُلد ابن الهيثم في العراق بالبصرة عام (354هـ/965م)، أما وفاته فيقول "القفطي" إنها تقع في حدود عام(430هـ/1039م). وتنقسم حياته إلى مرحلتين، الأولى نشأته بالبصرة؛ وكان يعمل موظفًا في دواوين الحكومة بالعراق. ثم المرحلة الثانية وهي قدومه إلى مصر في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي.
مؤلفاته

لقد ترك لنا ابن الهيثم تراثًا ضخمًا مليئًا بالابتكار، زاخرًا بالموضوعات الجديدة والبحوث الفريدة. فهو لم يكتف بالنقل عن كتب القدماء، بل لقد نظر فيها نظرًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد من قبل، واتجه في هذا النظر وجهة جديدة أيضًا، فأصلح الخطأ وأتم النقص وابتكر المستحدث من الأبحاث، وأضاف الجديد من الكشوف، وسبق في غير عدد قليل من الحالات الأجيالَ والعصورَ، واستوفى البحث إجمالاً وتفصيلاً، حتى لقد كانت مؤلفاته عمدة العلماء في أوربا، ومنهلاً ينهلون منه حتى عهد قريب. وفي مجال التأليف تميز ابن الهيثم، حيث كان غزيرًا في كتاباته ورسائله ومؤلفاته؛ فقد كان نادرة عصره في علمه وذكائه. وتصانيفُه تقارب المائتين من المصنفات أو تزيد بين مطول ومختصر ورسالة في المجال العلمي بفروعه المختلفة، أو الفلسفي بتعدد مناحيه وتجلياته. ولا أدلّ على ذلك من أن علم البصريات تَكثُر فيه مؤلفاته، مثل كتابه "المناظر"، ورسالته في الضوء، ومقالاته في المرايا المُحرِقة بالقطوع، أو المُحرِقة بالدائرة، أو مقالاته في ضوء القمر... وفي مجال الرياضيات تصل مؤلفاته إلى أكثر من خمسين مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة، تتوزع على الأبحاث الرياضية البحتة، وعلوم الحساب والهندسة والجبر... وأيضًا تعليقات لمؤلفات السابقين عليه من اليونان مثل كتابه في "حل شكوك أقليدس" الذي يصفه الدكتور "علي مشرفة" بقوله: "إن المطّلع على كتاب ابن الهيثم في "حل شكوك أقليدس"، يلمس دقته في التفكير وتعمقه في البحث، واستقلاله في الحكم، كما يتّضح له صحة مكانة الهندسة الأقليدية من العلوم الرياضية؛ فهو كتاب رياضى بأدق ما يدل عليه الوصف من معنى".
وهذا يعود في رأي بعض العلماء إلى أن ابن الهيثم، قد سلك في أبحاثه الرياضية الواضحة، وفي مؤلفاته بصفة عامة في باقي العلوم، وفي علم الرياضيات بصفة خاصة، طُرقًا لم يسلكها المتقدمون، وأساليب جديدة كل الجدّة في البراهين، مما يدل على استقلال تفكيره وبعد نظره وقوة إبداعه.
كما ألّف ابن الهيثم كثيرًا من الرسائل والمقالات في علم الفلك والذي كان يُعد علمًا من العلوم الرياضية، ترْبُو على أربعة وعشرين مؤلفًا، فُقِد بعضها ووصل إلينا منها حوالي عشرين مقالة مثل ارتفاع القطب، ومقالة في هيئة العالم، وارتفاعات الكواكب، وحركة القمر، وأبعاد الأجرام السماوية، وصورة الكسوف، وتصحيح الأعمال النجومية... إلخ.
وعلى الرغم من أنه لم يمارس مهنة الطب، إلا أنه اهتم بالتأليف في هذا المجال. ولقد كان متأثرًا إلى حدٍّ كبير بـ"جالينوس" وكتبه ومؤلفاته الطبية. فوضع لنا مؤلفات ترْبُو على العشرين رسالة مثل تقويم الصناعة الطبية، وكتاب آراء أبقراط وأفلاطون، وكتاب في العلل والأعراض، وأصناف الحِميات، والبحران، وقوى الأدوية المُفردة، وقوى الأدوية المركّبة، وفي حفظ الصحة... إلخ. هذا فضلاً عن مؤلفاته في المجال الفلسفي؛ حيث كتب مؤلفات عميقة في الفلسفة والمنطق، وعلم النفس، والأخلاق، والإلهيات تربو على أربعين مؤلفًا، أشهرها رسالة "المكان" ومقالة "ثمرة الحكمة".
كتاب "المناظر" وتأسيس علم البصريات

وقد وضع ابن الهيثم كتابه "المناظر" الذي يُعدّ أهم كتابٍ ظهر في القرون الوسطى كلها، وأكثرها استيفاءً لبحوث الضوء. فقد عالج في هذا الكتاب، القوانين الأساسية للانعكاس والانكسار أو الانعطاف، كما سبق "كبلر" إلى كثير من قضاياه. حتى ليقول البعض إن هذا الأخير إنما استمد معلوماته في الضوء -ولا سيما ما يتعلق بانكساره في الجو- من هذا الكتاب وسائر كتبه الأخرى. فابن الهيثم هو في مقدمة علماء الطبيعة النظرية بما وضع في ظواهر الضوء من نظريات في الإبصار وقوس قزح وانعكاس الضوء وانكساره. وهو يأتي أيضًا في المقدمة من علماء الطبيعة التجريبية بما أجرى من تجارب في كيفية امتداد الأضواء الذاتية التي تنطلق من الجرم المضيء؛ كضوء الشمس، والأضواء العرضية التي تنعكس عن سطوح الأجسام الكثيفة بعد أن كانت أضواء ذاتية أو عرضية.
وقد تناولت تجاربه أيضًا، ضوء القمر، وضوء الكواكب، والضوء المنبعث من ضوء أبيض يستضيء بضوء القمر، واستقصى أحوال الإضاءة الشديدة والإضاءة الضعيفة. وهو أخيرًا في مقدمة علماء الطبيعة التطبيقية، بما أجرى من تجارب وأوجد من أجهزة. ولقد عرض الأستاذ "مصطفي نظيف" في كتابه "الحسن ابن الهيثم" لنظريات الإبصار في الفلسفة اليونانية، من فيثاغورس إلى أمبيدوقليس، ومن أفلاطون إلى أرسطو وأبيقور، فلم يجد سوى آراء مُفكَّكة متناثرة، لا تقوم على أساس علمي، ثم عرض للنظريات التي ظهرت في العصر الهلينستي الإسكندري، من أقليدس وبطليموس إلى هيرون وثاون، فوجد أبحاثًا علمية رصينة قائمة على أساسٍ منهجي. كما عرض آراء الإسلاميين الذين سبقوا ابن الهيثم كالكندي، والرازي، وقسطا بن لوقا، فانتهى إلى هذه النتيجة؛ وهي أنه ليس معروفًا الآن أن أحدًا من الإسلاميين المتقدمين على ابن الهيثم، قد أضافوا إلى علم الضوء شيئًا ذا بال لم يكن معروفًا من قبل.
ثم عرض الأستاذ "نظيف" آراء ابن الهيثم في الضوء، وقارنها بالآراء السائدة في عصره. فشرح آراءه في الأضواء الذاتية والعرضية والمُنعطفة، أي "المُنكسرة" (Refraction)، والفجر والشفق والتقازيح، أي امتزاج الضوء بالظلمة بنسب مختلفة، والألوان والخداع البصري والهالة وقوس قزح والكسوف والخسوف وما إلى ذلك.
لقد كانت أصول الميكانيكا مبعثرة كذلك قبل "نيوتن"، إلى أن جاء هذا الأخير فأدرك حقائقها وأضاف إليها وربط بينها، حتى أضحت على يديه وحدة شاملة هي التي قام عليها علم الميكانيكا. وكذلك علم الضوء، فإنه حتى الفكرة البسيطة من أن للضوء وجودًا في ذاته، لم تكن من الأمور المُسلَّم بها. فإن أقليدس وبطليموس وغيرهما من أصحاب التعاليم ممن سبقوا ابن الهيثم، على اختلاف طبقاتهم وتباعد أزمانهم وتفرق آرائهم، متفقون على أن الإبصار إنما يكون بشعاع يخرج من البصر إلى المُبْصَر، وعلى أن الشعاع يمتد على سموت خطوط مستقيمة أطرافها مجتمعة عند مركز البصر، وعلى أن الشعاع يُدرَك به مُبْصَر من المُبْصَرات، فشكل جملته شكل مخروط رأسه مركز البصر، وقاعدته سطح البصر. ولَمَّا كان ذلك كذلك، فقد رأى ابن الهيثم أن يصرف الاهتمام إلى هذا المعنى ويضع كتابه "المناظر". وإذن فإن الأساس الذي كان يقوم عليه علم الضوء القديم، أساس خاطئ يجب على ابن الهيثم أن يعيد النظر فيه ويقلِبه رأسًا على عقب.
والجديد الذي يقدمه ابن الهيثم، يتضح من ذلك الموقف النقدي الذي يتخذه من كل العلماء والفلاسفة السابقين في تأسيسه لهذا العلم، وتقديمه لرؤيته الجديدة؛ فهو ينقد نظرية أرسطو والأبيقوريين وغيرهما من الفلاسفة الطبيعيين، الذين اختلفوا فيما بينهم في كيفية ورود الصورة إلى العين. وهي نظرية "الإرسال الداخلي" (Intromission)، أي دخول شيء ما إلى العين والذي يمثل الشيء المرئي، ونظرية "الإصدار" (Emission)، والإبصار فيها يكون بخروج شعاع من البصر إلى المُبْصَر، والتي يمثلها أفلاطون والرواقيون، ثم أقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة وأصحاب التعاليم. ويأخذ في كتابه "المناظر" بتوضيح كل هذه الآراء المتعارضة والمتناقضة، ويأخذ في نقدها عن طريق التحليل والتفنيد مع الالتزام بالموضوعية التي تتحقق إلى حدٍّ كبير في تجارب يقوم بإجرائها لتأكيد رؤيته الجديدة، مستخدمًا معارفه الرياضية ومعلوماته الطبيعية في مزاوجة ما بين الرياضيات والطبيعيات في منهجية علمية جديدة.
إن أعظم مآثر ابن الهيثم أنه أبطل علم المناظر القديم، وأنشأ علم الضوء بالمعنى الحديث. وإذا كانت دائرة المعارف البريطانية تقول إنه بعد بطليموس لم يظهر من يجاريه في علم الضوء إلا ابن الهيثم، فإن بحوثه ودراساته ومقالاته ليست مجرّد زيادة كمية اتسعت بها ثروتنا العلمية، وإنما هي -قبل ذلك- تحوّل كيفي في المفاهيم والأسس، أو قُلْ هي أحداث قلَبتْ أوضاع هذا العلم وصححت مجراه، ودفعت به في الطريق السليم، وأقامته علمًا ثابت الأركان راسخ البناء.
شروط الإبصار

وبعد أن يحدد ابن الهيثم كيفية البحث في علم البصريات في كتابه "المناظر"، يستأنف البحث عن الشروط التي يجب توافرها عند الإبصار، وهي التي يسميها "المعاني التي لا يتم الإبصار إلا بها".
فقد أوضح أن الضوء له وجود مستقل في ذاته، ولابد من أن يكون بينه وبين العين بُعد، وأن يكون بين كل نقطة من سطح البصر وبين العين خط مستقيم غير مقطع بكثيف، أي أن يكون الجسم المتوسط بين سطح البصر وبين المُبْصَر، وهو ما يطلق عليه الدكتور مصطفي نظيف "الوسط".
والجديد الذي أضافه ابن الهيثم لعلم البصريات أيضًا، أنه استدل على أن العلّة الأساسية في الإبصار، هي وجود المُبْصَر مع توافر هذه الشروط، يقول: "إن البصر إذا أحس بالمُبْصَر بعد أن كان لا يحس به، فقد حدث منه شيء ما بعد إن لم يكن، وليس يحدث شيء بعد إن لم يكن إلا لعلة، ونجد المُبْصَر إذا قابل البصر، أحس به البصر، وإذا أزال عن مقابلة البصر، لم يحس به البصر، وإذا عاد المُبْصَر إلى مقابلة البصر، عاد الإحساس. وكذلك نجد البصر إذا أحس بالمُبْصَر ثم أطبق أجفانه، بَطُلَ ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه، بَطُلَ ذلك الإحساس، وإذا فتح أجفانه والمُبْصَر مقابله، عاد ذلك الإحساس. والعلة هي التي إذا بَطُلَتْ بَطُلَ المعلول، وإذا عادت عاد المعلول. فالعلة إذن، التي تُحدث ذلك الشيء في البصر، هو المُبْصَر".
ثم يقدّم ابن الهيثم مزيدًا من الشرح والتحليل لنظريته في الإبصار، والتي تتفق تمامًا مع الرؤية العلمية الصحيحة والحديثة لكيفية الإبصار الآن. هذا وقد استعان ابن الهيثم بالجبر والمثلثات والهندسة بنوعيها في حل كثير من معضلات الضوء، ووضع كل ذلك في عبارات وصيَغ لا تعقيد فيها ولا إبهام. وبفضل تجاربه في انعكاسات الضوء من خلال وسط شفاف كالماء والهواء، ومن خلال أجسام كروية كالآنية الزجاجية، ودراسته للعلاقة المطّردة بين تكبير الأحجام والتقاء الضوء في المرايا المُحرِقة، فقد وصل -أو كاد- إلى اكتشاف نظرية العدسات المُكَبِّرة التي لم يكن ليفصله عنها سوى خطوة واحدة، والتي صُنعت بإيطاليا بعده بثلاثة قرون.
وقد اعتمد "روجر بيكون" وكل كتّاب البصريات في العصر الوسيط في الغرب على أعمال ابن الهيثم في البصريات، كما أثّرت أعماله أيضًا تأثيرًا واضحًا في ليوناردو دافنشي، وفي يوحنا كبلر. ولذلك تقول المستشرقة هونكة: "إن دراسات ابن الهيثم لنظرية انعكاس الضوء، والعدسات والمُعضلة المعروفة باسمه (مُعضلة ابن الهيثم)، وكذلك وصفه الدقيق للعين، كل ذلك جعل ابن الهيثم جديرًا أن يُقرَن اسمه باسم العالمين "روجر بيكون" و"وتيلو". وما تذهب إليه المستشرقة، يطابق الحقيقة؛ فإننا نجد في كتاب "المناظر" وصفًا للعين وإدراكًا للرؤية أدق كثيرًا، وأكثر تحديدًا من جميع من تقدموه. ونجد فحصًا لظاهرة الانكسار الجوي، ومحاولات لتفسير الرؤية المزدوجة (بالعينين)، وأول استعمال عُرِف للغرفة المظلمة.
بعض إنجازاته العلمية

كان ابن الهيثم -في كتابه "في طبيعة إلقاء الظل"- أول من أجرى تجارب بواسطة نوع من "آلة الثقب" التي هي -في الواقع- صورة أولى لآلة التصوير فيما بعد، والتي برهنت له تمدد أشعة الضوء بخط مستقيم. كما أنه لم يصدّق عينيه حين رأى صورة العالم مقلوبة رأسًا على عقب لدى انعكاسها -ولقد لجأ إلى نفس التجارب التي لجأ إليها فيما بعدُ ليوناردو دافنشي- واكتشف تعليلاً لكثافة مختلف الطبقات كالماء والهواء، واختلاف مدى انكسار الضوء في كل منها، ثم حسب -بالاستناد إلى ما سبق- علوّ الطبقة الهوائية المحيطة بالأرض وهي خمسة عشر كيلومترًا، وهكذا يكون خرج بنتيجة غاية في الدقة والصحة لم يسبق إليها أحد من قبل. ثم اهتم بتحليل ظهور الهلال، والغسق وقوس قزح، التي عجز عن شرحها علميًّا الفيلسوف أرسطو ذاته. وتوسع فيما بعد بأبحاثه فشمل اهتمامه الآلات البصرية. فدرس وحسب درجة الانعكاس في المرايا المستديرة والمرايا المُحرِقة بالدوائر (Kegels Chnittbrennspieigel)، وتوصل إلى معرفة قانون تأثير "العاكسات الضوئية" (Progecteurs). ثم حقق في تأثير التقاء الأشعة وتكبير الأحجام، ليس بواسطة المرآة المُحرقة فقط، بل "الزجاجة المُكبِّرة" (Lupe)، واخترع أيضًا أول نظارات للقراءة. ومن هنا تقول المستشرقة هونكة إنه "عندما قام يوهانس كبلر في ألمانيا خلال القرن السادس عشر، ببحث القوانين التي تمكَّن غاليليو (1564-1642م) بالاستناد إليها من رؤية نجوم مجهولة من خلال منظار كبير، كان ظل ابن الهيثم الكبير يجثم خلفه". وما تزال حتى يومنا هذا، المسألة الفيزيائية الرياضية الصعبة، التي حلها أبو الحسن بن الهيثم بواسطة معادلة من الدرجة الرابعة، مُبرهنًا بهذا عن تضلّعه البالغ من علم الجبر. نقول، ما تزال المسألة القائمة على حساب نقطة التقاء الصورة التي تعكسها المرآة المُحرقة بالدوائر على مسافة منها، ما تزال تسمى "بالمسألة الهيثمية"، نسبة إلى ابن الهيثم نفسه.
المصدر : مجلة حراء التركية